“حكاية الليالي السود”
د. أمــل الجمل

“لكي ترحل عليك أن تموت قليلا، لكي تبقى عليك أن تموت كثيرا .” إنها جملة تُلخِّص الوضع في الجزائر خلال ذلك العقد الأسود الممتدّ منذ أواخر الثمانينات وحتى أواخر التسعينيات. هذه الكلمات تم ترديدها ضمن فيلم “حكاية الليالي السود” Let Them Come للمخرج الجزائري الفرنسي سالم الإبراهيمي الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة بمهرجان دبي السينمائي الثاني عشر (9 -16 ديسمبر 2015)، على لسان أحد شخوص العمل الثانويين “صالح”، ذلك اليساري صديق البطل “نور الدين” الذي عندما ينصحه الأخير بالرحيل إلى فرنسا ليفلت من مجزرة الإرهاب التي عمّت الجزائر في تلك العشرية السوداء مؤكدِّا له أن الشيوعيين هناك يستطيعون مساعدته فيجيبه “صالح” بتلك الكلمات مضيفاً: “تريدني أن أختبأ بينما النساء يمتلكن الشجاعة في القصبة بدون أسلحة ومن دون حجاب، واحتفظن بأطفالهن في المدارس. إنها أعظم هزيمة للإسلاميين الإرهابيين.
المشهد السابق من الفيلم – الذي يعالج ببراعة وبلغة سينمائية خالصة في 95 ق فقط أحداثاً وقعت في مدة زمنية عمرها عشر سنوات – يتوازى معه مشهد بصري رمزي جميل نرى فيه أحد العمال بالشركة التي يعمل فيها البطل الرئيسي نور الدين – وقد تعطّلت ماكينة قص وتهذيب الحشائش فيضطر العامل حتى ينتهي من عمله أن يستخدم المقص اليدوي لينتزع الحشائش واحدة تلو الأخرى. كان التصرف يبدو ساذجا، وجنونيا من قبل البعض، في حين سخر منه البعض الآخر معتبراً أن الرجل يُضيع وقته، هنا بعد تأمل وتفكير يتحرك “نور الدين” من موقعه بين هؤلاء الساخرين وينضم إلى العامل ليساعده فينجزا مالا يُتـوقّع.
أهمية اللقطات البصرية السابقة – رغم بساطتها الشديدة وتلقائيتها – أنها تعتبر معادل رمزي لما قام به الأفراد من رجال ونساء في الجزائر لمواجهة الإسلاميين – أمراء الحرب – العائدين من أفغانستان بعد التدريب على القتال والذين جرّوا المجتمع إلى حلقات جهنمية ودوائر العنف وسفك الدماء تحت دعوى محاربة الشيوعية وتطبيق شرع الله، في الوقت الذي لم يتدخل فيه الجيش أو قوات الدولة بالشكل الملائم والمناسب لحماية الناس ومواجهة هذا الإرهاب بحسم منذ البداية.
وإن كان الفيلم لا يدين قوت الجيش وإنما يُركِّز كل اهتمامه ولغته السينمائية على الرعب والفزع الذي يبثّه الإرهاب في نفوس البشر، وكيف يقتلهم بوحشية من دون أدنى رحمة رغم أن هؤلاء القتلة يدَّعون أنهم رُسل لدين الرحمة والمغفرة، بينما الدين منهم ومن أفعالهم بريء.

تسير أحداث “حكاية الليالي السود” وفق خطين دراميين متوازيين؛ الخط الأول عام يحكي مأساة الإرهاب وضياع الدولة وقتل الناس أو إرغامهم على ترك بيوتهم، وتدمير قرى ومدن بالكامل بعد ذبح كل سكانها في محاولة من صُنّاع العمل لإعادة تجسيد تلك الجملة التي كانت تتكرَّر دائماً على لسان الجزائريين الذين عاشوا هذه الحقبة هي: “كنّا نخرج صباحاً ولا نعرف ما إذا كنّا سنعود إلى بيوتنا وأُسرنا مرة ثانية أم لا؟” والخط الثاني يُشكِّل الحكاية الفردية وبطلاها “نور الدين” و”ياسمينة” وقصة ارتباطهما وعلاقتهما لتحقيق رغبة والدة البطل التي تهدده وهى على سرير المرض بالمستشفى بأنه إن لم ينفذ رغبتها ويتزوج من ياسمينة سيظل قلبها غاضباً عليه وسيكون موتها معلقّاً في رقبته، فيتزوجها نور الدين مرغما من دون عاطفة، ولا رغبة، فقد كان قلبه مع امرأة أخرى تركته وهربت إلى فرنسا خوفا من الإرهاب.
هنا يشعر المتلقِّي وكأن قهر الأم لا يقلّ عن قهر الإرهاب، فكيف للمرء أن يعيش مع من لا يحب؟! لذلك عندما تموت الأم يشعر نور الدين بالتحرُّر من هذا الزواج وتلك العلاقة ويُهمل زوجته التي تأبى كرامتها أن تستمر على هذه الحالة فترحل إلى بيت أبيها، وهناك لأنها ترفض ارتداء الحجاب أو ترديد الشعارات المغلوطة الخادمة لأهدافهم ومجتمعهم البطريركي الجاهلي – حول شرع الله وأن المرأة تخرج من بيت أبيها إلى بيت الزوج ثم تخرج من بيت الزوج إلى المقبرة – التي غسل بها هؤلاء الإرهابيين عقول كثير من أفراد الأسر يُصرّ الأب على طرد ياسمينة من بيته، والزجّ بها في الشارع مثل الكلاب المتشردة.
في لحظة إضاءة، وبفعل بقايا الرحمة التي تسكن قلبه يستيقظ وعي “نور الدين” فيعاود البحث عن زوجته وطفله الذي أنجبته، وخلال تلك الرحلة وعلى مدار الطريق نرى ونعاين آثار الفزع والدماء والخراب في كل مكان. ينجح نور الدين في استعادة ياسمينة، ويلتئم شمل العائلة، ويسكن إليها بحبّ وطمأنينة بعد أن اكتشف كبرياء شخصيتها القوية التي لم تستلم، فينجبا طفلة أخرى.
وأثناء ذلك نعيش معهما استمرار الحصار الأسود ومطاردة الإرهابيين للأبرياء، وتوظيف كل ما يستطيعون وكل ما في طاقتهم لإرغام كافة أفراد المجتمع على الاستسلام، مُصرِّين ألا تخرج المرأة من بيتها من دون حجاب فيُسخِّرون النساء للمرور على البيوت ورن الأجراس وترديد كلمات: “افتحي يا أختي.. افتحي.. سوف نساعدك مالياً، ونعلمك أصول الإسلام الصحيح..” الإسلام الصحيح؟! أين الإسلام الذي يدعو إلى بثّ قيم الرحمة والتسامح والتعاطف بين الناس من استباحة الدماء بكل هذه الفجاجة والوحشية؟!
في ظلّ الأسلحة الرخيصة والمتاحة بوفرة من الداعمين للإسلاميين الإرهابيين في الجزائر، وفي غياب صناعة السلام التي تُعدّ الأصعب والأغلى، تتوالي رحلة نور الدين ومحاولته لحماية أسرته، لكن اللافت أن الإبراهيمي كان قادرا بمهارة سينمائية على تصوير بطله في أغلب الأحيان وهو محاصر بين الجموع، أو في المواجهة في الكثير من اللقطات ومنها تلك اللحظة التي يهرول فيها إلى المستشفى لينقذ طفله فيجد الشوارع وقد أغلقت للصلاة، فلا يسمحون له بالمرور، أو في اللقطة التي يترك فيها الإرهابيون مريض السكر في الشارع مصابا بكومة، في مشهد مُربك ومثير للحيرة وعدم الفهم الواضح، فهو ينتمي إليهم، لكنهم تركوه وانصرفوا، ربما تحت دعوى أو ادعّاء الالتزام بالفضيلة يتركونه ويطلبون من نور الدين أن يتولّى إسعافه.
كان التصوير أحد الأبطال الرئيسيين في هذا الشريط السينمائي الذي يصعب نسيانه – التصوير كما الموسيقى والمونتاج والقصة وأداء الأبطال خصوصا كاتب أمازيغ في دور نور الدين، ورشيدة باراكني في دور ياسمينة – فالقتل دائما موجود وحاضر بقوة مؤلمة، وحتى في غيابه نشمّ رائحته النفاذة تكاد تخنقنا.

لكن ما يٌحسب للإبراهيمي أنه قام بتصوير كل هذا العنف والمجازر بأسلوب متوارٍ، معتمدا على الإيحاء، فجاءت اللقطات على قسوة وفظاعة ما تخلقه لدينا من مشاعر لكنها مصنوعة برقة وشاعرية ورهافة حس، عمل يُثبت بما لا يدع مجالا للشك أن المبدع قادر على التعبير عن القسوة وعدم الرحمة وسفك الدماء واستباحتها بأقل قدر ممكن من إظهار العنف، عبر الكوادر الموحيّة برقة، عبر المونتاج المؤلم، الذي يوحي أكثر مما يُصرِّح، ليجعلنا نصرخ: “يا لله.. ماذا فعلوا ليعاقبوا بهذا الشكل المريع؟! فمثلاً يعايش المتلقِّي تجربة نور الدين فقد أقرب أصدقائه “صالح” في مشهد شاعري لكنه شديد البشاعة، إذ يصله خبر تليفوني، بينما يتم التنقل بين تلقيه الخبر وبين اكتشاف الزوجة لرأس “صالح” في كيس أسود في “الزبالة” بينما القطط والكلاب تنهش الرأس في جنون. لقطات عابرة، سريعة جداً، لم نرَ فيها الرأس الحقيقة، أو حتى المزيفة، ولم نر الدماء، ولا فعل القتل، لكن من خلال المونتاج وأداء الزوجة الصارخة بهستيريا – من دون حتى أن نسمع صوتها – نصاب بالقشعريرة من فزاعة ما حدث من جرائم كان وراءها الإسلاميين الإرهابيين.
الشريط السينمائي “حكاية الليالي السود” الذي لا يغفل دور المرأة الجزائرية في المقاومة وصمودها واستبسالها يبدأ أحداثه بعام 1989 مع بداية هذا الإرهاب الذي تلازم معه مأزق اقتصادي، فالشركة التي يعمل بها الزوج كانت مطروحة للبيع، ولا أحد من الموظفين كان قد حصل على راتبه منذ فترة، بينما الإسلاميين يقتلون الرجال ويهددون النساء. وخلال المدة الفعلية للفيلم التي تبلغ 95 دقيقة يبلغ الزمن الدرامي للعمل عشر سنوات يحدث خلالها نقلات زمنية كبيرة نوعاً ما، أحيانا سنتين أو ثلاثة أعوام – لا يستخدم خلالها المخرج أي لافتات تحمل تاريخ السنوات – لكن المتلقي يُدركها من الإيحاء بلقطة بصرية ما أو بغرس بعض التفاصيل الخاصة بالأطفال، فمثلاً بعد البداية بقليل يمرّ أكثر من عام، ندركه من تلك الصورة المعلقّة للبطلين يحملان طفلهما أعلى السرير الذي ترقد عليه الأم المتوفاة، أو مثلاً تحدث نقلة زمنية أخرى نرى خلالها الطفل وهو قادر على السير ويبلغ عمره ربما 3 سنوات، وهكذا في نماذج أخرى عديدة وهامسة.
كانت خطة الإرهابيين تعتمد على اغتيال الحشود من أفراد الشعب، إقامة مذابح جماعية، لكن كان الأطفال بشكل خاص هدفهم الأساسي. كانوا أثناء ذلك يتركون إحدى الضحايا تفلت وتهرب عن عمد، لكي تحكي عن المشاهد المروِّعة فتبث الخوف والإحساس بعدم الأمان بين البقية الباقية. ينجو نور الدين من القتل في عدة مشاهد، مرات بمفرده، ومرات أخرى بصحبة أطفاله وزوجته، لكن في المشهد الأخير، يضطر أن يعود في المساء بطفلته الصغيرة وتتعطّل السيارة، فيلجأ إلى قرية على ناصية الطريق، وهناك يكتشف أن كل من فيها تم ذبحهم أطفالا ونساء ورجال.
يحمل ابنته بذراعيه وهو يخبئ وجهها في كتفه وأنفاسهما المتلاحقة المذعورة تمتزج في لقطات تكاد تخلع قلوبنا، إلى أن يظهر القتلة ويركع نور الدين خائفاً يحاول أن يحمي ابنته، فيضغط بشدة عليها لئلا ترَ منظر القتلة، يضغط علي رأسها بقوة الرعب الذي يسكنه خوفاً عليها، وعندما يهم أحدهما ليقتلهما معاً يأمره كبيرهم بألا يفعل حتى يعود نور الدين ويحكي عما رآه من تمثيل بالجثث. ينصرف أمراء الحرب، وتتراخى أطراف الطفلة. يسقط ذراعيها كناية عن وفاتها اختناقاً، قتلها الخوف والحماية، بينما دموع نور الدين تتساقط في مشهد لا يمكن أن تنساه النفوس.