المنافسة على “الأوسكار” بين السياسة والموسيقى
محمد رُضــا

“ما هي الحرية بالنسبة إليك؟”
يسأل الصحافي خارج الكاميرا تلك المرأة السوداء التي ترتدي رداءً أفريقيا وتتمدّد على الكنبة، فترد:
“ما هي الحرية؟ أخبرني أنت.”
رد وهو يضحك: “أنتِ قولي لي”.
تجيب ببعض الكلمات محاولة وصف الحرية، ثم تصل إلى مبتغاها سريعاً: “الحرية هي أن لا تخاف”.
هذه المرأة لم تكن سوى نينا سيمون، المغنية الأفرو- أميركية (1933-2003) التي واجهت، في حياتها الفنية، هذا الوضع أكثر من مرّة. خلال حقبة التظاهرات المُندّدة بالسياسة العنصرية في أميركا الستينات، وكذلك في حقب مختلفة وجدت نفسها فيها تدافع عن حقّـها في أن تُـعامل بين شركائها في العمل معاملتهم لأترابها البيض.
والمشهد المذكور يأتي ثانياً بعد مشهد البداية في فيلم «ماذا حدث، مس سيمون؟» What Happened, Miss Simone? الذي دخل ترشيحات الأوسكار المعلنة قبل أيام قليلة، كأحد خمسة أفلام تتنافس على جائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل (هناك خمسة أخرى مرشحة لأوسكار أفضل فيلم تسجيلي قصير).
مشهد البداية ذاك، يضع المشاهد مباشرة أمام امرأة ذات قوّة. تدخل وسط تصفيق كبير في قاعة مظلمة وتنحني لنحو ثلاثين ثانية ثم تقف وتنظر يساراً لوقت مماثل ثم يمينا كما لو أنها تتفحّص المكان. لكن ملامح وجهها غير سعيدة. من يعرفها سيدرك أن نضالها الشاسع على الصعيدين الفني (وهو الصعيد الشخصي) والسياسي غلبا تلك التقاسيم. كل ذلك قبل أن تبتسم ابتسامة عريضة وتُفصح عن سبب يقف وراء تجهمها: “لم أُقم حفلة جاز منذ سنوات بعيدة”، إنها كما لو أن تلك الملامح ارتبطت بعاصفة نوستالجيا داخلية وهي تُقدم على عرضها الغنائي الحي الأول منذ عدة سنوات.
سوابق موسيقية
الأوسكار والأفلام القائمة على الموسيقى لها تاريخ طويل يبدأ عندما نال «وودستوك» أول أوسكار يُـمنح لفيلم عن الموسيقى، وذلك سنة 1970 (بعد 28 سنة على ابتكار أوسكار أفضل فيلم تسجيلي، سنة 1942). في السنوات الأخيرة وحدها تردّدت الأفلام الموسيقية أو القائمة على فن مرتبط بالموسيقى أو بشخصياتها على الترشيحات الرسمية وبعضها انتقل لخانة الفوز.
في العام 2012 تم ترشيح فيلم «بينا» للألماني فيم فندرز، حول مدرّبة الرقص الألمانية بينا بوش، للأوسكار. بعد ذلك بعام واحد فاز فيلم مالك بن جلوّل «البحث عن شوجرمان» بالأوسكار عن فئة الأفلام التسجيلية الطويلة والذي تحدّث فيه عن اختفاء المغني الأميركي الملقب بستيفن شوجرمان، ثم ظهوره بعد سنوات عديدة في جنوب أفريقيا حيث كان يواصل الغناء من دون أضواء.
في العام التالي فاز الفيلم الرائع «عشرون قدم من الشهرة» لمورغان نيفيل بأوسكار أفضل فيلم تسجيلي طويل وذلك عنوة عن أفلام مهمّـة تنبأ لها بعض النقاد بقطف الجائزة، من بينها ثلاثة أفلام سياسية التوجه هي «فعل القتل» لجوشوا أوبنهايمر و«الميدان» لجيهان نجيم و«حروب قذرة» لرتشارد راولي وجيريمي سكايل.
هذا ما حدث في العام السابق، 2012 أيضاً عندما نال «البحث عن شوجرمان» الأوسكار متجاوزاً فيلمين واحد فلسطيني ذو نبرة إنسانية تميّـز وجهته السياسية، وهو «خمس كاميرات مكسورة» لعماد برنات، والثاني إسرائيلي «حافظو البوابة» لدرور موريه عن دور الموساد وأجهزة أمنية أخرى للحفاظ على الكيان الإسرائيلي من خطر الجوار.

هذا العام هناك فيلمان موسيقيان أحدهما هو «ماذا حدث، مس سيمون؟» الذي هو عمل جيد يعتمد على بحث مضن للإجابة لا على سؤال واحد يبرزه العنوان بل على عدّة أسئلة حول من هي هذه المغنية التي شقّـت طريقها مختلفاً عن ذلك الذي عرفه موسيقيون أفرو- أميركيين كُـثر فباتت نجمة البلوز والجاز والصول القائمة بذاتها. فيلم ليز غاربوس هذا ينتقل بين المراحل المختلفة كاشفاً عن قدرة المخرجة التي مارستها سابقاً في أفلامها الأخرى (منها «بوبي فيشر» و«المزرعة») الوصول والحصول على وثائقيات لم تشاهد من قبل ومن ثم رصفها لتشكـل صرح عمل يخلو من النتوءات أو التيه.
الفيلم الثاني هو «آمي» Amy عن المغنية البريطانية آمي واينهاوس (1983-2011) التي ماتت شابّـة (في السابعة والعشرين من عمرها) حققه عاصف قبضايا واثباً لإحاطة اللثام عن حياة امرأة ذات موهبة غنائية واعدة لم تمنح نفسها الكثير من التحديات فماتت مبكرة نتيجة الإدمان على الكحول.
تكملة
خارج هذين الفيلمين، كان هناك فيلم ثالث لم تسعفه الأصوات لترشيحه هو «جانيس: فتاة صغيرة حزينة» عن حياة ومهنة المغنية الأميركية جانيس جوبلين. إحدى نجمات الغناء في الستينات والسبعينات حققت عنها المخرجة “آمي بيرغ” فيلماً مليئاً بالنوستالجيا وكشف للشخصية التي آثرت اندثاراً سريعاً بإدمانها المخدرات.
لكن «آمي» و«ماذا حدث، مس سيمون؟» يحملان، لجانب كونهما فيلمين عن الموسيقى والغناء في الأساس، يبدوان كإعلان عن رغبة أعضاء أكاديمية العلوم والفنون السينمائية، موزعّة الأوسكار، على تحاشي المواضيع السياسية المباشرة. صحيح أن فيلمين من هذه الأفلام وصلا إلى الترشيحات الرسمية، هما «نظرة الصمت» و«شتاء على نار»، لكن الصحيح، وكما سبق القول، تحاشى المقترعون منح الأوسكار للموضوع السياسي أكثر من مرّة في السابق مفضلِّين الموضوع الغنائي.
هذا التفضيل يجب ألا يعني أن الأعضاء أصحاب ذوق مؤثر في الطرب أو أنهم غير متواصلين مع شؤون العالم. على الأرجح هو الطريق الآمن لدى معظم الأعضاء الذين يفضلون مواضيع تتحدث عن شخصيات معروفة (مثل «نينا سيمون») عن تلك التي تتناول شخصيات يتعرّفون عليها (كما الحال مع شخصيات فيلم «نظرة الصمت» مثلاً.
لكن في حين أن الخروج عن هذا التوجه وارد ولأسباب معظمها يكمن في رؤية هذا اللفيف الضخم والمتنوع من السينمائيين، أعضاء الأكاديمية، إلا أن ليس كل فيلم حمل راية سياسية صار أهلاً للجائزة خصوصاً وأنه ليس الفيلم الجيد الوحيد في السباق.
الأفلام الثلاثة الأخرى في قائمة الخمسة التسجيلية هي «كارتل لاند» لماثيو هاينمان و«نظرة الصمت» The Look of Silence لجوشوا أوبنهايمر و«شتاء على نار» Winter on Fire لإيفيني أفينيسفكي. والمثير فيها أنها إذ تغرف من أحداث سياسية (على نحو أو آخر) إلا أن واحداً منها فقط يذهب بعيداً في منواله التاريخي وهو «نظرة الصمت» الذي هو تكملة لفيلم أوبنهايمر السابق «فعل القتل» الذي لم ينجز الأوسكار عندما دخل مسابقته سنة 2014.
«فعل القتل» كان قاسياً ويحمل مشاهد تخرج عن سياق التسجيل فهي إعادة تفعيل ما لا يملك المخرج وثائق عنه. فيه طلب المخرج من بضعة أعضاء في الفصيل السياسي الذي أوكل الحكم العسكري في إندونيسيا الستينات له بسحق الشيوعيين والمثقفين اليساريين عموماً، تمثيل كيف قاموا بقتل المقبوض عليهم. هؤلاء مثّـلّوا (بعضهم بحماس ملحوظ) ما فعلوه مُسبِّبين يقظة المشاهد لا للجريمة الأصلية وحدها، بل لتوفيرها ممثلَّة من جديد. في حين اعتبر بعض النقاد والمتابعين أن ذلك كلّـه يخدم الفيلم وقضيّـته، وجد (عدد كبير من النقاد) أن الفيلم يستغل القضية التي يمثلها بتوظيف العنف الماثل لتقديم صورة العنف البائد من دون إدانة.
«نظرة الصمت» يشهد تراجعاً لأوبنهايمر عن ذلك المنوال مستعيضاً عنه باعتماد مزيد من المقابلات مع أعضاء بارزين فيالصحيح والمكانكرية، بينها مقابلات بين بعض الضحايا وبعض القتلة عبّـر فيها الطرف الأول عن رغبته في الغفران إذا عبّـر الطرف الآخر عن ندمه.
عن الثورة

أما الفيلمان الآخران، «كارتل لاند» و«شتاء على نار» وهما يتناولان أحداثاً أقرب إلينا، ما يعزز موضعيهما في سباق الأوسكار.
«كارتل لاند» منقسم إلى نصفين (تقريباً) متداخلين، واحد يقع داخل الحدود الأميركية والآخر داخل الحدود المكسيكية. الأول عن الأميركي الذي كوّن مجموعة من حملة السلاح بدعوى الحدّ من الهجرة غير الشرعية والتصدِّي لتهريب المخدرات الآتي من الحدود المكسيكية، والثاني عن المكسيكي الذي ألّف عصبة مسلحة لمواجهة عصابات الكارتل التي تروِّع القرى الحدودية التي تنطلق منها. غير متوازن ويبدو مثل فيلم يريد اقتناص الفرص أكثر منه عمل يستحق الإشادة فنياً، بعدما تمكّن من التواجد في الوقت الصحيح والمكان المناسب لإنجاز بعض المشاهد الأهم في فيلمه.
«شتاء على نار»، الذي يمثل أوكرانيا، يشبه، إلى حد ما، فيلم «الميدان» لجيهان نجيم. لكن في حين أن «الميدان» الذي تناول ثورة 2011 وما تلاها، صابّاً اهتمامه على بضع شخصيات معيّـنة (ولا تُشكِّل أكثر من حضور محدود الشأن في الموزاييك العام للثورة)، انصب اهتمام المخرج الأوكراني إيفيني أفينيسفكي على الثورة التي أطاحت بالرئيس السابق لأوكرانيا ما نتج عنه، تلقائياً، الحرب الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا إذ دعم الروس توجهات الرئيس السابق المناوئة للغرب في حين أيدها الشعب الأوكراني ودفع بالتغيير الذي أتى برئيس جديد وحكومة أخرى ولو أنه دفع أيضاً إلى حرب عسكرية واقتصادية ما زالت مثل الجمر الذي لا يريد أن ينطفئ سريعاً.
بين ما سبق من أفلام سياسية، فإن «شتاء على نار» هو من يستحق الوصول إلى الفوز. لكن ما إذا كان سيصل فعلاً أو أن اعضاء الأكاديمية سوف يفضلون الفيلم الموسيقي النوستالجي حول نينا سيمون فإن هذا ما هو ليس معروفاً وسيبقى مجهولاً إلى حين إعلان النتائج.