نور الشريف .. خلود الفن

د. أمــل الجمل

ورحل محمد جابر أشهر سواق أتوبيس في مصر والوطن العربي، رحل ظهر الثلاثاء 11 أغسطس 2015 وهو في التاسعة والستين من العمر بعد أن خلّد اسمه للأبد بأعمال تنوعت بين السينما والتلفزيون والمسرح، بين التمثيل والإنتاج والإخراج.

في السينما قدم علامات في تاريخ السينما المصرية: «زوجتي والكلب»، «مع سبق الإصرار»، «الكرنك»، «دائرة الانتقام»، «قطة على نار»، «ضربة شمس»، «أهل القمة»، «حدوتة مصرية»، «زمن حاتم زهران», «سواق الأتوبيس»، «المصير»، وغيرها .. حتى بلغ رصيده السينمائي حوالى 179 فيلماً.

كانت حياة نور الفنية تسير وفق مسار دقيق. مع ذلك وقع في كثير من الأخطاء. لم يكن يخجل من الاعتراف بأخطائه، فنجح أحياناً في تحويلها إلى نجاحات. وظل فناناً مغامراً يهوى الاكتشاف، فقدم عدداً من أهم المخرجين في تاريخ السينما المصرية مثل سمير سيف وعاطف الطيب ومحمد النجار ومحمد خان، ومن الكتاب عبدالرحمن محسن في “زمن حاتم زهران”، مثلما اكتشف عدداً من الوجوه الشابة في التمثيل وساندها.

بدأ نور الشريف مشواره السينمائي بدور في فيلم «قصر الشوق» لحسن الإمام. بعده شارك نور في سبعة أعمال فنية متتالية قبل أن يقوم بالدور الرئيسي في فيلم «السراب» الذي اعترف النقاد من خلاله فقط، بموهبته كممثل، لذلك كان يعتبره بدايته الحقيقية، كما يعتبر دوره في فيلم «مع سبق الإصرار» خطوة مهمة في مشواره السينمائي، خطوة شجعت أبناء جيله على كسر الصورة التقليدية للنجم صاحب الشعر اللامع الذي يرتدي الملابس الجديدة الراقية حتى لو كان يلعب دور «زبال» أو «خادم». جسّد نور في ذلك الفيلم شخصية «مصيلحي» رجل التربية والتعليم الذي اكتشف خيانة زوجته، واكتشف أن ابنته ليست من صُلبه، إنها الدليل الوحيد على عجزه. فبدأ رحلة البحث عن والد الطفلة بين أصدقائه القدامى. في معظم مشاهد الفيلم يظهر «مصيلحي» في هيئة رثة، له ذقن غير حليق، ويُعاني من حالة عصبية واضحة في العينين. قدم «نور» الشخصية بجرأة ربما لم يسبقه إليها إلا يوسف شاهين في فيلم «باب الحديد».

أدرك الشريف منذ بداياته الأولى أن الفنان لا يكفيه أن يكون ممثلاً جيداً، لأنه عندئذ يسهل اصطياده في أفلام تجارية، فيتم استهلاكه واستنفاد طاقاته، ثم يبحثون عن ممثل آخر جديد. قرر نور تفادي هذه الآلية بالدراسة المستمرة، بالعمل الدؤوب، وبالثقافة المتنوعة فأصبح حريصاً على زيادة متابعاته اليومية للأحداث العالمية، على السفر إلى المهرجانات الدولية وعلى متابعة تجارب الآخرين، على الاستمرار في القراءة اليومية من السابعة إلى التاسعة صباحاً. يقرأ بكثافة وتنوع. يقرأ في الدين، في التاريخ، والأدب، والشعر، والمسرح، والفلسفة، وعلم النفس، والطب. في أحيان كثيرة يتحدث عن تفاصيل الجسم البشري كأنه طبيب تشريح. مثلما لم يكتف نور بالتلقي السلبي لما يقرأ، فهو قارئ إيجابي، يضع الخطوط دائماً أسفل الكلمات وحولها. الهوامش عنده زاخرة بالأفكار والتعليقات والملاحظات. عندما يبدأ الإعداد لعمل تاريخي أو اجتماعي يظل يبحث في المراجع، يجمع المعلومات من كل كتاب، وكل مجلة، وكل جريدة.

كان يفعل ذلك لأنه أدرك أيضاً أن كتابة السيناريو في السينما المصرية مسؤولة، بدرجة كبيرة، عن وقوع كثير من الأجيال في فخ الأدوار النمطية، فالممثل مهما كان موهوباً لا بد من أن يصل معها إلى أداء نمطي تكراري. لذلك بدأ يبني لنفسه مخزوناً ثقافياً ومعرفياً وإنسانياً. لم يكتف بأن يختزن في عقله ملامح الشخصيات التي يُقابلها لكنه رسمها بقلمه في كراسات كثيرة أصبح يعود إليها بين الحين والآخر. وجميع أعماله بلا استثناء شارك فيها بأفكاره وباقتراحاته. كان لا يكتفي بالعمل تحت قيادة المخرج ولكنه كان يرى الفيلم عملا جماعيا لابد من تكاتف الفريق بأكمله لإنجاحه. لذلك في جميع أعماله كان يعشق المشاركة في جلسات العمل على السيناريو، على الحبكة والشخصيات، وقد يهتم برسم ملامح دور ممثل آخر مثلما فعل مع شخصية الخليفة المنصور في فيلم “المصير”.

كان نور ينتصر للممثل الأكاديمي المحترف. ولا يقبل بفكرة بعض المخرجين، ومنهم «شاهين»، أن الممثل مجرد قطعة إكسسوار، إلا في أضيق الحدود. الممثل في رأيه كائن متكامل غير قابل للتجزئة، لا بد له من أن يقرأ « الديكوباج»  ، أن يفهم في المونتاج وفي الإخراج. لذلك أصبح «نور» حريصاً على الاهتمام بكل تفاصيل العمل الفني، من سيناريو وإخراج، من موسيقى وديكور وإكسسوار وملابس. كان يُؤكد على ضرورة أن يعرف الممثل نوع الموسيقى التصويرية المناسبة للفيلم. هل هي موسيقى تعتمد على اللحن أم على الإيقاع لأن ذلك من وجهة نظره يُؤثر في أداء الممثل مثلما فعل في فيلمه “البحث عن سيد مرزوق”. لذلك في أعماله الفنية كثيراً ما يحدد بنفسه طبيعة الموسيقى التي يريدها ونوع الآلات المستخدمة في العزف.

ظل طوال حياته فنان ملتزم، محب للجمال، مؤمن بالقضايا العامة، يقف في صف الفقراء والمطحونين. وعلـــى مدار تاريخــــه الفني تميز نور الشريف بـــروح المغامرة في فنون الأداء، وطرح الأفكار واكتشاف مناطق شائكة، بالجرأة في خوض تجارب جديدة في مجال الإنتــــاج بســـخاء، لم يستسلم لعدم نجاح بعـــضها. قاوم، وخاض التجربة من جديد.

انتقل بين عـــوالم وأبطال نجيب محفوظ، من كمال عبــــدالجواد في «السكرية» و«قصر الشوق»، إلى جعـــفر في «قـــلب الليل»، إلــــى «كامل رؤبة لاظ» فــي «السراب» إلى الفـــلاح في «يا رب توبة»، والمثقف الشاب المهزوم في «الكرنك»، ومــــفتش المباحث في «سونيا والمجنــــون»، والزوج «مصيلحي» المعقد المملوء بالانفعالات النفسية فـــي« مع سبق الإصرار». أفلامه السياسية كثيرة منــها «البحث عن سيد مرزوق»، وشخصية النشــال في «أهل القمة»، والانتهازي في «زمن حاتم زهران»، والمعتقل السياسي الهارب في الرائعة «الزمار». شـــارك نور الشريف بقوة في تيار الـــواقعية الجديدة التي أُرّخ لها في الثمانينات بـ «سواق الأتوبيس». مثلـــما خاض تجارب الأكشن في «دائرة الانتقام» و«ضربة شمس». في الوقت نفسه قدم الرومانسية – «حبيبي دائماً» – والأفــلام الخفيفة والكوميدية كـ «البعض يذهـــب للمأذون مرتين»، والتقى يوسف شاهين في «حدوتة مصرية» و «المصير».

ثقافته النوعية العميقة، وقراءاته الغزيرة في كـــل جوانب الأدب والفكر والفلسفة، ومتابعته لما يحدث في مصر وعلى الساحة العالمية، إلى جانب مخزونه العامر بملاحظاته اليومية للحياة وللبشر ساعدته على الانتقال من شخصية إلى أخرى – على رغم تباين تكويناتها النفسية والاجتماعية – من دون أن تطغى شخصيته الحقيقية على الشخصيات التي يُؤديها.

وعندما كان يُسأل عن هذا التنوع في الأداء والتجارب يُفسرها بأن «صناعة النجم تسير في اتجاه واحد، أن يكون النجم رمزاً لشيء واحد فقط، أما التنوع في الأداء فيؤخر نجاح الفنان إلا إذا كان محظوظاً ونجح في البداية في أكثر من عمل يحقق لك علامة تجارية.. وهنا كان يستعيد الحكي عن تجاربه بقوله: “كان «دائرة الانتقام» أول فيلم مـــن إنتاجي – أخرجه سمير سيف – وكسّر الدنيـــا في الإيرادات، عندما فكرت في التجربة الثانـــية في الإنتاج سألـــوني: أكشن؟ قلت: لا. وخسرت. كان فيلم «قطة على نار» ورابطة صـــــانعي الأحذية شتمونا بسبب جملة تقولها بوسي من حوار هاني مطاوع. على رغم الفشل أنتــــجت بعدها فيلم «حبيبي دائماً»، ثم جــــاءتني نادية شكري بسيناريو «ضربة شمس» وقلت سأنتجــــه والفيلم كسّر الدنيا، وأعدت من خلاله ليلى فوزي بعد غيابها الطويل، لكن لا أنســــى أن المــــوزع عندما شاهد الفيلم كاد يُصاب بأزمة قلـــبية لأنه فيلم شبه صامت والحوار فيه قليــــل جداً، ولن يذاع في الراديو. فعلى الممثل الذكي أن يكون حريصاً واعياً لما يساعده على النجاح في البداية، ثم يُجرب”.


إعلان