العائلة في أفلام الرعب
محمد رُضــا
منذ أن قام الممثل ليام نيسون ببطولة فيلم «مخطوفة» (Taken) سنة 2008 انتعش تيار هو جزء من تيار سابق في سينما التشويق. التيار الأساسي ألفته الحبكات المتناثرة عبر تاريخ السينما حول العائلة ومن يحميها، كما حول من تمثّـل ولماذا وحول من هو الحامي الحقيقي لها: القانون أو رب الأسرة (ذكراً أم أنثى).
التيار المنفصل هذا ينجلي عن فئة من الأفلام التي تبحث في العلاقة الأبوية مع أبنائها وسط أحداث تشهد تهديد خطر الابنة (غالباً) وقيام الأب بالتدخل لحمايتها. قليل من الحديث عن اضطراب العلاقات بين الأب وابنته وبينه وبين الأم ومفهوم الأسرة الاجتماعي يحاول هذا إصلاحه بعدما وجد الفرصة المواتية لذلك، فابنته في خطر ولابد من الذود عنها.
حبكة مبنية
«مخطوفة» فيلم فرنسي من إنتاج لوك بيسون الذي يصنع أفلامه على غرار هوليوودي كاميل. أخرجه بيير مورَل الذي صاغ حكاية عميل جهاز أمني حكومي سابق اسمه برايان (ليام نيسون) يعيش سعيداً مع زوجته (فامكي جانسن) وابنته كِـم (ماغي غرايس) التي تطلب الإذن لتسافر إلى باريس في رحلة سياحية مع صديقتها. ما أن تصل إلى هناك حتى تتعقد الأمور على نحو مفاجئ. لقد شهدتا جريمة قتل والعصابة الألبانية في إثرهما الآن وقد قررت القبض عليهما وبيعهما في سوق الرقيق الأبيض الذي تشرف عليه. قبل الخطف تنجح الابنة بالاتصال بوالدها وإخباره خطورة الوضع. ينطلق برايان على الفور إلى باريس ويلج المغامرات المتوقعة والتي تتحلّـى بسمة عاطفية نبيلة: أب يدافع عن حياة ومستقبل وشرف ابنته.
النجاح المدوي لهذا الفيلم الصغير قياساً (25 ميليون دولار كلفة و224 ميليون دولار إيراداً) لم ينتج عنه فقط جزآن لاحقان فقط هما «مخطوفة 2» لأوليڤييه ميغاتون (2012) و«مخطوفة 3» للمخرج ذاته (2014)، بل دورة كاميلة من الأفلام التي ينبري فيها الأب للدفاع عن أحد أفراد العائلة. هي عائلة متكاتفة ومحبّـة في سلسلة «مخطوفة»، لكنها عائلة أساء الأب إليها وحين عاد للدفاع عنها وجدها الفرصة السانحة لإصلاح العطب الذي أصابها بسببه.
آخر هذه الأفلام المبنية على هذه الحبكة «دم أبوي» أو Father Blood الذي أخرجه، هذا العام، فرنسي-هوليوودي آخر هو جان-بول ريشه. وفيه نجد لينك (ميل غيبسون) يقود عيشة منفصلة ووحيدة بعدما خاض ركاب الحياة الخطرة والمشاكسة طويلاً. ما نتج عن تلك الحياة انفصاله عن زوجته وابنته وانقطاع العلاقة بينه وبينهما. فجأة ابنته مطاردة من قبل عصابة مخدرات إذ أطلقت النار على صديقها الشرير الشاب واعتقدت أنها قتلته. لكنه عاش وها هو يشترك في محاولة العثور عليها وقتلها. ليس هناك من أحد تلجأ إليه سوى والدها الذي لم تشاهده منذ سنوات. فجأة هذا الأب يكتشف مسؤوليته وينطلق للذود عنها في سلسلة من الحوادت التي نشاهدها عادة في أفلام الحركة والتشويق.
لم يكن «مخطوفة» الأول الذي دار في هذا النطاق، كما سنرى، لكن السباق إلى نجاح متواصل ولو أن «مخطوفة 2» دار عن الزوجة التي تم خطفها ما يحتم على برايان البحث عنها وتخليصها، مهمّـة تساعده فيها ابنته التي اكتسبت الآن بعض خبرة أبيها في القتال والتصدي. في «مخطوفة 3» يتم التخلص من الأم (ما زالت فامكي جانسن) بقتلها باكراً في الفيلم وعليه وابنته معرفة القاتل والسبب.

بعدان متلازمان
نجد هذا الثنائي، علاوة على ما ذكرته آنفاً، في «أكاذيب حقيقية» لجيمس كاميرون (1994) حيث على أرنولد شوارتزنيغر حل معضلات حياته العائلية مع زوجته التي يعتقد أنها تخونه (جايمي لي كيرتس) مرمما في الوقت ذاته علاقته مع ابنته (إليزا دوشكو).
هذا الفيلم مأخوذ عن فيلم فرنسي في الأساس أخرجه كلود زيدي بعنوان «الحصيلة» (La Totale) ما يلفت النظر إلى أن الاتجاه لتقديم علاقة أبوية بين أب مع خبرة قتالية وابنته التي تتعلم سريعاً خلف، في هوليوود، الحكايات الأسرية الدرامية حول الأب والعائلة بأسرها.
في السياق نفسه كان الفرنسي إيلي شوراكوِي حقق فيلماً عنوانه «رجل على النار» (Man on Fire) حول حارس شخصي (سكوت غلن) مكلف بحماية فتاة صغيرة مهددة بالقتل في إيطاليا (قامت بها جاد مالي). المهمّـة تشهد ولادة شعور أبوي لم يكن بطل الفيلم قد اكترث له ولم يرغب به إذ لم يسبق له الزواج ولا الرغبة في تأسيس العائلة.
الرواية كتبها القاص البوليسي البريطاني فيليب نيكولسون الذي توفي في مالطا قبل عشر سنوات تحت اسم مستعار هو A.J. Quennell وعنها كذلك تم اقتباس الفيلم الأميركي بالعنوان ذاته، ذلك الذي أخرجه الراحل توني سكوت سنة 2004 من بطولة دنزل واشنطن في دور الحارس الشخصي الذي يندفع لحماية عائلة ثم للانتقام لها بعدما تم تكليفه بحمايتها. الدائرة هنا اتسعت لتشميل منحى مشابهاً في أساسه وهو شعور بطل الفيلم بالألفة حيال عائلة ليست عائلته.
في كل هذه الأفلام وسواها هناك بعدان متلازمان يمكن للمرء، ناقداً أو مشاهداً، أن يسبر غورهما إلى أي حد يبغيه. البعد الأول هو أن العائلة المتحدة في مواجهة الخطر التي يحميها الأب القوي المتماسك، وهذا البعد اجتماعي- سياسي كون هذه الفئة من الأفلام سريعاً ما تتدرج صوب الترميز إلى الوحدة العائلية كرمز للوحدة الوطنية ضد الغرباء.
البعد الثاني هو نفسي وتتبع في خط عام ما أسسه فرويد ويونغ من أن عاطفة الفتاة تتجه صوب الأب وعاطفة الابن تتجه صوب الأم.
طبعاً ما قاله فرويد لا ينطبق على كل الأحوال، لكن البعد السيكولوجي قابل للتطبيق دوماً والسينما استعارته على نحو مطرد سواء هدفت للبحث النفسي والعاطفي أو توقفت عند حدود الحكاية ومواقفها التشويقية.
الضحية والصياد
في العام 1961 حقق المخرج البريطاني ج. لي تومسون «كايب فير» (Cape Fear) وفيه يتماثل البعد الأول على نحو رائع (أعاد المخرج مارتن سكورسيزي صنع الفيلم سنة 1991). لدينا عائلة بودن المؤلّـفة من المحامي سام (غريغوري بك) والزوجة بَـغي (بولي بيرغن) والابنة الشابة نانسي (لوري مارتن). طبعاً لحبكة الكاتب الروائي جون د. مكدونالد (تحت عنوان «المنفّـذون») العائلة مرتاحة مادياً. تعيش في سلام ووئام. يميلأ البيت رحيق الألفة والرعاية. الزوج عقلاني ومثقف. كل شيء مثالي وبل نموذجي.

إلى هذا البيت الآمن يتقدم ماكس (روبرت ميتشوم) الذي كان المحامي تسبب في إيداعه السجن لسنوات طويلة. ماكس يريد الانتقام ومخالبه تبدأ بنهش هذه اللُـحمة العائلية مهدداً سلامة الزوجة و-على الأخص- سلامة الابنة العذراء هنا يحدث الخلل الذي سعى رب العائلة لتجنّبـه واعتقد أنه فعل: حتى يستطيع التغلب على شرور ماكس وخططه في الهيمنة على مصير العائلة عليه أن يترك دور الضحية ويتحوّل إلى صياد، بذلك سينحدر من المستوى «الإنساني» و«الحضاري» إلى المستوى الأدنى كشرط للإنتصار على هذا الخصم الخطر.
هذه الحبكة المعقدة نفسياً واجتماعياً (بفضل الرواية التي هي من بين أفضل ما خطه الكاتب المعروف لهواة الروايات البوليسية) استفادت من المعطيات المتوفرة وصاغت للمشاهد الظرف الجاهز لهذا التحوّل.
بعض هذا الوضع متردد في «كلاب قش» Straw Dogs الذي حققه سام بكنباه بعد عشرة أعوام عن رواية أخرى (عنوانها «حصار مزرعة ترنشر») لغوردون وليامز.
هذه العائلة مؤلفة من زوجين فقط (داستين هوفمان وسوزان جورج) فقط. هو أيضاً شخص منتم إلى مستوى اجتماعي مثقف وراق. الأعداء هنا هم مجموعة من شبان القرية التي قرر الزوجان العيش فيها. هؤلاء يستهوون المرأة ولا مانع لديهم من القتل وصولاً إليها. وهي (أحكم هنا على الفيلم كوني لم أقرأ الرواية) تجزع من احتمال اغتصابها، ثم تقبل به وعندما يتم الاعتداء عليها لا تقاوم. أما الزوج فإن السبيل الوحيد لكي يؤدي دوره الذكوري هو القيام بما لم يفكر القيام به من قبل: قتل المقتحمين. بذلك كلاهما (الزوج وزوجته) أزالا قناع الحضارة ومارسا دوراً لا يناسب مستواهما الاجتماعي.
الموتى- الأحياء
لكن ليس كل الخيارات متساوية. والمسألة قد تعني في كثير من الأحيان القراءة عميقاً بين السطور حتى لو كانت هذه السطور تبدو واضحة.
مفهوم العديد من النقاد العرب صوب أفلام الرعب هي أنها أفلام تخويف لا ترتقي إلى ما يودون البحث فيه من «أعماق» و«طروحات». لكن معظم هذه الأفلام مكتوبة ومنفّـذة بروح اجتماعية المنشأ توجه سهامها، مهما صغرت، صوب ما يتبدى عالماً آمناً، وهو في الواقع مزيف.
النموذج الذي سأختاره من بينها، وهي متعددة، هو «ليلة الأحياء الموتى» The Night of the Living Dead.
في العام 1968 قام شاب Çسمه جورج أ. روميرو بتحقيق فيلمه الروائي الأول هذا. أحدث بذلك تغييراً عاصفاً في أنماط سينما الرعب. ليس الفيلم الأول في التاريخ الذي يتحدث عن البشر الذين يتحوّلون، بسبب فيروس غريب، إلى موتي- أحياء يأكلون اللحم البشري، بل الفيلم الأول الذي أسس لسينما مختلفة في هذا المجال عن كل ما سبقها.
في مطلع الفيلم أخ وشقيقته يزوران، عند المساء، قبر والدتهما. من بعيد يقترب شخص لا يتبيناه. حين يقترب يهاجم الشقيق ويقتله. تهرب الشقيقة بالسيارة وهي في حالة هلع شديد. تأوى إلى بيت في الريف. إليه يأوى هرباً من الزومبيز شاب أسود، ثم يكتشفان أن هناك عائلتين سبقتاهما وآوتا إلى غرفة تحت الأرض.
لب العلاقات الداخلية في هذا البيت- الذي يحاصره الزومبيز ويحاولون اقتحامه أكثر من مرّة- هو بحث عائلي: الشقيق والشقيقة في مطلع الفيلم (وليس صديق وصديقة مثلاً)، ثم عائلة مؤلّـفة من رجل أبيض وزوجته الشابة ينويان البقاء حيا وليس لديهما أي اعتراض على أن يتولّـى الشاب الأسود القيادة. لكن رب العائلة الثانية المؤلفة منه ومن زوجته وابنته، يغلف حقده وعدم ثقته بقيادة الأسود للحظات الحياة والموت الحرجة باعتراضات تتسبب في ضعضعة العائلة البيضاء التي ينتمي إليها. ليس هذا فقط، بل نرى أن ابنته مصابة بالفيروس وهي تتحوّل إلى زومبي. الأمر لا يحتاج إلى عدسات مكبّرة لمعرفة أن المقصود هنا هو انهيار العائلة الأميركية البيضاء (أو ربما يحتاج لأن أحداً لم يعلّـق على هذا الموضوع من هذه الزاوية).

آباء وأبناء
«قتلت ابني وسأقتل ابنك».
يقول شون (إد هاريس) لجيمي (ليام نيسون) في فيلم آخر من بطولة نيسون حول الدفاع عن العائلة والذود عنها هو «الهرب طوال الليل» (Run All Night) لجوام كويت-سيرا. بوليسي- تشويقي داكن يؤدي فيه ليام دور رجل محترف القتل سابقاً آل إلى العيش بعيداً عن حياة الضرر السابقة إلى أن يتسبب ابنه الشاب بقتل ابن رئيس العصابة شون. لا شيء سيشفي غله سوى الأخذ بالثأر. طبعاً سيتصرف جيمي كما يمكن لأي أب آخر أن يتصرف: سيدافع عن ابنه وينتصر له أخطأ الابن أم لم يخطئ.
هذا الفيلم أحد الأعمال التشويقية القليلة التي تصوّر العلاقة بين أب وابنه، باقي الأفلام التي خرجت خلال السنوات القريبة الأخيرة (وعلاوة على ما تم ذكره آنفاً) دارت حول الأب وابنته.
من بينها «هانا» (إخراج جو رايت، 2011) حيث تتعلم الفتاة هانا (سواريس رونان) من أبيها (إريك بانا)، الدفاع عن النفس ضد من يحاول قتلهما (كايت بلانشيت)، و«مسروقة» (سايمون وست، 2012) حيث ينطلق نيكولاس كيدج بحثاً عن خاطف ابنته التي أودعها الأشرار في الصندوق الخلفي لسيارة تاكسي.
يختلف «ثلاثة أيام للقتل» (إخراج McG، سنة 2014) عن هذين الفيلمين في أن الأب (كيـڤن كوستنر) يريد التأكد على سلامة مستقبل ابنته (هايلي ستاينفلد) بعدما علم بأن لديه ثلاثة أيام فقط ليعيش. المهمّـة صعبة كونه لم يسع من قبل لإصلاح العطب الذي خلفه بابتعاده عن العائلة وعن لعب دوره كأب.
لا يختلف «ممحي» (Erased) لفيليب ستولتز (2012) عن المنظومة الأكثر انتشاراً: الأب (آرون إكهارت في هذا الفيلم) عميل سابق، محترف قتل، ترك عائلته ثم عاد إليها لينقذ ابنته (ليانا ليبراتو) من خطة لاختطافها وقتلها انتقاماً منها.
ما يضيفه «دم أبوي»، آخر هذه السلسلة إلى الآن، هو أن ميل غيبسون ليس عميلاً سابقاً ولا موظفا مستقيلا من وكالة أمن قومية أو حتى شرطي تخلّـى عن مهامه، بل سجين سابق يأتي به الفيلم من قاع المجرمين ليمنحه الفرصة لكي يلعب دوراً يمسح به كل أخطائه.