مهرجان أنطاليا : “ناس من لا مكان”

 
قيس قاسم
 
مثل بقية الأسئلة القلقة حول مصير الأوضاع في تركيا بعد الانقلاب العسكري الفاشل في شهر يوليو الماضي دار سؤال بين المعنيين بالسينما حول مصير الدورة الـ 53 لمهرجان أنطاليا السينمائي وما إذا كانت ستنعقد في موعدها؟ الجواب عليه جاء إيجابياً عبر الإعلان المبكر عن تاريخ انعقادها في مؤتمر صحفي أشار فيه منظموها إلى تقريب موعدها، فبدلاً من شهر نوفمبر كما هو معتاد  أصبح في السادس عشر من أكتوبر، وكأنهم بذلك أرادوا التأكيد على جاهزية المهرجان واستمراره كما منحوا الدورة شعارا مبهجاً؛ “نور السينما يشع من أنطاليا” تلميحاً للمدينة الساحلية الساحرة، حاضنة أحد أعرق المهرجانات السينمائية، وأيضا إلى قوة حضور السينما التركية عالمياً.
 
في المقابل لم يغب تأثير الانقلاب عن جو المهرجان كلياً فظهر من خلال استحداثه خانة سماها (كسوف الشمس) وعنها قال مدير المهرجان أليف داغديفرين في مقابلة مع صحيفة (ديلي صباح) بنسختها الإنكليزية “حاولنا فيها عرض أفلام عالجت موضوعات الديمقراطية وحقوق الإنسان وسعت لتجسيد حياة الناس ومعاناتهم في ظل الانقلابات العسكرية ليس في تركيا وحدها فحسب، بل في بلدان أخرى مثل؛ تشيلي، الأرجنتين، اليونان والبرازيل”.
بدوره أعلن المهرجان عن استحداث خانة “ناس من لا مكان” تزامناً مع موجات الهجرة التي يشهدها العالم اليوم ولإغنائها زودت بأحدث الأفلام التي تناولت الحدث الآني وأغلبيتها وثائقية كالحائز على جائزة الدب الذهب في برلين “نار على البحر” للإيطالي جيانفرنكو روزي، الذي أعدّه النقاد مرجعاً للسينما المُعالجة لموضوعات الهجرة إلى جانب فيلم “هؤلاء الذين قفزوا” وتناول فيه مخرجوه الثلاثة أوضاع المهاجرين الأفارقة في أوروبا ورحلاتهم المحفوفة بالمخاطر إليها.
 
 
شبابية .. متجددة
في مسعاه المستمر لتطوير السينما التركية وبوصفه منصة لانطلاق أعمالها الجديدة إلى العالم أسس المهرجان “بلاتفورم” بعنوان “الفيلم غداً” يراد به إتاحة فرص أكبر للسينمائيين الشباب لتوصيل أعمالهم إلى الأسواق السينمائية العالمية ومحطات التلفزيون، كما يقوم بدعم مشاريعهم مالياً وفي هذا الجانب زاد المشرفون عليه من قيمة الجوائز الممنوحة للأعمال التركية الفائزة بها، تشجيعاً لهم ولإشاعة روح المنافسة بينهم، وبدوره يشهد المهرجان توسعاً، فقد أقام له مركزاً جديدا أطلق عليه اسم “الهرم الزجاجي” ليستوعب فيه نشاطاته ومكاتب إداراته إلى جانب فتحه مجالاً أوسع لجمهوره حتى يقابلوا ضيوفهم ويلازموهم خلال العروض والندوات من خلال مشروع جديد سميّ؛ “طريق المهرجان”. 
 
أما توجهه التنافسي هذا العام فأراده شبابياً، على مستوى التفكير والإنجاز فاقترح على مسابقة هذا العام للأفلام التركية الروائية الطويلة أعمالا جلها أولى أو ثانية في أحسن الأحوال لمخرجين شباب، توافقاً مع سعيه لرفد السينما الوطنية بدماء جديدة وموضوعات غير تقليدية لاحظنا وجودها بين اثني عشرة فيلماً تنافست على نيل جائزة “البرتقالة الذهبية” شعار المهرجان والرامزة لوفرتها في مقاطعة أنطاليا الجنوبية.
على المستوى الاجتماعي تبرز قضية المرأة والموقف منها بوضوح في أكثر الأفلام التركية بوصفها مرآة فنية عاكسه للمجتمع ويكفي الإشارة إلى أن نصف أفلام المسابقة هي عمل أول تناولت بشكل ما العلاقات الأسرية التركية فيما اختارت ثلاثة أخرى الطفولة موضوعاً لها، ويكمن تميّز معالجة بعضها عن سابقاتها بجرأتها وحيوية طرحها كما لمسناه بقوة في فيلم “تردد” للمخرجة “يشيم أوستاغلو”، المشارك في “أسبوع النقاد” في دورة كانّ الأخيرة وليس بعيداً منه على المستوى الفني والفكري هناك “حلم” لـ”درويش زايم” الميال إلى استحضار النظرة الفلسفية في فيلمه من خلال شخصية المعلم المتناقض والمتنازع الميول بين الانتماء إلى التاريخ والماضي وبين رغبته في التلائم مع العصر.
 
 
فيما تغامر “غوزدي كورال” في فيلمها الأول “الغبار” في الذهاب إلى أفغانستان ومن هناك تقترح مقاربة مثيرة تسرد خلالها حكاية ثلاثة أخوة يمضون في رحلة عبر أراضي بلادهم، ليكتشفوا ماذا صنعت الحرب بها.
أما الممثل المحبوب “رضا  سونمز” فيجرب الوقوف في فيلمه الطويل العنوان؛ “لا تخبر أورهان باموق بأني أستخدم جزء من روايته “الثلج” في فيلمي حول كارس خلف الكاميرا لأول مرة في حياته الفنية لينسج سينمائياً حكاية موسيقار يعاني من إصابات في عيونه ويُقيِم في “كارس” المدينة التي جرت فيها أحداث رواية باموق “ثلج”.
 
على مستوى المسابقة الدولية للأفلام الروائية الطويلة يلجأ المهرجان مثل بقية المهرجانات، التي تتغذى على عروض المهرجات الكبرى كبرلين وكانّ وفينيسيا إلى تمييز نفسها عنها بحزمة أفلام فيها خصوصية المكان والتجارب ولم تستهلك بعد في المهرجانات، وقطعاً ليست بالضرورة عروضاً عالمية أولى كفيلم “مفرق 48” للإسرائيلي “أودي آلوني” الحائز على جائزة الجمهور في برلين، والذي أثار ردود فعل قوية ضده في إسرائيل نتيجة للكلام القاسي وانتقاده الشديد لها أثناء تسلمه الجائزة وكلها لا تصل إلى مستوى تعريته للعنصرية فيها وقساوة مؤسستها العسكرية في التعامل مع الفلسطيين كما جاءت في منجزه. 
 
الفيلم عن مغني راب فلسطيني أراد اقناع صديقته مشاركته تسجيل وتقديم أغاني في مناطق الـ 48 لكنه واجه عنصرية بغيضة وعاني مثل غيره من أبناء الشعب الفلسطيني من ممارسات قمعية تمثلت في هدم بيوتهم وتهجيرهم منها. 
 
الفيلم على المستوى الفني امتاز بالحيوية وبالسخرية اللاذعة من اسرائيل وآلتها العسكرية، وهناك أيضاً “ملك البلجيك” لبيتر بروسينز، الذي يجمع الواقع بالخيال وينقل ملك البلاد إلى اسطنبول في رحلة ممتعة ليصحى بعدها على واقعه ضمن حكاية شديدة الغرابة. 
 
في المسابقة تتنوع مصادر الأفلام ومستوياتها لكن ما يميزها هذه المرة إشراك روائية تركية بينها ما سيزيد من حدة المنافسة ويشدد مراقبة النقاد على قرارت لجنتها، التي يترأسها المخرج هوغ هودسون، وبالمناسبة سيعرض له خارجها فيلمه الجديد “التامارا” المُستَعيد من خلاله حكاية مكتشف أقدم مغارة في التاريخ البشري في إسبانيا ويحمل الفيلم اسمها. من بين أعضاء فريقه المخرجة الفلسطينية نجوى نجار صاحبة؛ “المر والرمان” و”عيون الحرامية”. 
 
 
عربياً أيضاً سيحظى جمهور أنطاليا بمشاهدة الفيلم اللبناني “فيلم كتير كبير” لميرجان بوشعيا، وأخرى ذات صلة بالموضوع العربي مثل “عاصفة رملية” والوثائقي الإيراني “حدث ذات مرة في مراكش” وفيلم الممثل المحتفى به المزدوج الجنسية (الفرنسية/ الروسية) جيراد ديبارديو؛ “الرحلة الفرنسية” حيث يقارب فيه مخرجه رشيد جيداني حكاية جيلين مختلفين وثقافتين تتقاربان خلال رحلة تقصي أثر الرسام الفرنسي جوزيف فيرنت، فيما تعيد أفلام قصيرة الموضوع السوري بقوة، ومن بين أكثرها مدعاة للاهتمام فيلم “Lamorde” عن امرأة سورية تصل مع ولدها إلى تركيا بعد فقدان زوجها في الحرب. المخرج “أمير كربينال” يلتقط قوة عزيمتها على الاستمرار في الحياة وفي ذات الوقت يعكس من خلال علاقات الأتراك بها حجم الخراب والدمار الذي لحق بروحها وبلدها. وفي هذا السياق يجدر الذكر أن مهرجان أنطاليا يدمج مسابقاتي القصير والوثائقي سوية ليُوفر مساحة أكبر لعرضها ويضمن استقبالاً جماهيرياً جيداً لها. 
 
تكريم واحتفاء
 
على المستوى العالمي تحتفي الدورة بمنجز الممثلة الفرنسية “أودري تاتو” وسيعرض لها فيلمها الشهير “أميلي” المقرون اسمها على الدوام به، والذي يعده النقاد بين أفضل الأفلام الأوربية على مدى تاريخها. أما على المستوى الوطني فسيجري الاحتفاء باسمين مهمين في السينما التركية الأول؛ “يلماز غرودا” الممثل الذي، عرف منذ أواخر الخمسينات من خلال مشاركته في فيلم “سيد الجبال التسعة” ولعب بعده أدواراً كثيرة، بعضها سيُقدم خلال أيام الدورة الحالية المنعقدة ما بين 16 إلى 23 أكتوبر الجاري. 
 
اسم يلماز يكتسب معنى أكبر حين يقترن بمساهمته في تأسيس “الحركة الزرقاء” وبفضلها صار أيقونة سينمائية يتذكرها الأتراك كلما استعادوا ذكريات الفن السابع وإنجازاته فيه لأكثر من من ستة عقود. “أمل ساين” الممثلة المتألقة منذ سبعينات القرن الماضي وبشكل خاص في حقلي الموسيقى والغناء. يحضر عنوان أشهر أفلامها “دقات القلب” بقوة كلما جرى الحديث أيام السينما الراقصة. الاحتفاء بها سيتجسد بعروض وجوائز. 
إلى جانب كل ذلك يحرص المهرجان على احضار وتقديم أهم ما معروض في العالم ولا يُفوت الأفلام الحائزة على أكبر الجوائز لهذا ستتاح فرصة نادرة لجمهور المدينة المستضيفة ليشاهدوا تحفاً مثل؛ “أنا، دانيال بليك” للبريطاني كين لوتش الفائز بالسعفة الذهبية، وفيلم “نيرودا” لبابلو لارين والوثائقي الأمريكي “أيام صفر” لأليكس غيبني وفيلم خافير دولان “ليس نهاية العالم” وغيرها العشرات، ما يجعل أنطاليا بحق واحداً من أهم المهرجانات العالمية على مستوى العروض والمشاركات والتنظيم.     
 
   

إعلان