الأوسكار وجدال العنصرية

محمد موسى

لم تنخفض حدّة النقاش المُتواصل عن الحضور الهامشي للغاية للأمريكيين من أعراق غير بيضاء في ترشيحات جوائز الأوسكار السينمائية القادمة، والذي تفجّر بعد ساعات قليلة من إعلان قوائم المتنافسين قبل أسابيع. بل أن جدال الإثنيات أو الأعراق وحضورهم على الشاشات السينمائية في الولايات المتحدة لم يبلغ أبداً هذا المستوى من عدم الرضى والغضب الذي يصل إليه هذه الأيام.

والذي ترافقه دعوات ساخطة من داخل عوالم صناعة السينما ومن خارجها لهزّ الذهنيات والكيانات الإنتاجية التي تهيمن على صناعة الفن السابع، حتى تعكس هذه الأخيرة التنوّع الموجود في المجتمع الأمريكي وتعبر عن فسيفسائه الواسع، وأن تتوقف عن إقصاء أمريكيين بسبب عرقهم أو لون جلدهم. بيد أن كثير من تغطيات الإعلام تُركِّز بالتحديد على “الأوسكار”، وتغفل أن هذه الجوائز هي مُحصِّلة ومرآة لواقع الإنتاج السينمائي، وأن التغييرات الفعليّة الناجحة يجب أن تبدأ من الصناعة ذاتها، عندها ستكون الجوائز صدى للحال السينمائي، لا مُحدِّدة لقواعده أو طبيعته.

كما يبدو أن هذا الاهتمام المسبوق بعلاقة جوائز السينما والإثنيات لن يتوقف قريباً، بل سيتواصل إلى الحفل ذاته، فمن المؤكد أن يقوم “كريس روك”، الكوميدي الأمريكي الأسود المشاكس، بالسخرية من “الأوسكار” ويوظِّف قضية الأعراق في مقدمته الكوميدية للحفل في الثامن والعشرين من شهر شباط (فبراير). في الوقت الذي سيلقى غياب بعض النجوم الكبار عن الأوسكار اعتراضاً على ترشيحات هذا العام، هالة قاتمة على الاحتفال الأهم للسينما في العالم، وربما يدفع جمهور واسع لعدم متابعته على شاشات تلفزيوناتهم وحتى مقاطعته، ليزيد هذا من مشاكل التغطيات التلفزيونية للحفل في الأعوام الأخيرة، ذلك أن شعبية مشاهدة “الأوسكار” على التلفزيون في تراجع، وكما تُبين الإحصاءات المُتوافرة من الأعوام الخمس الأخيرة.

والحال أن قضية الأعراق والفنون في الدول الغربية، هي واحدة من القضايا الشائكة التي يتم بحثها في دوائر مختصّة في الولايات المتحدة وبريطانيا والعديد من الدول الأوروبية منذ أكثر من عقد. إذ شهدت هذه المناطق في الخمسين عاماً الأخيرة نمو سكاني مضطرِّد لمواطنيها من الإثنيات والعرقيات غير البيضاء، في حين لم تكن استجابة الصناعة السينمائية والتلفزيونية توازي سرعة التغيرّات السكانية والاجتماعية. فهناك كثير من المبادرات في بريطانيا على وجه التحديد والتي تشهد هجرة مقلقة لمواهبها السينمائية والتلفزيونية من أعراق غير بيضاء إلى الولايات المتحدة، لأن هذه الأخيرة ورغم كل الانتقادات لها، توفِّر فرصاً أكثر للممثلِّين السود مثلاً في التلفزيون الأمريكي. النقاش حول هذه القضايا والتي كانت تدور بين متخصصين، بعضهم عينتهم حكومات غربية، تحول بسبب أزمة الأوسكار الأخيرة إلى قضية عامة، يجري تداولها يومياً على الصحف والمواقع الإلكترونية الغربية، ويُطلق الحديث فيها نقاشات حاميّة على مواقع التواصل الاجتماعي.

شارك الإعلام الغربي بشكل فعّال في الأسابيع الأخيرة في إبقاء جذوة النقاش الدائر، كما انتقلت تغطيات الإعلام لهذه القضية من صفحات السينما التي انطلقت منها إلى صفحات المجتمع وأحياناً السياسة. وتحولت السينما إلى كناية عن قضايا أكبر تخصّ وضع الإثنيات في الدول الغربية والتحدّيات والمشاق التي يتعثّرون بها في حياتهم اليومية، وخاصة أن هذه القضية تأتي بعد سلسلة من الحوادث الدامية التي وقعت بين الشرطة وشباب سود في الولايات المتحدة خلال العام الماضي، والتي تبعتها احتجاجات عنيفة وصدامات مع الشرطة. لذلك ليس غريباً أن يشارك الرئيس الأمريكي باراك أوباما في نقاش جوائز الأوسكار، وأن تُشجِّع هذه الأخيرة شخصيات عامة، ومفكرين من خارج عالم السينما، للبحث مجدداً في العلاقة بين الفنون وفئات المجتمع الأمريكي المتنوعة، كمدخل لمراجعة مفاهيم التعايش والمساواة والوطنية في أمريكا اليوم.

لم تكن جميع التغطيات الإعلامية على القدر ذاته من المسؤولية والحصافة، فجنح بعضها للإثارة، و تم التركيز أحياناً على تصريحات مُخالفة للسائد وغير متزنّة لنجوم ومشتغلين في السينما، وإبرازها في عناوين الصحف وحوارات الإعلام معهم، لتحصل بالتالي على اهتمام يُشتِّت الانتباه عن القضية الأساسية. كما تحوّلت قضية الإثنيات إلى ساحة معارك بين ممثلين وممثلات وجدوا في اللحظة الإعلامية الكبيرة الفرصة لجذب الاهتمام والتذكير بمواهبهم المنطفئة. وتعثّر نجوم كبار في ما يريدون قوله، ليشوب بعض تصريحاتهم العدائية، وليعودوا ويعتذروا على هذه التصريحات، أو يتهموا وسائل الإعلام بأنها أساءت استخدامها.

مسؤولية الأكاديمية

لم يكن مُتوقعّاً رد “الأوسكار” السريع على الضجة الواسعة التي أعقبت إعلان الترشيحات الأخيرة والوعود التي أعلنت عنها الأكاديمية بتصحيح النظام الداخلي للجوائز، لأن هذه الأكاديمية كانت دائماً بعيدة عن الجدالات الإعلامية التي تخصّ الجوائز، ولم تكشف الكثير من قبل حول تركيبتها الداخلية التي يحيطها الكثير من الغموض. فليس من المعلوم على وجه التحديد العدد الإجمالي لأعضاء “أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة” والتي تختصر بالأوسكار، أو الضوابط التي تتعلق بانضمام الأعضاء الجدد، عدا أن الفائزون بالأوسكار ينضمّون تلقائياً إلى الأكاديمية، كما يُمكن أن تساعد توصيات أعضاء في الأكاديمية في قبول سينمائيين لم يفوزوا بالأوسكار من قبل. في الوقت الذي تتكتّم فيه الأكاديمية على حيثيات اختياراتها من الأفلام سنوياً، وتبتعد تماماً عن كشف أرقام الترشيحات للأفلام المتنافسة أو لتلك التي تفوز بالجوائز النهائية.

يمكن قراءة بيان الأكاديمية الأمريكية بما يتضمنّه من تفاصيل ووعود واعتراف ضمني بالتقصير، بأنه نقد ذاتي للأداء العام، صادر من داخل المؤسسة، ويمثل اتجاهاً ممتعضاً من ترشيحات هذا العام، وبالتحديد من غياب أمريكيين من أصول عرقية غير بيضاء عنها. فكان يُمكن للأكاديمية أن تكتفي بالصمت – وكما تفعل في الغالب – أو تدافع عن مهنية أعضائها التي نالت منها اتهامات عديدة أقذعها العنصرية. وهو الأمر الذي نبّهت إليه الممثلة الإنكليزية القديرة شارلوت رامبلينج (مرشحة هذا العام لجائزة أفضل دور في فئة الأدوار النسائية الرئيسية عن فيلم “45 عاما”)، عندما صرحت في حديث صحفي أخيراً، بأن الشكوى من غياب أسماء سينمائية أمريكية من أعراق أخرى، هو اتهام واضح وغير مقبول للبيض الموجودين في الأكاديمية بالعنصرية. وهو التصريح الذي حظي بقدر كبير من الاهتمام والنقد على حد سواء، وعادت الممثلة وتراجعت عن محتواه، معللة بأنه تم تحريف كلامها عن معناه الأصلي.

بشكل عام، لا تختلف مهام أعضاء الأكاديمية الأمريكية عن ما تقوم به كل يوم لجان تحكيم الأفلام في المهرجانات السينمائية حول العالم. لكن إذا كان النقد الذي يوجه أحياناً إلى أداء لجان تحكيم المهرجانات يبقى في حدود محدودة، وفي أوساط المشتغلين في السينما بالتحديد، يتسّع الجدال حول الأوسكار ليتعدّى دوائر السينما، وليكتسب معاني جديدة، وينوء تحت ثقل التاريخ المعاصر وأحداث الحاضر الآنية. بالطبع يمكن انتقاد الأكاديمية وخياراتها لهذا العام، والحديث بالتحديد عن أفلام بعينها لسينمائيين أمريكيين سود لم تصل إلى الترشيحات النهائية للأوسكار رغم استحقاقها.

لكن هذا سيندرج تحت وجهات النظر والذائقة الصرفة، ولا يمكن إملاءها على أعضاء الأكاديمية الأمريكية، أو حتى على لجنة تحكيم أصغر مهرجان سينمائي. فالجائزة السينمائية مهما كان نوعها وشهرتها تبقى في نهاية المطاف، إجماع مجموعة محدودة من السينمائيين وغيرهم على ما يشاهدوه من أفلام منتخبة، يجب أن تتم في فترة زمنية تؤثر بها الأهواء العابرة والمزاجية والحالة النفسية لهم، وتتفاعل قراراتهم أحياناً مع ما يجري في العالم من أحداث.

ولعل الأمر الحميد الذي يُمكن ينتج من الجدالات الدائرة، هو دفعها للشركات المنتجة للتفكير مليا بالسوق السينمائي ومسؤوليتها عن تمثيل المجتمع بكل تنوعه، ومنح المزيد من الفرص لسينمائيين من خلفيات عرقية مختلفة. والذي يشترط من هذه الشركات الشجاعة، وأن تغامر وتزجّ أسماءً غير متوقعة في أفلامها السينمائية، وتخالف البديهيات الخاصة باختيارات الممثلين والممثلات، وكما يحدث أحياناً وبنجاح كبير. فالجزء الأخير من سلسلة حرب النجوم والذي يُعرض حالياً حول العالم، يقدم شخصية مُهمّة يلعبها ممثل أسود من أصول بريطانية. نال أداءه في الفيلم على ثناء النقاد والجمهور على حدِّ سواء. ويرجح أن يكون أحد أبطال السلسلة في السنوات القادمة. وهي مغامرة تحسب للمخرج والشركة المنتجة، وجاءت نتائجها مبهرة، فالفيلم جنى الإيرادات الأكثر في العام الماضي (2015)، وينافس ليكون الأعلى في الأموال التي جمعها على مدار تاريخ السينما.
 


إعلان