“حكايات الغريب” .. جوهرة الغيطاني الغائبة
Published On 18/10/2016

رامي عبد الرازق
من بين قافلة جيل الستينيات الأدبية التي ظلّت أعمالها الروائية والقصصية تدور في فلك الكلمة المكتوبة دون أن يتسّع أمامها الأفق السينمائي أو شاشات الدراما التليفزيونية يعتبر جمال الغيطاني (1945 -2015) أكثر أبناء هذا الجيل حظا وأكثر نماذج هذا الجيل تعبيرا عن الهوة الواسعة ما بين أدب الستينيات وبين الوسائط البصرية والدرامية التي وجدت أعمال الجيل السابق (نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي) طريقها إليها بشكل وصل إلى حد انتظار الرواية الجديدة من اعمال هذا الأديب (الكبير) أو ذاك لكي تتحول إلى فيلم سينمائي أو سهرة تليفزيونية – وقت أن كان لهذا اللون الدرامي خطه الإنتاجي والإبداعي الخاص – أو فيلم تليفزيوني فيما بعد خلال سنوات الثمانينيات، ثم مسلسلات درامية خلال عقد التسعينيات والألفية الجديدة.
في لقاء خاص عام 2010 جمع كاتب هذه السطور بصاحب الزيني بركات وحكايات الغريب قال الغيطاني أنه لم يشاهد أي من الأعمال السينمائية أو الدرامية التي اقتُبست عن كتبه التي تجاوزت الستين، وأن الجميع نصحه بمشاهدة عملين فقط، الأول هو فيلم حكايات الغريب (1993) الذي اقتبسه محمد حلمي هلال إلى السينما من إنتاج التليفزيون المصري وإخراج انعام محمد علي، والثاني هو مسلسل الزيني بركات (1996)الذي أعد له السيناريو والحوار والمعالجة الدرامية الكاتب محمد السيد عيد وأخرجه يحيى العلمي، على الرغم من أن الغيطاني – كما سبق وذكرنا – صاحب رصيد كبير من الأعمال التي اقتُبست لوسائط الصورة بالمقارنة لأبناء جيله ويكفي أن نذكر منها مسلسلات مثل سنوات الغضب وحارة الزعفراني وفيلم كلام الليل إخراج إيناس الدغيدي الذي تحول من قصة اجتماعية ذات بعد سياسي عميق عن الدولة البوليسية التي يتحول فيها المخبرون إلى قوادين إلى فيلم تغلب عليه مشاهد العري والدعارة وفجاجة الجسد في مقابل ضحالة الفكر والمغزى.
جوهرة الحكايات
أين تكمن إذن مساحة الهوة الواقعة ما بين جيل الستينيات الأدبي بكل قوته وزخمه الروائي المكدس بالشخصيات والتفاصيل والقراءات الاجتماعية والسياسية لواقع المجتمع المصري وبين طاقة الاقتباس الدرامي والسينمائي القادرة على إعادة تقديم تلك الأعمال إلى قاعدة جماهيرية أوسع، بل والتعاطي معها جدليا في سياقات يمكن أن يُستخلص منها ما يتجاوز الحقبة الزمنية الضيقة، إلى أفق الإجابات العامة والأفكار الخالصة ذات الامتداد الزمني والوجداني الصافي وغير المحكوم؟
ربما تصبح الإجابة على ذلك السؤال الافتراضي عبر العودة إلى بدايات تعاطي السينما مع أعمال الغيطاني تحديدا كنموذج لأدباء الستينيات والتي انطلقت عام 1988 مع فيلم أيام الرعب إخراج سعيد مرزوق ومن تمثيل محمود ياسين ومرفت أمين ثم فيلم حكايات الغريب عام 1993 إخراج أنعام محمد علي وبطولة محمود الجندي وشريف منير ومحمد منير.

وربما تكتمل الإجابة بعنصر أساسي هو محور الجسر الفاصل ما بين الأدب ووسيط الصورة وهو عنصر (اللغة السينمائية) القادرة على اقتباس وهضم وإعادة إنتاج الدرامي المكتوب في مقابل الدرامي المرئي، حيث استطاع أدباء الستينيات بلورة أساليب سرد وتقنيات حكي ولغة وموضوعات وتفاصيل ورؤى مغايرة تماما للجيل السابق عليهم – رغم قوة جيل الكبار وتطوره المستمر – وبالتالي أصبحت رواياتهم وقصصهم البعيدة عن البناء الكلاسيكي التقليدي الذي يسهل التعاطي معه دراميا أكثر تمنعا على تقنيات السرد البصري النمطية أو السهلة.
تبدو تجليات الأسلوب السردي المتفرد الذي اشتهر به الغيطاني في تعامله مع صيغ حكائية تشبه الواقع ولكنها لا تطابقه مثل إنذارات الفصل أو تقارير الملفات الحكومية أو المذكرات الخاصة بين الإدارات أو محاضر الشرطة أو حتى المذكرات الشخصية وما إلى ذلك حيث يبذل القارئ جهدا في تجميع قطع الحكاية من الأوراق المتناثرة هنا وهناك واستكمال ما لم يرد فيها سواء بالخيال أو التصور بالاضافة إلى شعوره بخشونة الواقع ذاته.
وهنا يمكن تحديد مجموعة عناصر فارقة في تعامل اللغة السينمائية مع نص حكايات الغريب للوقوف على جماليات الاقتباس الفيلمي وجدلياته في التالي:
الشخصيات / المكان / صوت السرد / حضور الصورة / المونتاج والزمن.
تبدأ قصة حكايات الغريب بمذكرة عن اختفاء سائق عربة توزيع الصحف عبد الرحمن محمود وتوجّه لجنة من ثلاثة موظفين في المؤسسة الصحفية التي يعمل بها للتحرّي واستقصاء مصير السيارة الفورد والعهدة اللذان ينتميان إلى أموال الدولة والقطاع العام وأخيرا السائق المتغيب عن العمل للوقوف على موقف المؤسسة من فصله أو تأديبه.
وتدور القصة في دائرة المذكرات الحكومية والتقارير الجانبية التي يدونها الموظفون الثلاث الجواهري وطايل أفندي وشفيق أفندي ولقاءاتهم مع أهل السائق المتغيب في القاهرة ثم مع من صادف أو التقى أو زامل السائق المتغيب خلال فترة حصار السويس المعروفة بحرب الـ 100 يوم والتي استمرت منذ توقف إطلاق النار يوم 24 اكتوبر عام 1973 وحتى أوائل عام 1974 حين تم فك الحصار وانسحبت القوات الإسرائيلية.

قام السيناريست محمد حلمي هلال بدمج شخصيات الموظفين الثلاث في شخصيتين فقط أحدهما موظف كبير في شئون العاملين وهو طايل المصري، ومساعده شوقي الموظف القح الذي لا هم له سوى السيارة والعهدة أو كما يقول لأم عبد الرحمن في زيارتهم الوحيدة لها (ابنك يا حاجة معاه عهدة تودي ف حديد) بينما يبدأ طايل المصري موقفه كموظف يؤدي مهمة رسمية بلا قلب كل ما يشغله فيها هو المستندات، إلى شخص آخر يقرر الانضمام إلى مجموعة البحث عن الغريب المتغيب منذ نهاية الحرب – حيث زمن الملاحم ومعادن الرجال الأصيلة التي حررت البلد من المستعمر الغازي وليس موظفي الدولة وأضابيرهم البيروقراطية التي يرى الغيطاني وهلال أنهم ورثوا عن أمثال الغريب المقاتل شرفا لا يستحقوه -.
ثم يمتدّ بناء الشخصيات إلى المجتمع الذي يريد السيناريست التعبير عنه عبر النص فيضيف شخصيات حسن/ شريف منير صديق طفولة عبد الرحمن والذي يظهر بشكل عابر في القصة الأدبية كواحد ممن زاملهم عبد الرحمن في السويس خلال المقاومة لكنه هنا يصبح هو وسيد/ محمد منير وعبد الرحمن نموذج لجيل النكسة الذي عايش سنوات الحرب فتغير معدنه وانهارت أحلامه وتبدلت أولوياته وتشظى إحساسه بالمستقبل أو كما يتبدى في حوار سيد وعبد الرحمن (واحد زمانك يا سيد كان زمانه فنان كبير) فيرد سيد (واحد غيري كان زمانه ضرب..النكسة يا عبد الرحمن النكسة جابت عاليها واطيها).
وفي مقابل الصراع مع قوة الغياب المجهولة والغامضة في القصة يخلق هلال طرف آخر ليخوض عبد الرحمن صراعه ضده ويصبح ذلك الطرف جزء من حالة الغياب أو الموت المترصد لعبد الرحمن من قبل أن يذهب لكي يوزع الصحف في السويس وقت الحرب.
هنا تبرز شخصية شفيق – وهو اسم الموظف الثالث في القصة – والتي قدمها بشكل متوازن ودون ابتذال أو نمطية الممثل الراحل حسين الإمام ثم يصبح أن يكون ثمة تجسيد لما يمكن أن يكون متنازع عليه ما بين عبد الرحمن وشفيق مدير الجمعية الاستهلاكية – وهي مهنة معبرة عن طبيعة المتاجرين في أقوات الشعب والمتهربين من خدمته وهي الطبقة التي يهاجمها هلال بضراوة في الفيلم مستغلال نص الغيطاني في إشاراته المتتالية لاستشراء سرطان البيروقراطية وغياب الفكر الإنساني في إدارة شئون الدولة – هذا التجسيد يتجلى في جميلة أخت حسن وحبيبة عبد الرحمن التي ينتزعها شفيق بإغراء أبيها بالمال لتصبح معادل رمزي واضح لفكرة المحتل الداخلي الذي يتجاوز في قبحه ودمامته وفساده المحتل الخارجي، فمحتل الروح أكثر خطرا وإيلاما من محتل الجسد وحكايات الغريب تتحدث في جوهرها كنص وكفيلم عن فكرة ضياع الروح والشخصية المصرية الأصلية التي تظهر وقت الشدائد ثم لا تلبث أن يطمسها الفساد وغياب الأخلاق والضمير وهي عناصر فشل أي حضارة وبداية انهيارها.
ومع اتساع مساحة الشخصيات السينمائية تغير المكان من أرض العطوف في الجمّالية حيث يسكن عبد الرحمن وهو الحي الأقرب والأكثر تميزا في أدب الغيطاني إلى أحد أحياء قاهرة الستينيات ذات المساكن الشعبية التي بناها عبد الناصر في الستينات للطبقة المتوسطة والتي نراها في أكثر من لقطة تأسيسية من الخارج وكأننا أمام حضور واضح لمجتمع يوليو الذي عاش مرارة الحلم المتكسر او كما تقول أم عبد الرحمن ( مكناش ملاحقين.. فؤاد مات في الحرب اللي فاتت وأمل بنت زينب في المدرسة اللي ضربوها اليهود) وفؤاد هو أخو عبد الرحمن الكبير رمز الجيل الذي ضاع مع ضياع الأرض في 67 وزينب ذات الست سنوات ابنة أخت عبد الرحمن التي قتلت في بحر البقر رمز ضياع المستقبل.

في النص الروائي يحكي الغيطاني حكايات الغريب عبر تقارير الأستاذ الجواهري وملاحظات طايل أفندي والتحريات التي تجريها لجنة تحري مصير العهدة والعربة وفي الفيلم يستخدم هلال صوتين للسرد الأول هو الراوي العليم الذي يبدأ من مذكرة تشكيل لجنة تصفية العهدة مرورا بالذهاب إلى بيت عبد الرحمن ثم السفر إلى السويس لاستقصاء الحقيقة والثاني هو سرديات الذاكرة أي ينتقل بنا البناء الدرامي في كشف متسلسل ومثير لحكاية عبد الرحمن في القاهرة والسويس عبر ذاكرة كل من حسن وسيد وجميلة، وهما الانعكاس الوجداني والاجتماعي والنفسي لعبد الرحمن والذي يشكل معهم عبد الرحمن وحدة فكرية واحدة هي جيل سنوات النكسة والحرب. ولا يقع هلال في فخ ذاكرة الآخرين ممن عرفوا عبد الرحمن أو الغريب في السويس فقط يقدم لنا الحكايات المروية على لسانهم والتي تحول عبد الرحمن إلى أسطورة شعبية على حد قول شوقي لطايل (اللي يعرف صورته وما يعرفش اسمه واللي يعرف اسمه وينكر صورته).
ويأخذنا الحديث عن صوت السرد إلى الحديث عن المونتاج والزمن حيث يتحرك الفيلم عبر بناء مفتت زمنيا ينتقل ما بين 1970 حيث يموت عبد الرحمن نفسي ومعنويا عبر ضربات شفيق الشخصية من ناحية (زواجه من جميلة) وعبر ضربات القدر السياسي والاجتماعي (استشهاد أمل وموت عبد الناصر) من ناحية أخرى وبين 1974 حيث زمن ما بعد الغياب أو زمن التحول إلى مخلص مفقود وجوده رهن بعودة الروح الأصلية أو كما يعبر عنه النداء الأخير في الفيلم (صاحب الصورة غائب من 24 اكتوبر اللي فات من بحري قبلي الصعيد..السويس الإسماعيلية بورسعيد مش مهم الاسم عبد الرحمن..الغريب..زخاري) هذا التفتيت الزمني يفيد بغياب اليقين من وراء مصير عبد الرحمن وفي نفس الوقت يدمج حاضر الغياب مع ماضي الخسارات الموجعة لكي يخلص السيناريو إلى أن السبب في غياب الغريب لم يكن الحرب وحصار السويس ولكن الفساد الداخلي والإيذاء القادم من الباطن وليس من الخارج.
صحيح أن حلمي هلال استطاع ان يخلق خط موازي يحكي عبرة لمحات من تاريخ السويس الباسل في مقاومة الحصار الإسرائيلي ولكنه نجح أيضا بشكل خلاق في مزج الخاص – واقع عبد الرحمن وصحبته – بالعام – حصار السويس ومقاومة الإسرائيلين – ليضع كل من شفيق والعدو الصهيوني بين قوسين لتتأكد فكرة عدو الداخل.
وقد سهل عملية تفتيت الزمن البنية السردية الخاصة بالحركة داخل الذاكرة الجمعية عن عبد الرحمن لحسن وسيد وجميلة ما بين ما قبل الغياب وما بعده.
ولأن الفيلم لا يحمل نظرة تشاؤمية تفيد استحالة العثور وإنما الامل في عودة الغريب ذات يوم او على حد قول طايل المصري في تقرير الأخير( أن السائق عبد الرحمن محمود عبد الرحمن أو أيا كان اسما قد منحنا شرفا أرجو أن نستحقه) ولأن السيناريو في أساسه هو حكي بصري أو كما قال المخرج الفرنسي روبير بريسون (سرد الرياح بالماء الذي تنحته في عبورها) أصبحت الصورة (صورة عبد الرحمن) هي المعادل البصري الأساسي في تجسيد أسطورة الغريب ونسج حكاياته الغامضة المثيرة عنه أو كما يقول المؤرخ الشعبي الذي تلتقي به مجموعة البحث (ده من أبطال معركة الأربعين وكوبري الزراير وكوبري الهويس..ولد ما جبتهوش ولادّه) حيث تصبح صورة عبد الرحمن هي المحك البصري والسردي الرئيسي في تفجير الحكايات والتي تظهر منذ اللقطات الأولى بالفيلم في ملف خدمته مرورا بصورته على حائط منزل الأسرة وأمه تحكي عنه (أصغر ولادي .. طول عمره صابر وحمّال أسيّه .. لا تعب قلبي ولا شغل بالي) ثم انتقال الصورة من يد عسكر كمين المرور الذي أطلق عليه كمال وصولا إلى وجود نسخة أخرى منها على حائط منزل الحاجة/ هدى سلطان التي تفتح لمجموعة البحث بابها ممسكة بمصباح غازي بدائي وكأنها شخصية غرائبية تقيم في عالم متخيل قائلة (أيوه ابني .. كل عيل من عيال السويس يبقى ابني).
لقد استطاع هلال أن يفك شفرة السرد الأدبي بتقنيات الصورة والمونتاج والتفتيت الزمني وهي عناصر اللغة السينمائية الرئيسية التي مكنّته من إنجاز نص فيلمي يعتبر نموذج أمثل لدراسة آليات الاقتباس السينمائي للنصوص الأدبية مهما بلغ النص درجة من الغموض والانغلاق والتمنع على المعالجة الدرامية بل وصنع حالة من تكامل الرؤية ما بين نصّه البصري وبين نص الغيطاني الأدبي، ليصبح بحق حكايات الغريب واحد من الجواهر السينمائية ذات البريق الغائب عن أبصار الكثيرين من محبي السينما والأدب على حد سواء.