“آيمي”: الأسطورة التي لم تعرف نفسها

رشا حسني

تبدأ أحداث الفيلم الوثائقي “آيمي – Amy” 2015 من إخراج البريطاني الهندي الأصل “أصيف كاباديا” بمجموعة مشاهد لآيمي واينهاوس أثناء احتفالها بعيد ميلاد صديقتها “لورين جيبلرت”، ثم تُعلِّق بعدها بأنها أحبّت الغناء ولكنها لم تكن تعرف أبداً أن حبها للغناء سيجعلها مغنية.

هذا هو بالضبط مفتاح شخصية آيمي واينهاوس، أنها لم تكن تعرف بالضبط قيمتها الفنية ومدي حجم الموهبة التي حباها الله إياها، ولم تبذل الكثير من المجهود كي تتعرّف علي نفسها وحجم موهبتها وربما لم يساعدها من كان لابد لهم أن يساعدوها علي ذلك، وهو ما أودي بها إلي نهايتها التي حتمتّها هي علي نفسها بأن تلقي حتفها نتيجة تسمم كحولي جراء تجرّعها لزجاجتين فودكا عشية وفاتها.

اعتقدتْ أنها فقط فتاة محظوظة، ولكنها لم تعتقد أن ذلك الحظ سيجعل من الغناء مهنةً لها، لذلك كانت تتعامل مع نفسها وكل من يحيطون بها من هذا المنطلق، بل إنها أحياناً ومع بداية شهرتها وسطوع نجمها كانت تندهش من رغبات المعجبين بها في التقاط الصور معها ورغبتهم في الحديث معها.

تنتمي “آيمي” لجيل الديجيتال الذي يوثِّق أحداث حياته عن طريق الكاميرا أو التسجيل الصوتي، سواء أحداث هامة واحتفالات أو حتي أحداث الحياة اليومية ومُحادثات الأصدقاء الخاصة جداً، وهو الأرشيف الذي اعتمد عليه كاباديا في طريقة سرده لأحداث فيلمه، فلم يبنِ كاباديا الفيلم علي طريقة سرد تقليدية ولكنه تخيّر لحكيه طريقة سرد متداخلة متشابكة، مترابطة أحياناً منفلتة أحياناً، تماماً كحياة آيمي نفسها وطريقة عيشها. تبني كابديا تلك الطريقة السردية رغبة منه في إظهار الجوانب الأخرى لشخصية تلك المطربة الأسطورة وليس ��قط وجه الفتاة المراهقة مدمنة المخدرات والكحول.ت

تعاملت آيمي مع الشهرة كما تعاملت مع أي شيء اعتيادي في حياتها فلم تتكلف لا في تصرفاتها ولا في أغانيها، ولكنها تعاملت مع أغانيها بمنطق شديد الخصوصية ربما هو ما حقّق لها ذلك التواصل مع جمهورها في جميع أنحاء العالم، وهو أنها لابد أن تكتب عما بداخلها، عما تشعر به، عما تمرّ به هي شخصياً حتي يصل إحساسها ومعاناتها وفرحها بطريقة صادقة وطبيعية لمن يستمعون لأغنياتها، وهو ما وضح جلياً من خلال ألبومها الثاني”Back to Black” وأغنيتها التي نالت عنها جائزة الجرامي 2008 “Rehab” أو إعادة تأهيل والتي كانت تتحدث فيها عن معاناتها خلال فترة إعادة تأهيلها بعد تعاطيها الكوكايين والهيرويين.

في حوار تلفزيوني لآيمي في بداية ذيوع صيتها الغنائي سألها المحاور “يبدو أنك لا تهتمين بشيء ولست كالفنانين الذين يشعرون بأن لديهم مسؤوليات” فأجابته “نعم أنا لا أهتم بشيء سوي الموسيقي، لا أهتم بأن أحتلّ الصدارة أو المراكز الأولي، كل ما أهتم به هو أن أعمل مع من أودّ أن أعمل معه وأن أذهب إلي الاستديو عندما أريد ذلك، فقط اتركوني أكتب الكلمات وأغنّيها”، فقد كان الغناء يُمثِّل لها اللحظات التي تشعر فيها بنفسها، بتواجدها، بتجسدّها من خلال تلك الكلمات التي كتبتها هي بنفسها عما مرّت به وعايشته وعانته أيضاً.

كان إحساسها وإيمانها بأن الحياة قصيرة دافعاً قوياً خلف رغبتها في إلقاء نفسها في أحضان التجربة غير عابئة بنوع التجربة أو تبعاتها. خليط عدم الثقة بالنفس وحاجتها للرعاية والاحتضان والتي لازمتها منذ سن التاسعة، خاصة بعد انفصال والدها ووالدتها ورغبتها في التجربة، كلها عوامل جعلتها ترتمي بين أحضان “بلايك فيلدر” الذي تشابه معها في نفس ظروف النشأة والتفكك الأسري والذي تزوجته لمدة عامين تكفلا بتقويض مشوار موهبة استثنائية، بلايك هو من جلب لها المخدرات وهو من دفعها لتناولها ثم انتهي به الأمر في السجن بتهمة تضليل العدالة، وتركها بالفعل ولكن بعد أن انزلقت آيمي إلى الضياع.

لازم واينهاوس إحساسها بعدم الثقة في نفسها في كل مراحل حياتها، فتظهر في بداية الفيلم مع صديقها المقرب “نيك شيمانسكي” أثناء لعبهما البلياردو وهي تسأله “هل أبدو جيدة؟!” وتطلب منه ألا يقترب بالكاميرا من وجهها كي لا يُظهر عيوبها، حتى يصل بها الحال وهي تقف بجوار الأسطورة الغنائية والذي كانت تعتبره مثلها الأعلى ” توني بينيت” فتتلعثم وتعيد كلمات الأغنية أكثر من مرة وهي تقول له “أنا لا أستحق أنا أقف بجوارك وأن أغني معك” فيدعمها بكلماته الرقيقة المُقدِّرة لحجم موهبتها فعلياً مُحاولاً إعطاءها دفعة للثقة بنفسها ويعيد معها الكلمات حتي ينتهي تسجيل الأغنية علي نحو رائع من الاثنين معاً.

يبدو انحياز “كاباديا” في تعامله مع الأسباب التي أوصلت “آيمي وينهاوس” إلي ما آلت إليه جلياً في الفيلم وإن حاول تضمين هذا الانحياز داخل أحداث الفيلم وتدعيمها بنوع من منطقية سير الأحداث. عرض كاباديا بعض الأسباب التي ربما يُجمع عليها كثيرون، منها والدتها التي أهملت علاجها بعد أن علمت بحقيقة إصابتها بمرض فقدان الشهية أو “البوليميا” الذي أثرّ كثيراً علي حياتها ولازمها حتي وفاتها، ثم الأب الذي تواجد مع آيمي أثناء فترة تعافيها من إدمان الكحول بجزيرة سانت لويس، والذي جاء بصحبة الكاميرات لتصوير برنامج بعنوان “ابنتي آيمي” لعرضه علي بعض محطات تلفزيون الواقع في إيماءة بأن الأب لم يكن عابئاً بما تمرّ به ابنته قدر ما كان يعبأ بمدى المكاسب التي سوف يجنيها من ورائها، وربما تبنّى كاباديا وجهة نظر آيمي نفسها والتي عرضها في بداية الفيلم حينما ذكرت أن والدها لم يكن حاضرا معها في طفولتها وحينما كانت تحتاج إليه، ولم يعاصرها في مراحل حياتها، ثم ظهر فجأة عند بداية ذيوع صيتها الغنائي.

اعتمد “كاباديا” أثناء سرده لأحداث الفيلم علي كلمات أغنيات آيمي والتي قامت بكتابتها لتقول بها الكثير عن نفسها والذي لا يستطيع غيرها قوله عنها، فنجدها تتحرك أمامنا علي الشاشة بصحبة صور فوتوغرافية لآيمي معظم الأوقات، وهذا اختصر الكثير من الكلام المكرر أثناء الحوارات التي أجراها مع المقرّبين من آيمي أو الذي قيل عنها من وسائل الإعلام، حتي أنه لم يُظهر وجوه أصدقائها ومديريها أثناء الحديث عنها، فهو كما المشاهد،لا يهتم بأشكالهم وهيئاتهم الآن ولا بمدي تأثرّهم أثناء حكيهم عن آيمي، ولكن كل ما كان يهتم به ويريد المشاهد أن يهتم به أيضاً هو ماذا يقول هؤلاء عن آيمي، هي من كانت تحت الأضواء أثناء حياتها وهي التي يجب أن تظلّ كذلك بعد وفاتها، ولكن من خلال وجهات نظر أخرى وليست وجهات النظر التقليدية.

تتلخص حياة “آيمي واينهاوس” في الفارق بين صورها الفوتوغرافية التي التُقطت لها وهي طفلة ثم في بداية حياتها ومشوارها الفني وصورها الأخيرة قبل وفاتها بشهور، في الأولي كانت تتحلّى بتلك النظرة الآملة في المستقبل بأن يأتي أفضل، فكانت تحدق بعينيها الصادقتين المعبرتين إلي عدسة الكاميرا مباشرة بكل تلقائية وحميمية، أما الأخيرة فقد كانت تتحاشي فيها التصوير وعدسات الكاميرا وليس فقط عدسات الباباراتزي ولكن كل أنواع التصوير، حتي يمكن أن نلاحظ محدودية الأرشيف المرئي الخاص بها في آخر فترات حياتها بعد ما ابتعد عنها أصدقاؤها القدامى المخلصون بعد شعورهم بالعجز تجاهها وتجاه ما يحدث لها وعدم قدرتهم علي منعها من تدمير نفسها .

“يمكن أن أصاب بالجنون إذا أصبحت مشهورة” هكذا قالت آيمي واينهاوس في بداية مشوارها، ربما كانت تُحدِّث نفسها أمام عدسات الكاميرا، فهذا بالفعل ما حدث لها بهد أن أصبحت مشهورة، فهي كانت تعرف مدي هشاشتها من الداخل تجاه التعرُّض للأضواء والشهرة، وليتها كانت تعرف كيف تتعامل مع ذلك، فربما لو فعلت ما فقد العالم تلك الموهبة الفذة وذلك الصوت الرائع الصادق.


إعلان