الأخضر – ربما – يُزهر مُجدّدا

آية عبدالحكيم

لقطة من فيلم “الأخضر يزهر مجددًا”

بعد عددٍ من التجارب في إخراج الأفلام الوثائقية، خطا المخرج الإيطالي (إرمانو أولمي) إلى السينما. خطوة واثقة وهادئة تحمل صدق الوثائقيات وبساطة نقلها للحقائق، وتحمل خفة السينما وعاطفيتها وعمق أبطالها.
لم يحدث هذا بالأمس، لكن الفيلم الذي تم إنتاجه وعرضه للمرة الأولى عام 1961 لازال يشهد إعادة عرضه كل فترة في مكانٍ مختلف، ولازال ينال استحسان مشاهديه وتعلّقهم الغامض به وببطله.

في فيلمه الأول (Il Posto – المكان) تتجلى ملامح الواقعية الجديدة الإيطالية في أوجّ صورها. ممثلون جُدد على الشاشة، قصة بسيطة لا تخلو من بعض التعقيدات، مواقع تصوير طبيعية وكاميرات تجول بشوارع ميلان دون كلل، والأهم، النظرة التي يلقيها على حياة الطبقة العاملة الإيطالية ببساطتها وتعقيداتها في آنٍ واحد.
كان هذا ما اعتاده المخرجون بعد انهيار استوديوهات إيطاليا العتيدة التي ساهمت في تمويلها حكومة (موسوليني) نفسها، واضطرّوا لتقليل نفقات الإنتاج إلى حدّها الأدنى، فخرجوا للشوارع واختاروا قصصًا بسيطة، ووجوهًا مريحة يسهل التآلف معها.

(دومينيكو) لم يبلغ من العمر العشرين بعد. شاب صغير السن تضطرّه الظروف أن يسافر من بلدته الصغيرة للتقدُّم إلى وظيفة حكومية في ميلان. نقابله من أول يومٍ يبحث فيه عن معطف ثقيل يليق بالطقس البارد، وبالوظيفة. نمرّ معه باختبارات التقدُّم للعمل، وربما نشعر بارتجافة قلبه إذ تقع عيناه على فتاةٍ تتقدم للعمل مثله ويسرقان من يومهما الغريب ساعتين أو أكثر قليلاً للغداء وشرب القهوة والركض بالشوارع للعودة في موعد الاختبار اللاحق. ينجح (دومينيكو) في الاختبار، لكن لا وظيفة شاغرة تناسبه، لذا يعمل بشكل مؤقت كساعي بريد بين المكاتب المختلفة، ما يمنعه من لقاء (أنتونيتا) التي شغلت قلبه.

لا تبدو قصة الفيلم جديدة، ولا مبهرة، لا أحداث مهمة، ولا دراما. لكنه يستطيع على بساطته جذب الانتباه والتحديق لساعة ونصف في الشاشة لانتظار تطور الأمر بين بطليه، رغم أنه لا يعد بقصة رومانسية أو شاعرية. ما يميز الفيلم أنه وبعد مئات الأفلام التي تُنتج كل عام، وكل السيناريوهات التي تدور في عالم  المراهقين التي تخرج علينا بها السينما الأمريكية بالأخص، بين طلبة المدارس الثانوية، ومشاكلهم التي تنتهي بحفل التخرج، أو الخطابات الدرامية للتقدم إلى إحدى الجامعات، بعد كل تلك الأفلام  وبعد أكثر من خمسين عامًا، يظل (Il posto) فيلمًا مميزاً يمكنك أن تشاهده وتُرشحّه للآخرين بثقة لأنه يدور حول مراهق بعيداً عن نمطية المراهقين الآخرين، وبعيداً عن تجديف الدراما المفتعلة، بعيداً عن الواقع.

لقطة من فيلم “المكان”

في ختام الفيلم يجلس (دومينيكو) على مكتبه الجديد بعد أن تم تعيينه في وظيفة مكتبية، لكن أحد قدامى الموظفين يُقرر أنه أولى بهذا (المكان) الفارغ، فيحمل الفتى أدواته المكتبية القليلة وينهض ليتحرك للخلف، حين يجئ موظف ثالث وبأسبقية الحجز يلقي بأدواته على المنضدة الفارغة ويحتل المكان. حينها ينظر (دومينيكو) نظرة مرتبكة، للموظفين أمامه، ثم يخفض عينيه، وينتهي الفيلم.

تمضي السنوات، يكتب ويُخرج (أولمي) عدداً من الأفلام أهمها (The Tree of Wooden Clogs)  والذي نال عنه سعفة مهرجان (كان) الذهبية عام 1978 . ويختمها فيلمه الأخير (Greenery Will Bloom Again).
قليلة جداً تلك الأفلام التي تتناول الحرب من وجهة نظر الجانب المنهزم، بعيداً عن المواجهات المباشرة والخطط القتالية، والهرب خارج سجون الأسرى. أقل منها تلك التي تناولت الحرب العالمية الأولى بصفةٍ خاصة، لكن (أولمي) أبى أن يترك الذكرى المائة للحرب تمرّ دون أن يصنع لها فيلمًا يخلد أولئك الذين لا يعرفهم أحد في الأنفاق والمخابئ المدفونة تحت الثلج. وربما هي تحيته الخاصة لروح والده الذي شارك بالحرب وعانى ونجا.
يبدأ فيلم (الأخضر سيزهر مجدداً)  – ويُترجم عن الإيطالية حرفيًا تحت عنوان (المروج سوف تعود) – بأحد الجنود الإيطاليين يغني ليلاً أعلى تبةٍ تفصل بين الجبهتين المتقاتلتين. يغني بصوتٍ شجي، فيرد عليه الجنود من الخنادق النمساوية مهللين لصوته وعذوبة أغنيته، فيرد الجندي عليهم: “دعونا نعِش أكثر. دعونا نمشي سويًا من هنا، ونغني سويًا، الأغاني أقوى من ضربات المدافع لأنها تصل للقلب مباشرةً.”

ربما هذا هو المشهد الوحيد الذي ينطبق عليه عنوان الفيلم، فالبقية تحمل بؤس جنودٍ يُقتَلون بلا توقف، عقب وصول قائدٍ عسكري ليبلغ النقيب المسئول عن الخندق عن مهمة تطالبه بها القيادة العسكرية. بعيداً في مكاتبهم الآمنة يطالبون النقيب بإرسال أحد جنوده لإقامة اتصالاتٍ سلكية جديدة، بدلاً من تلك التي تتجسس عليه الجبهة النمساوية. المهمة انتحارية تمامًا وعبثية كلية، والجنود يرقد معظمهم في إعياءٍ شديد لظروف الطقس القاسية وانتشار الحمّى بينهم. يخرج الجندي الأول فلا يكاد يبتعد بضعة أمتار حتى تقتله رصاصة قناصٍ ينتظره بلا كلل. الجندي الثاني يختار الانتحار قبل خروجه للموت، وقبل أن يُحكم على جندي جديد بالموت يتنازل النقيب الشاب عن رتبته ويرفض الانصياع للأوامر التي تقتل رجاله ويحمل هو موتهم على عاتقه.

يتصاعد الأمر إلى مواجهاتٍ مباشرة تدك فيها قذائف الجبهة النمساوية خندق الإيطاليين، بالتزامن مع حفر نفق أسفل الخندق للقضاء عليه تمامًا، ليبدأ الخندق بالانهيار، والأجساد بالتكدُّس بين قتيلٍ وجريح.
صورة بصرية متميزة يغلب عليها التناقض الشديد بين بياض الثلج المحيط بالخندق من كل ناحية، وبين الظلام الدامس والظلال الكئيبة ووجوه الجنود التعيسة في الخندق. تناقض يمكن اعتباره أفضل ما بالفيلم، إلى جانب الصورة ذاتها، والتي رغم تصوير الفيلم بالألوان، إلا أنها منحته طابعًا مقبضًا بألوان تقارب الأبيض والأسود. ملائمًا تمامًا للحالة الخاصة للجنود، وللفيلم بأكمله.

تكمن المشكلة أنه لا يمكنك أن تتعلق بأحداثه. لا شئ يحدث عدا الموت، والذي ربما اعتاد أخباره الكثيرون فلم يعد يجدي التأثُّر. لا حوارات تليق ببؤس الأحداث ودراميتها، فمعظم حوارات الجنود تكررت في كل أفلام الحروب. حتى الجنود الذي يلقون حتفهم لا قصص خلفهم، ولا نعرف أسماءهم إلا بصورة عرضية حين تأتي الخطابات التي ترسلها عائلاتهم إليهم، دون علمهم بأن ذويهم قد ماتوا، فينادي قائدهم الأسماء، دون مجيب. وصولاً إلى خاتمة الفيلم التي يتحدث فيها رائد الجيش الشاب مباشرة لعدسة الكاميرا، وللمشاهد، سارداً خطابًا بدأ كتابته لوالدته، وكأنه يستجدي التأثر والانفعال.

بين الفيلمين أكثر من نصف قرن، لكن يحلو لي أن أفكر أنهما عن العائلة أكثر من أي شئ آخر. كأنه خيط رفيع يربط بيهما. في الأول تحرك (دومينيكو) رغبته في توفير استقرارٍ مادي لعائلته بشغل وظيفة حكومية. الفتى مشتت ولا مخططات لديه. وحين يقع بحب (أنتونيتا) يحلم بتكوين عائلته الخاصة، بالاستقرار والدفء العائلي. في الثاني لا ينتظر الجنود شيئًا سوى خطابات ذويهم، والعودة للعائلة. لا شئ يربطهم بالحرب، ولا شئ يخصهم فيها. يعودون للحياة ببضع كلمات دافئة تخطّها زوجة بعيدة، أو أم حزينة تنتظر ابنها الشاب.

هكذا يدور (أولمي) في فلكه الخاص في كتابته وإخراجه: يصنع فيلمًا نظنّه عن الحب، فيتوقف في منتصفه ويحكي عن انسحاق البشر تحت عجلة الحياة، وقصص الحب التي تنتهي سريعًا، بعيداً عن التكرارية والحلم.
ويصنع فيلمًا آخر عن الحرب والموت، فيضع له عنوانًا متناقضًا عن المروج التي سوف تعود، و الجنود الذين يحلمون بالعودة ويُغنون تحت قصف القنابل. لا يعبأ بما هو مقبول أو مرفوض، بما هو رائج أو بما هو أسهل على مخرجٍ في الثمانين، يصنع أفلامه لمتعته فيمتعنا دون عناءٍ أو تكلف.


إعلان