تحوّلات التليفزيون الأمريكي

إسلام السّقا

True Detective

يشترك كل من السينما والتلفاز في العديد من المهن التي تكوّن في النهاية شكل كل منهما، ومع ذلك تُطرح دوماً التساؤلات عن ما إذا كان من الصحيح اعتبار المسلسل التلفزيوني فنّاً أم لا. إن أهم المهن في عالم التلفاز هي الكتابة، وهذا واحد من الاختلافات الرئيسية بين دراما التلفزيون ودراما الفيلم الذي يعتمد شكله النهائي على رؤية مخرجه لا كاتبه.

التنوّع الذي يحظى به التلفاز يجعل من الصعب تعميم كلمة “فن” على كل ما يخصّ التلفزيون، إذ أنه لا يبدو أن كل ما فيه يعبّر عن شكل فنّي واضح بالضرورة، إلا أننا نشهد تحولاته الجديدة والتي ستلقي بظلالها على شكل الفنون وتعريفها خصوصاً مع ملاحظة ما أصبح عليه التلفزيون في السنوات الأخيرة التي شهدت اقترابه الكبير من نمط الرواية في مناسبات عديدة. عند الحديث عن صناعة التلفاز على أنها فن  تحدّث “آلان سيبنوال” في دراسته المطوّلة لحوالي 12 مسلسلاً أميريكياً بعنوان “الثورة المتلفزة” عن تلك الزاوية الصغيرة في عالم التلفاز والتي تحوّلت مع الزمن ليس فقط إلى فن، بل إلى فن رفيع يتم تنظيم المهرجانات للاحتفاء بأبطاله ومبدعيه.

سينما في التلفاز

يبرهن المسلسل التلفزيوني دوماً أنه أكثر قدرة على التعامل مع دواخل الشخصيات والتعمّق في مكنوناتها عبر حلقاته المتتابعة بطريقة قد لا يستطيع “الفيلم” أن يصنعها. يمنحنا التلفاز شخصيات قويّة ومعقّدة قادرة على ربطنا جميعاً بها لنخوض نقاشات مطوّلة حولها ونتبادل الآراء تجاه أفعالها مثل شخصية “توني سوبرانو” الشهيرة، والتي بفضل الكتابة المتفوقة والتمثيل المتقن فيها أصبح لدينا عملاً يمكن أن نقول أنه فنّ بامتياز، وهذا مثال واحد لا يلغي حقيقة أن الكثير من التفاهات تُعرض على التلفاز تحت نفس المسمى وباستخدام نفس المُدخلات، ولهذا فإن التلفاز قد استغرق وقتاً أطول من أجل إظهار قدراته الحقيقية، بينما نعيش تحولاته الأكبر هذه الفترة تحديداً. وُلد الفن، بعد كل شيء، من أجل إخبار قصّة بطريقة خّلاقة، واليوم حتى أصغر المسلسلات أصبح قادرا على فعل ذلك.

يتحدّث منتجو مسلسل “محقق فذّ “True Detective عن مرحلة جديدة رسمها المسلسل فيما يخصّ التحولات المختلفة في عالم التلفزيون: شيء من صناعة السينما داخل صناعة التلفاز، وهو ما تعبّر عنه الخلفية السينمائية للمخرج وفريق الإنتاج، والحرية الكبيرة التي تمتّع بها كاتب المسلسل “نيك بيزولاتو”. ففي عالم البرامج والمسلسلات التلفزيونية يبقى المخرج تابعاً لكل من الكاتب والمُنتج في العمل الذي ينوي إخراجه، بينما يحدث العكس في السينما حيث يقود المخرج الفيلم من كافة اتجاهاته من أجل عرضه بصورته النهائية والتي تعبّر بصورة أساسية عن رؤية المخرج نفسه.

Westworld

نجاح هذا الاختراق السينمائي لعالم التلفاز قد بدأ بالتوسّع راسماً حقبة جديدة من صناعة البرامج والعروض التلفزيونية. بعض المسلسلات الدرامية قامت بتسليم دفتها إلى المخرجين، باعتبارها طريقة سينمائية خالصة في التعامل مع المنتج المرئي، مثل Breaking Bad وThe Sopranos. هذا ما يجعل قيام حرب جديدة، رغم أنها لم تقف يوماً، بين السينما والتلفزيون أمراً لا بدّ منه. تلك الحرب التي بدأت في أربعينيات القرن الماضي والتي كانت سبباً في انتهاء عصر الاستديوهات في هوليوود.إن التسليم بالطريقة السينمائية لإنتاج مسلسلات تلفزيونية سيجلب المزيد من المخرجين الكبار إلى عالم التلفاز أخيراً، بعد أن اختفى ما كان يُعرقل هذه الانتقالة، وأصبّح مرحبّا بوجود رموز السينما لقيادة وإخراج المسلسلات التي كانت محرّمة عليهم فيما سبق.

تقوم شبكة HBO بتحضير عدد من الأعمال التلفزيونية الجديدة والتي ستكون التحول الأهم في عالم التلفاز للسنوات القادمة. يقوم “جونثان نولان”، وهو الأخ الاصغر للمخرج المثير للجدل “كرستوفر نولان” وشريكه في كتابة سيناريوهات بعض الأفلام، بتقديم مسلسل بعنوان Westworld ومن المقرر عرضه العام المقبل عبر شبكة HBO. أمّا المخرج الأمريكي “مارتن سكورسيزي” والكاتب “تيري وينتر” فيعملان الآن على مسلسل خاص بهما من المقرر عرضه نهاية عام 2015، يوازي ذلك مسلسل Utopia للمخرج ديفيد فينشر الذي سبق له وأن قام بإخراج حلقتين من مسلسل House of Cards. وقد سبق أن رأينا تحويل فيلم Fargo من قبل الأخوين كوين إلى مسلسل تلفزيوني قصير حصد جوائز هذه الفئة العام الماضي. وقام جييرو ديل تورو، مخرج فيلم “متاهة بان”، بصنع مسلسل بعنوان The Strain، بالإضافة للعديد من الأسماء مثل اوليفر ستون، وروبرت ريدفود وستيفن سودربرغ وجوس فان سانت وآخرين قاموا مؤخراً بالاندماج مع عالم التلفاز، هذه المرة على طريقتهم الخاصّة.

تلفزيون الإنترنت
في عام 1956 قدّم “روبرت أدلر” أول جهاز تحكّم بالتلفاز عن بُعد، وهو ما أتاح إمكانية التنقّل بين المحطات المختلفة دون الحاجة لمغادرة الكرسي الذي تجلس عليه، والذي سبّب زيادة كبيرة في شعبيّة جهاز التلفاز خصوصاً مع تحوّل غالبية البرامج التلفزيونية لبثّ حلقاتها بالألوان الكاملة في منتصف الستينيات، ومع نهاية ذلك العقد كان أكثر من 600 مليون شخص حول العالم يشاهدون هبوط “نيل آرمسترونج” على سطح القمر على الهواء مباشرة، ليدخل بعدها جهاز التلفاز إلى الحيّز الضيّق لكل عائلة في العالم لتتحول “مشاهدة التلفاز” إلى أحد أكثر النشاطات التي يمارسها الإنسان.

House Of Cards

بأكثر من 4 مليون مشترك بخدمة تأجير الأفلام وحجزها عبر الإنترنت في العام 2005 كان رييد هاستنغز، مؤسس شبكة نتفلكس الأمريكية، يستأجر منزلاً قرب مدينة روما الإيطالية مع زوجته، بينما ينتقل إلى مكتبه في “وادي السيليكون” لمدة أسبوعين بعد كل شهر. كان هاستنغز يكتب التاريخ الجديد للتلفزيون عن دراية مسبقة كما يبدو، حيث بدأ بعدها بعامين في بثّ عروض الأفلام عبر الإنترنت مباشرة، وفي يناير 2014 كان عدد المشتركين في خدمة نتفلكس يصل إلى 31 مليون مستخدم داخل الولايات المتحدة، متجاوزة بذلك منافسها الأوّل، شبكة HBO، بأكثر من ثلاثة ملايين مشترك. تأخذ المنافسة هنا صيغة جديدة في عالم التلفاز، فالمواجهة الآن بين شبكة تلفزيونية تبث عبر الكابل وإن كانت لا تُصنّف مع شبكات الكابل الأمريكية، فهي شبكة يضطر من يريد متابعتها أن يشتري وجودها على لاقطه، بينما الجهة الأخرى فهي تستهدف الحاسب الشخصي للزبون. أعلنت نتفلكس في يوليو 2015 بأن عدد مستخدميها في جميع أنحاء العالم وصل إلى 65 مليون ونصف، منهم 42 مليوناً داخل الولايات المتحدة. تُعرّف الشبكة نفسها الآن على موقع يوتيوب المُنافس بأنّها الشبكة الرائدة لتلفزيون الإنترنت في العالم. قد يبدو هذا التعريف غير دقيق إذا ما اعتبرنا انتشار الشبكة خارج الولايات المتحدة مازال في بدايته بينما يُعتبر سوقها في الولايات المتحدة قد وصل إلى حد النُضج الذي يُشير إلى مرحلة من الثبات هناك. هذه المرحلة التي لن تدوم طويلاً دون اهتزازات قد يُسبِّبها دخول شبكات أخرى لمجال المنافسة المُباشرة خصوصاً بعد إعلان العديد منها نيتها بطرح خدمة تلفزيون الإنترنت قريباً.

 إن صعود نتفلكس بهذه السرعة، ودخولها في مجال الإنتاج التلفزيوني الضخم مؤخراً، له العديد من الأسباب، من ضمنه ضجر المُشاهد من البث التلفزيوني الذي يُقابل كل ساعة فيه أكثر من 20 دقيقة من الإعلانات والترويجات لبرامج الأُخرى، أما الآن فإن الزبائن يشعرون بالرضى بدفعهم ثمانية دولارات شهرياً مقابل مشاهدتهم لأفلام ومسلسلات وبرامج من اختيارهم دون أن يُقاطعهم اي إعلان ودون التزامهم بمواعيد عرض معيّنة، وبذلك يشعر المُشاهد بأنه يتحكّم بما يريد أن يتابعه، وبالطريقة والوقت اللذان يلزمانه لفعل ذلك. إن الطريق التي سلكتها شبكة نتفلكس توّجت بالانتصارات، والتي كان آخرها حصول مسلسل House of Cards على ثلاث جوائز “إيمي”، وهو مسلسل عُرض حصرياً على الشبكة في مواسمه الثلاث، ليكون بذلك أوّل مسلسل غير تقليدي يحصل على هذه الجائزة المهمة في عالم التلفاز.

كانت تجربة نتفلكس كشبكة لعرض البرامج والمسلسلات التلفزيونية عبر الإنترنت خصوصاً، أتاحت لمزيد من الشركات بالانتشار تحت نفس الشعار. إن ما تشكله هذه التجربة الجديدة بالنسبة لشبكات التلفزيون الأمريكية هو ما عنته تلك الشبكات نفسها للقنوات الفضائية المجانية وقت ظهورها.


إعلان