“الزين لي فيك”: غضب مغربي ولا اكتراث فرنسي

 ندى الأزهري –  باريس

الفيلم تسبقه أخباره.. إشاعات، ادعاءات، فضائح، لجوء بطلته الأولى لفرنسا بعد تهديدات تلقّتها واعتداء عليها في المغرب، إدانات عنيفة لموضوع الفيلم وتهديدات لمخرجه نبيل عيوش، مَنعٌ من العرض في المغرب.. جدلُ لم ينتهِ منذ عرضه الأول في مهرجان “كان” الأخير في أسبوعي المخرجين.
بعد فيلمه “خيل الله” الذي تناول فيه كيفية ودوافع انضمام الشباب للتنظيمات الإرهابية، يعود المخرج المغربي الفرنسي نبيل عيوش (46 عاما) في موضوع آخر ليس أقلّ حساسية. موضوع محرم؟ ربما فما يقدمه ” الزين لي فيك”( الجمال الذي فيك) كشف قاسٍ للدعارة في المغرب وكل ما يصاحبها من فجور وفساد ونفاق.
لقد حقّق المخرج لمدة ثمانية أشهر، واستمع لفتيات يعملن بهذه المهنة و كما صرّح في لقاء صحفي فهو التقى ما بين مائتي وثلاثمائة عاهرة حكين عن “حياتهن، وحدتهن، جروحهن وكيف وصلن إلى هنا ونظرتهن إلى أنفسهن..” يصفهن بالمحاربات.

قد يتبادر إلى الذهن أن الوثائقي هو الأنسب لمواضيع كتلك، لكن انحياز المخرج هنا إلى موضوعه ورغبته الجليّة بإظهار مجتمع يستغل الفتيات ويحتقرهن مع استفادته منهن، هو ما جعله بالتأكيد يبتعد عن اختيار الوثائقي. فالروائي يسمح له بالاقتراب أكثر ما يمكن من عوالم أولئك النسوة  وابداء نظرته الخاصة على نحو مغاير لما يتطلّبه الوثائقي من موضوعية وبقاء على مسافة من الشخصيات ومن الحدث.
ليس الفيلم مجرد إدانة أو مشاهد جنسية رخيصة، إنه يوميات شابات يعشن معا في شقة واحدة محترفات للدعارة. أربع فتيات متعة، نها و رندة و سكينة  ثم حليمة التي أُقحمت في النصف الثاني من الفيلم في سعي ربما لتخليصه بعض الشيء من رتابة وخواء بدآ يُظلِّلان أجوائه.

البداية صادمة بيد أنها جاذبة، ليس لهذا الكم المدهش من السلوك “السوقي” والفاجر للشخصيات، بل لأن تلك تبدو متفرّدة بتناقضاتها الصارخة من البداية، بمستوياتها المتعددة التي تصلح للغور بعيدا في دواخلها وفي عوالمها. يبدو هذا العرض الفجّ لما تقوم به البطلات مع الزبائن الباحثين عن المتعة،  ومشاهد انغماسهن التام في تلبية طلب الزبون، على تناقض مدهش مع سلوكهن في أماكن أخرى، أو بالأحرى مكان آخر.

وهكذا فالمرأة في حالتها كعاهرة هي غيرها كإنسانة عادية تقلق لوضع أسرتها وتحاول سدّ احتياجاتها بعملها “المخجل”. “نها” التي تُجسدّها لبنى أبيضار في أداء لافت، تبدو على سبيل المثال واحدة أخرى تماما حين تذهب لحارة أسرتها الشعبية لتعطي فلوسا لأخيها العاطل وأمها التي تربي لها ولدها،  ترتدي لباسا محتشما لا علاقة له بملابسها التي تظهر بها في بقية مشاهد الفيلم، كذلك شخصيتها تبدو مستكينة، خاضعة، خجلة، مترددة، تحضن أختها وابنها بحنان وعاطفة لا رابط بينهما وبين ما تظهره لزبائنها وحتى أحيانا لزميلاتها.

لكن باستثناء “نها” لم يهتم السيناريو كثيرا بالغور في نفوس بقية الشخصيات وفي محيطها، فبقيت سطحية، بعيدة، لاسيما شخصية “سعيد” السائق المرافق للفتيات في سهراتهن الماجنة. كما كان بالإمكان التعمُّق أكثر بشخصيات رندة وسكينة وإعطائها حيزا أوسع في التناول لاسيما وأن الفيلم لم يشكو من ضيق الوقت بل على العكس، جاءت مشاهد الجنس طويلة مكررة وسرعان ما قضت غرضها في الكشف والفضح. كما لم يكترث  كثيرا للأسباب التي قادت هؤلاء الفتيات إلى هذا المصير، وهو على أية حال يتعاطف معهن مهما كانت تلك الأسباب، هكذا بدا الأمر وكأن ما على المشاهد سوى التعاطف معهن وإدانة المجتمع لكل ما “يجبر” الفتيات على القيام به.

يبدي السيناريو تماما الفساد الإداري و النفاق الاجتماعي و الازدواجية في المعايير والعهر والفجور والشذوذ والاستغلال الجنسي للصغار، وأيضا.. هذا الاتفاق غير المعلن في المجتمع على إغماض العين عما يجري. فالأخ ينتظر الفلوس من “نها” رغم معرفته بمصدرها، ورجل الأمن يستغل “نها” جسديا وماديا.

الفيلم قدّم جديدا في أسلوب الكشف، وعلى الرغم من أن العاهرات بَدوْنَ دائما في الفيلم كما هن في السينما العربية أي “كضحايا”، إلا أن الفرق هنا كان في إظهارهن وهن “يعملن” في مقاطع طويلة وكاميرا مقربّة ومشاهد مكررة  كان بعضها جديدا كإظهار ممارسة لعلاقة مثلية بين فتاتين، فهذا لم يكن يظهر قبلا بل مجرد إيحاءات ونظرات. في الفيلم يضع عيوش كل ما لا يخطر على بال من أساليب تتبعها فتيات المتعة وهو لا يكثف المشاهد بل يطلقها على عنانها إلى أن تقول نعم، وماذا بعد؟ فصحيح أن الفيلم بدأ قويا مدهشا مفاجئا، وكان مقنعا في الجزء الأول منه لكنه تاه من الوسط وحتى النهاية.

يصوّب نبيل عيوش نظرة نارية على المجتمع، الرجال على وجه الخصوص، لا يستثني أحدا، وحين هوجم فيلمه بضراوة من قبل البعض في بلده ومحيطه العربي، اعتقد من لم يرَ الفيلم بعد بأنه تقصّد عرب السياحة الجنسية الذين يأتون إلى المغرب لهذا الغرض.

لقد كُتب الكثير عن إساءة الفيلم ” للخليجيين” والسعوديين منهم على وجه الخصوص. بالطبع لا يمكن إنكار أن المخرج أراد فعلا عرض كل ما لديه من أقوال وأفعال وسلوك لبعض هؤلاء في المغرب, وكان ما عرضه جريئا صادما، ولكن هل كان أقسى مما قاله وبيّنه عن الفرنسيين كما عن أبناء بلده؟

إذا اعتبرنا انتماء المخرج إلى بلدين (الأم فرنسية والأب مغربي)، فيمكن القول أن بلده الأول (المغرب) قد صبّ غضبه رسميا وشعبيا ونقديا على الفيلم ومنعه “لما يتضمنه من إساءة أخلاقية جسيمة للقيم وللمرأة المغربية ومسّ صريح بصورة المغرب” بحسب البيان المنشور، فيما بلده الآخر (فرنسا) لم يحرك ساكنا رغم الصورة السيئة التي ظهر بها الفرنسيون فيه!

 فلمَ والحال هذه، يقتصر الاحتجاج على العرب واعتبارهم الفيلم إساءة وحطّ من قدر لهم؟ فيما الأحرى مناقشة ما ورد فيه بدلا من الاقتصار على إطلاق الأحكام؟!


إعلان