وثائقيات أنطاليا .. مقاربات القرية والمدينة
قيس قاسم
متابعة الأفلام التركية خلال الدورة الـ 53 لمهرجان أنطاليا السينمائي الدولي ومشاهدة حزمة من الوثائقيات الجديدة تؤكد للأسف الانطباع السابق عنها؛ كونها لم ترتقِ إلى مستوى الروائية، التي تشق طريقها بجدارة إلى العالمية عبر أسماء لامعة مثل نوري بيلغي جيلان وغيره، ما يثير أسئلة عن الأسباب الكامنة وراء ذلك ومقدار لعب المعاهد السينمائية والأكاديميات دوراً في تعليم طلبتها مبادىء صناعة الفيلم الوثائقي.
مشكلة معظم المعروض أنه يستسهل الكلام والمقابلات (الصحفية) وتغيب عنه الحكاية ولهذا تضطر تلك الأعمال إلى تكرار نفسها، ويغدو الأمر أكثر استدعاءً للاستغراب حين يغيب الخيال عن الكثير منها حين يكتفي صناعها بنقل الواقع كما هو دون إضافات جمالية ولا جرعات من الفنتازيا في حالات كان من المفترض أن تحضر فيها بقوة. خير مثال على ذلك منجز الممثل القديم والقادم الجديد على الإخراج “رضا سونمز”؛ “لا تخبر أورهان باموق بأني استخدم جزء من روايته “الثلج” في فيلمي حول كارس” الذي مهّد لقص حكاية المغني والمؤلف الموسيقي الأعمى “يوكسيل” بخيال سينمائي جميل تمثل في الفرقة الموسيقية المخفية عن أعين البشر وأظهرهم بزيهم التركي التقليدي وكأنهم ملائكة سعادة يلاحقون المغني أينما حل ويعزفون له مقطوعة واحدة تكررت طيلة زمن الفيلم، لكنه لم يستغل الفكرة بالكامل وبدلاً من الذهاب عبرها بعيداً في أجواء سحرية تتحملها الحكاية، عاد سريعاً ليدخل إلى الحقل الوثائقي “التقليدي” ونسى أنه فيلم “دوكيودراما” يجمع النصين الروائي والوثائقي غير أنه مال أكثر إلى التوثيق المباشر فقدم مدينة “كارس” من خلال نص رواية “ثلج” لبرهان باموق الحائز على جائزة نوبل للأدب.
أفضل ما فيه تقديمه مدينة تركية صغيرة تعيش حاضرها على مجد رواية، بل أكثر من هذا ظهرت شخصيات منها استغلت شهرة النص الأدبي للارتزاق منه فيما راح آخرون يبتكرون وسائل يوثقوا من خلالها الأماكن والشخصيات التي وردت فيها مثل الحلاق “كازم”، الذي انشغل بتصميم وطبع “معايدات” من وحيها والفيلم بدوره توقف عنده طويلاً بوصفه أحد العناصر المساعدة لعرض نصه المُتمحور حول مسعى الموسيقار الأعمى لجمع أفراد فرقته الموسيقية ليقدموا عرضاً خاصاً لمسؤول سياسي في المدينة، يعارض أصلاً موقف “باموق” المؤيد لحقوق الأكراد والمطالب بتقديم دولته اعتذارً عن دورها في مجازر الأرمن. محاولة التجميع وتجوال المغني في أحياء المدينة قدم تصوراً مهماً عنها وعن ثقافتها وتاريخها بمصاحبة الإيقاعات الموسيقية الجميلة. كان لنص “رضا سونمز” الروائي الأول أن يأتي أجمل لو تمتّع صاحبه بحس إخراجي جيد ونظر إلى المادة المسجلة بوصفها خامة تتحمل الكثير من الإضافات واللمسات الخلاقة.
يلاحظ في دورة هذا العام هيمنة موضوعات المدينة والتغيرات التي حدثت فيها وعلاقة الناس بها في أغلب الوثائقيات لدرجة يمكن من خلالها ملاحظة غياب موضوعات سبق أن سيطرت على المشهد السينمائي التركي خلال العقد الأخير مثل؛ الحرب والتصادم الثقافي بين الأغلبية والأقليات ما يُعزّز احتمال “هروب” السينمائيين منها إلى عوالم أقل إشكالية وحدّة، على غرار وثائقي “يونس أوزان”؛ “قصص مدينتي في الأطراف”، متخذاً من “التشظي” وسيلة لعرض أكبر كم من الحيوات والمهن في أطراف مدينته الساحلية الجميلة: أضنة. يعرف صانعه مدينته جيداً ويعرف كيف يُسَهل لكاميرته تسجيل تفاصيل الحياة فيها وعرضها على المشاهد بأبهى صورة. لم يترك مهنة أو مفصل من مدينة “أضنة” وضواحيها لم يصل إليه “أوزان”. بدأ بمربي الحمام وولعهم الذي يصل إلى حد الهوس.
من هناك من سطوحها استغل فرصة عرض مشهد عام واسع للمدينة وأزقتها وعلى الأرض راح يصور الأسواق الشعبية والمشتغلين فيها من حرفيين وكسبة مثل؛ القصابين وبائعي “الكوارع” ويحادث الجالسين فيها لينتقل عبر أحاديثهم إلى المطبخ “الأضني، وبما يميزه عن بقية مطابخ تركيا المترامية الأطراف. عمل ممتع يُأخذ على صانعه استغراقه في المقابلات ولو اختصر بعضها لجاء شاملاً مكثفاً عن مدينة تستحق التسجيل لعراقتها ولجمالها وسهولة العيش فيها.
ليس بعيداً عن أجوائه يأخذنا “تشريح الخسارات” إلى مدن تركية مختلفة شهدت تغيُرات على مستوى العمران وعلى مستوى العلاقات الإنسانية فيها وغلبة “العصرنة” على تقاليد ثقافية كانت الجورة والتضامن المجتمعي أقوى بكثير مما هي عليه في اليوم. اختار المخرج “حسن أوزغن” شخصيات من الطبقة المتوسطة عاشت المرحلتين؛ القديمة بكل انتمائها الثقافي والحضاري؛ الإسلامي والعثماني والجديدة المتأثرة بالثقافة الغربية. حلاوة ذكرياتهم وسهولة تعبيرهم عن أفكارهم جعلت من الفيلم واحداً من أمتع الأعمال المتناولة المكان وعلاقة البشر به، وأيضاً لذكائه في مسّ التحولات الجارية في المجتمع ومأزق الهوية التركية المتنازعة بين أصولها وبين رغبتها في التقرب من أوروبا بحكم الجوار الجغرافي، الذي يؤثر فيها ويجرها إلى مواقع جديدة تفرز تناقضاَ أخلاقياً حاول عرضه “تشريح الخسارات” عبر معادلة: الخسارة والربح. فكل مدينة يزورها ويخضعها للتشريح البصري يتولد هناك دوماً شعور عند سكانها بأنهم ومدينتهم قد خسروا أشياء كثيرة بسبب توسعها ودخول “متطفلين” عليها في نفس الوقت يقر بعضهم بأرباح جنتها بسبب الانفتاح العمراني وتوسع شبكات المواصلات.
المدخل إلى كل مدينة صوره بكاميرا ديجيتال مثبتة على طائرة بدون طيار ما ساعد على توفير مناخات استهلالية رائعة لكل مدينة دخلها فيلمه، الذي باختصار يُعدّ من بين الأفلام القليلة التي ساعدت الحوارات على تمتين بنائه الدرامي، ولهذا يمكن تقديمها نموذجاً على الاستخدام الناجح لوسائل التعبير الشفاهية حين توظف بشكل صحيح وتصب في مصلحة الفيلم لا ضده كما يحدث في كثير من المحاولات لا في تركيا وحدها فحسب، بل في كثير من دول العالم ما زالت تضع الوثائقي بالمرتبة الثانية بعد الروائي، وبالطبع هناك دوماً استثناءات لافتة مثل الفيلم الصيني “يوميات قرية” للمخرج “جياو بو” والمعروض ضمن “نظرة مقربة على السينما الصينية” وفيها وثائقيات تختلف تواريخ إنتاجها لكن بمجموعها تعطي صورة جيدة عن مستوى تطور الفيلم الوثائقي في البلد الآسيوي الأكبر والمنتقل بدوره إلى مرحلة تاريخية جديدة تلازمها تحولات مجتمعية تمسّ بالضرورة طبيعة الحياة في مدنها وقراها.
يكسر “جياو بو” الصورة المثالية المأخوذة عن القرية الصينية الوادعة والخالية من المشاكل بل على العكس يقترح في نصّه الرائع تقديمها بكل مشاكلها وتناقضتها ثم الذهاب إلى المسببات التي تقف وراء أكثر الظواهر حدة مثل؛ انتقال أغلبية سكانها منها إلى المدينة لصعوبة الحياة فيها وغياب فرص جيدة لشبابها كتلك المتوفرة في المدن الكبرى، مثل الدخول إلى الجامعات والعمل في مؤسساتها. يترك مخرجه لتحقيق هذين المستويين لأفراد القرية حرية التحرك أمام كاميرته ويعطيهم فسحة كافية من الوقت للتآلف معها، لهذا جاء نصه عفوياً فيه الكثير من المصداقية. تشكل تفاصيل حياة العائلات التي يلازمها صورة عامة وحية عن القرية الصينة وعلاقة أفرادها فيما بينهم إلى جانب الوجود الدائم للحزب الشيوعي الصيني كطرف مشرف على تنظيم شؤونها، له سطوة القرار.
رغم بساطة سكانها يظهر تناقض دائم بين ممثل الحزب وبين العوائل المكافحة بكل السبل لتأمين موسم زراعي جيد وبيع محصوله في الأسواق بأسرع ما يمكن خوفاً من فساده. كل عائلة لها مشكلاتها الخاصة وحين يجمعها الوثائقي بخيط رابط يكبر حجمها ويصل إلى مستوى “صورة” لصين اليوم كما هي في الواقع وبعيداً عن الدعاية، التي تحاول جاهدة تغييب ما يتركه النمو الرأسمالي واتباع سياسة السوق على حياة القرى البعيدة، كما يؤثر دخول الوسائل العلمية الحديثة على نوعية منتجات مزارعيها ما يشير اإى تصادم ناشىء معبر عنه بمواجهات بين سكان القرية بحيث يغدو مشهد التشاحن اليومي مألوفاً والحسد ظاهرة طارئة لكنها في اتجاه المكوث طويلاً على الضد من العلاقات القديمة التي كانت تعتمد التعاون وسيلة لاستمرار الحياة. ركز “يوميات قرية” على الجانب الكوميدي كثيراً وأظهر من خلال مشاهد معبرة عن واقع الريف الصيني ورغبة شبابه في تركه نحو المدينة، ما يطرح معه سؤالاً جوهرياً حول مصير الزراعة في هذا البلد ومصير رئة المدن الكبرى.
المؤشر الجديد الذي يمكن رصده في حزمة وثائقيات أنطاليا يتمثل في توجه عدد غير قليل من صناعها ومدراء تصويرها إلى (الطائرة بدون طيار) للاستعانة بها في تصوير المشاهد الواسعة من علوٍ بدلاً من الرافعات، وما يشي ربما بظهور مرحلة جديدة تغزو فيها “الطائرة” عالم الوثائقي كما سبق وأن غزته كاميرات الديجتال !