حين تغترب دراما رمضان عن الواقع العربي
أسماء الغول

في الوقت الذي أتاحت فيه التكنولوجيا متابعة مسلسلات شهر رمضان بعدة طرق، فنحتال على المواعيد المحددة للعرض، لنختار الحلقة ووقتا مناسبا لمشاهدتها بعيداً عن القنوات الفضائية، والصبر مدة طويلة على الإعلانات، نجد أن هذه الخيارات الجديدة ينقصها شيء واحد وهو لهفة المتابعة، بأن تشعر أنك ترغب في متابعة مسلسل، وتنتظر حلقاته بشوق.
فما فائدة تعدد وسائل المتابعة إذا كان لا يوجد مضمون لتتابعه؟!، إنه الإحباط بمجرد أن بدأت مسلسلات رمضان، فالمسلسلات التي كان رتمها بطيئاً وأحداثها قليلة وبدايتها تشبه نهايتها، لا تخرج في أغلبها عن مواضيع المخدرات والأكشن والبلطجة والألغاز والطمع.
كيف لأكثر من تسع مسلسلات أن يتشابه مضمونها إلى هذا الحد، ومنها ” حالة عشق، تحت السيطرة، حواري بوخارست، وش تاني، الكابوس، بعد البداية، ظرف أسود، لعبة إبليس، ذهاب وعودة”، وكانت هناك بعض الإضافات على المواضيع القديمة، إلا أنها تكررت بين المسلسلات، كأنه تم الاتفاق على تكرار التجديد أيضاً؛ التوائم، والشيزوفرينيا، واليهود.
ولم يكن هذا التكرار في المواضيع فقط، بل حتى في الشخصيات، فقد قدمها أصحابها بنفس رتمها القديم، فمثلاً الممثل أمير كرارة، ومُجايله عمرو يوسف منذ انتهاء مسلسلهما الشيق “طرف ثالث” قبل ثلاثة أعوام، وهما يقومان بعد انفصالهما، بالتمثيل في مسلسلات هي مجرد نسخ ضعيفة عنه، ولم يلاحظا حتى أن الناس ملّت من تسريحة شعرهما.
الثراء
لم تقدم مسلسلات رمضان هذا العام رؤية حقيقية عن وجع الشعوب العربية، بل تعاني من انفصال مرضي عن الواقع، ما يثير أسئلة حول أصل الأزمة؛ هل هي مشكلة كتابة، أم أنها تأثرت بشعبية المسلسلات التركية فأرادت أن تتشبّه بها؟
لا يوجد مسلسل عُرض في رمضان هذا العام لم تدر أحداثه وشخصياته في بيئة فخمة من الغنى الفاحش والبيوت الفارهة، ألا ينظر أحد صُناع هذه المسلسلات، حوله فيرى الفقراء والقتلى، وتراجع الشعوب العربية إلى أقصى خريفها؟!

كريم عبد العزيز الشاب الخلوق في مسلسل “وش تاني” يصبح غنيا، أمير كرارة في مسلسل “حواري بوخارست” الشاب الذي يرفض الفساد يصبح غنيا، يوسف الخال الشاب الموسيقي الحالم في مسلسل “تشيللو” يمتلك فجأة الملايين، وجميعهم أًصبحوا أغنياء بالفساد والقتل والصفقات المشبوهة.
اختصروا أحلام الشباب العربي بأنها تدور حول الغنى والجاه والسلطة، وقدموا مسلسلاتهم في قالب من الفخامة ورجال الأعمال الذين يمتلكون القانون، فيحلّون الأزمات بإشارة إصبع، ونسوا الشباب العربي الذي ينتحر كل يوم أو يُقتل بالمئات لأنه يبحث عن تغيير سياسي أو اجتماعي أو ذاتي حتى. يدغدون مشاعر المواطن العربي المسحوق الذي قد يكون يشاهد المسلسل من سكنه في أحد العشوائيات، أو منزل نصفه مهدم من قصف سواء في اليمن أو سوريا أو غزة، ليقدموا له الوهم المجاني والهروب من الواقع، والحلم المستحيل، والحياة التي هي على الشاشة فقط، حتى الممثل ذاته خارج مسلسله، لا يعيشها.
ألا يشعر هؤلاء بالخجل من ضخامة إنتاج مسلسلات لا تحمل لشعوبها سوى عالم كاذب وشخصيات غير موجودة في الواقع المرّ الذي يعايشونه يوميا، هل هو الجبن والخوف من الاقتراب من حقيقة مآل الوطن العربي..؟!
الممثلة نيللي كريم التي أبدعت في مسلسل “ذات” برمضان قبل عامين، مثلت دور مدمنة في مسلسل “تحت السيطرة” في رمضان الأخير، ولم يغفر إبداعها في التمثيل الذي رفع من المسلسل، ألا يقع في تكرار الموضوع، وملل المشاهد، وطولها، وتركيزها على طبقة واحدة في المجتمع، فقد نسي صانعو المسلسل أنه ليس ابن الذوات الذي يدمن فقط بحثاً عن العبث، بل أيضاً هي مَهرب الفقير، المظلوم، والمسحوق.
ويبدو أن نيللي كريم إما تغرقنا بالمآسي والأقدار الشنيعة التي تتراكم في شخص واحد كما في مسلسل “سجن النساء”، أو بطء الحدث وترف الإدمان، والأداء المبعثر للممثلين كما في مسلسلها “تحت السيطرة”.
الاقتباس

قد نجد أغاني تتر مؤثرة، وكوادر تصوير متنوعة وجميلة، وإبداعا في الإخراج، وديكورات متميزة، ولكن لا يوجد سيناريو واحد يلتصق بالعقل، أو عبارة تتمنى ألا تنساها، إنها مجموعة من القصص المقتبسة بشكل مخجل.
مسلسل “لعبة إبليس” للممثل يوسف الشريف الذي يشبه مظهره فيه شخصية جاك سبارو في قراصنة الكاريبي، مقتبس عن الفيلم العالمي “The Prestige”، ليقدمه منزوع عن الواقع، فالحياة ليست خُدع، ورجال أعمال يقولون للشيء كن فيكون، وناس طماعة.
وهو ذاته ما كان يجب أن يراه خالد نبوي، قبل أن يمثل دور رجل الأعمال في مسلسل ” مريم” والاعتماد على هيفاء وهبي من أجل نجاح مسلسله، والذي ذكرني في جانب منه بقصة فيلم “The bodyguard” للمغنية ويتني هيوستن والممثل كيفن كوستنر، وحكاية الأخت التي تحقد على شقيقتها وتخطط لقتلها.
يبدو أن المسلسلات اتفقت ضمنياً على ضحالة الشخصيات، وركاكة الاقتباس، وانعدام الأخلاق عند الفقراء، فهل يعرف نجوم دراما رمضان أنه قبل أربع سنوات فقط كان هناك ثوارت قادها فقراء وعُمال وشباب؟
إن ما قدّمه معظم فناني ومخرجي وكُتاب دراما رمضان هذا العام، يؤكد نظرية جهل الفنان بما حوله، وعدم تفاعله، واغترابه عن الحالة الثقافية والاجتماعية العامة، وهنا أتحدث عن دراما وطن عربي يصرف عليها ملايين لتقدم لنا ما هو بعيد عن نقد أنظمة عربية مستبدة هرست الربيع العربي.
ولم يزد هذه المسلسلات ثراءً درامياً أن جنسيات الممثلين تنوعت في المسلسل الواحد، وشارك من الوطن العربي ممثلات وممثلون؛ سوريون ولبنانيون ومصريون ومغاربة، لأن المضمون بقي خارج احترام عقل المشاهد وآلامه، ومشاهدته لا تعني سوى قضاء وقت الصيام فقط.
فقد اعتمدت هذه المسلسلات على الإبهار البصري بالإنتاج المادي الضخم لتغطية ثغرات الكتابة والأداء والفكرة، وغاب عنها الشخصيات ذات العمق التي من الممكن أن تحمل كل المسلسل كما فعل دوماً الممثل يحيى الفخراني.
ومن هذه المسلسات؛ مسلسل “تشيللو” الذي اقتبس قصة الفيلم الشهير الذي يمثل فيه؛ روبرت ريدفورد، وديمي مور “Indecent proposal”، فقد استهان لأقصى درجة بعقل المشاهد بقصة مبتورة، وإحالتها للواقع بشكل ساذج. فلا يوجد إبداع بفكرة واحدة استقلت عن الفيلم الأصلي، بل جميعها منسوخة عنه، وحتى طبيعة الأماكن خاصة في المشاهد الرئيسية، كمشهد النهاية في السيارة، ومشهد السفينة الذي تقضي به البطلة ليلة مع الرجل الغني “تيمور” الذي اشتراها من زوجها.
وبالطبع لأنه مسلسل يجب أن يتناسب مع الوطن العربي فهي تخلص لزوجها، ولا تقضي الليلة بصحبته، فالمشكلة هنا تصبح بالجسد وليست بالأخلاق التي سمحت لهم الاتفاق على هكذا صفقة.

مسلسل ركز على أن علاقات الحب خالية تماماً من العلاقات الجنسية، وأن أبطاله لم يتلقوا سوى قبلة على الخد، وفي ذات الوقت حبكته الدرامية تحكي قصة رجل باع زوجته من أجل المال، بهذا الفصام غير المنطقي تأتي علاقات الحب مشوهة وساذجة، وتلعب على ما يريح المشاهد العربي، وفي الوقت ذاته تثير فضوله.
إنه مرة أخرى تكرار شخصية رجل الأعمال الذي يأمر وينهي، فيقتل ويحصل على النساء ويغير مجرى القانون، سيناريو ضعيف وأداء أضعف.
كيف للممثل تيم حسن الذي هيمن علينا ببراعة في أحد الرمضانات بشخصية نزار قباني أن يقدم لنا هذا الأداء الساذج حتى لوكان وزنه نقص عشرين كيلوجراماً؟!، هل يحتاج إلى عرّافة تسليه، وامرأة يشتريها ليقول لنا رجعت بقوة ووسامة وسلطة إلى الشاشة؟
ولم تكن الموسيقى في المسلسل واحترافها في الدورين اللذين قدمهما يوسف الخال ونادين نجيم سواء افتعال ممل، لا يقل عن افتعال نهاية مأساوية لصديقهما زياد الفقير الذي قتل لينتقم من حبيبته، ثم يهرب من البلد.
اليهود
أما اللعب على ثيمة اليهود، كإضافة جديدة على المواضيع المتكررة القديمة، فليست المشكلة في عرض موضوع اليهود بالمسلسلات الرمضانية، فعلى الدوام كانوا مكوِّنا تاريخيا في الوطن العربي، والتشدُّد إزاء رفض تقديم اليهود سواء كانت صورتهم المقدمة إنسانية أم لا هي عنصرية غير واعية، كذلك تعمد تقديم ثيمة اليهود في مسلسلات رمضان لإثارة الجدل والسعي وراء شهرة هذه المسلسلات، هي عنصرية من نوع آخر.
كما أن الجدل الذي أثير حول هذه المسلسلات لن يغطي ضعف أداء الممثلين، فكيف للممثل إياد نصّار الذي كان أداؤه عبقريا في مسلسل “موجة حارة” والذي من الصعب أن يتكرر عمل بهذا الكمال مرة أخرى، أن يقدم دورا بركاكة ضابط الشرطة في مسلسل “حارة اليهود”، في تحسين لسمعة وزارة الداخلية، ناسياً كل ما فعلته بثوار مصر وما قبل الثورة.
فالممثل يتحول إلى أداة في يد شركات إنتاج لها أجنداتها، لتأتي بعد ذلك منة شلبي في أداء أقل براعة وفي مثالية غير منطقية، فهي زارت إسرائيل لأنه “انضحك عليها”، وبقسمات وجهها التي لا تتغير طوال المسلسل، فتشعر أن هذا أقصى ما يمكنها تقديمه، وأنك تريد ان تنفعل بدلا عنها كي تعطي المشهد ما يستحقه من حيوية.
المرأة
وأحياناً تتحول شركة الإنتاج إلى أداة في يد الممثل، كما فعلت المطربة شيرين عبد الوهاب، حين لعب دور مطربة في فترة الستينات في مسلسل “طريقي”، كأن وجود مسلسل يروي سيرة حياة مغنية يجب أن يقدم في كل رمضان لتكتمل خارطة الدراما الرمضانية.
“أنا أمثل” هذا ما تقوله شيرين في كل مشاهدها، فلا يوجد مشهد تكون فيه على طبيعتها سوى حين تغني، فهي مفتعلة ومترددة، ولا تصلح للتمثيل، ولا يختلف أدائها عن المستوى الذي أدت فيه بفيلم “ميدو مشاكل” مع أحمد حلمي، فالتمثيل ليس لعبتها على الإطلاق.
ومن الواضح أن المسلسل مفصل لها كي تكون البطلة المثالية، لتنضم إلى قائمة الضحالة والاستعراض المبالغ فيه، من أداء ممثلات بقين بنفس الدرجة، وعلى نفس المنوال طوال حلقات المسلسل؛ سواء اندهاشة منة شلبي المستمرة، أو ملامح مي عز الدين “المغلوب على أمرها”، أو كارثية وجه غادة عبد الرازق حين يموت ابنها، والصراخ والعويل المفتعل، فننسى جميعنا وسط ضوضاء عبد الرازق التي حفظها المُشاهد، حساسية وعبقرية أداء الممثلة منى زكي في مشهد من مسلسل “آسيا” في أحد الرمضانات، حين استقيظت من حالة النكران لتتذكر فجأة غرق ابنها.
وهنا أستطيع القول أن إياد نصار وباسل خياط وتيم حسن وخالد نبوي لهم كل الاحترام، بظهورهم كملاحق لنساء بطلات، ولكنهم لم يرفعوا من أدائهن بل جاء السقوط للجميع مدوياً، مع أهمية الاشارة إلى أن تمثيل هيفاء وهبي أفضل بكثير من غنائها.
وتجدر الإشارة أن هذا المقال يستثني منه مسلسلات أعطت بعداً آخر لرمضان، فهي تغني في جوقة مختلفة تماماً، كمسلسل “العهد” وهو أيقونة اجتمع فيها المخرج خالد مرعي، والكاتب محمد أمين راضي، والموسيقار هشام نزيه. ومسلسل “سيلفي” للممثل السعودي ناصر القصبي، الذي جاء جريئاً ومجدداً، ويذكرنا بمسلسل “كابول” الذي منع من العرض في رمضان قبل عدة سنوات بسبب تهديدات من حركة طالبان، وأعتقد أنه حان الوقت لمشاهدته، إضافة إلى مسلسل “أستاذ ورئيس قسم” للممثل عادل إمام الذي لامس الواقع، ولكن لا متسع هنا إلى استعراضه ونقده، كما لا متسع لاستعراض الدراما السورية.