ختام أنطاليا: الجائزة للسوريين !
Published On 30/10/2016

قيس قاسم
إهداء التركي “مندرس صامانغيلار” جائزته كأفضل ممثل تركي في الدورة الـ53 لمهرجان أنطاليا السينمائي الدولي إلى جيرانه السوريين “الذين يفقدون أولادهم كل يوم في مياه البحار” تأكيد جديد على المشتركات الإنسانية، بيننا وبين الجارة تركيا، وأيضاً على الخصوصية، كونه بلداً مسلماً يجاور عديد الدول العربية ويتأثر بما يجري فيها.
وربما كلماته المؤثرة التي قالها أثناء استلامه جائزته المستحقة ووصف فيها حال المهاجرين السوريين في بلاده تدلل على ذلك؛ “كلما رأيتهم في الشوارع يحترق قلبي، فليس من السهل أبداً على الإنسان أن يترك وطنه ويعيش تحت ظروف قاسية، يعاني الذل والغربة. إن لم نشاركهم آلامهم لن يبقى هناك أي شيء له معنى!”.
وفي الحقل السينمائي نحن معنيين كثيراً بالسينما التركية لقربها منا بالمعنى الجغرافي والثقافي والتاريخي وبالتالي معرفتها جيداً والتحري عن أسباب وصولها إلى العالمية ينبغي أن تكون من بين أولويات اهتمام العاملين في السينما العربية، بخاصة حرية تعبيرها وإقبال الناس عليها وهذا ما لا يمكن تجاهله. فالعروض كلها، لا التركية فحسب، حظت بمشاهدة كبيرة وكان حصول الصحافيين على مقاعد شاغرة بين الجمهور غاية في الصعوبة، وقد يكون تبرير منظمّيها بتقليص حصتهم لناحية تشجيع مواطنهم على مشاهدة أفلام نخبوية يعطيهم الحق في ذلك. من طرف ثانٍ يشي حضور أهالي مدينة أنطاليا بكثافة لأغلب فعالياته وعروضه برغبتهم في مشابهة غيرهم من الشعوب الشغوفة بحب السينما وإبداعاتها، والعارفة جيداً أهمية دورها في مقاربة وملامسة موضوعات حيوية بلغة بصرية مكثفة لا تتوفر عند بقية وسائل التعبير الإبداعية، وربما في تجربة المخرجة “يشم أوسطاغلو” وفوز فيلمها “تردد” بجائزة أفضل فيلم ضمن المسابقة الدولية لدورة هذا العام ما يستحق التوقف عندها.
لا تكف “أوسطاغلو” عن محامكتها الذكورية التركية، والتي ظهرت بسطوع في “أعراف” و”رحلة إلى الشمس” وعادت وأكدتها في تحفتها السينمائية الأخيرة “تردد” وفيه ذهبت بعيداً في التعبير عن الاختلال الحاصل بين الجنسين في المجتمع التركي.

وإذا كانت العلاقة قد عُبر عنها في أعمال سابقة من خلال تكرار مشاهد العنف الجسدي والحدة في التعامل، فهذة المرة تتخذ من الجسد ممراً للعبور إلى الجانب النفسي من المشكلة الاجتماعية، التي لن تتراخى المخرجة في تجسيدها بأعلى درجات المصارحة والمكاشفة حين جعلت من بطلتها الطبيبة النفسانية مثالاً لنفاق الطبقة الوسطى وشكلانية حريتها، وعلى المستوى السردي أكدت أيضاً نفسها كسينمائية تعرف كيف تروِّض فنها للتعبير عن أفكارها حول الجسد واحتياجاته واختلاف النظرة إليه وغالباً ما يتجنب المخرجون الأتراك الخوض فيه وتجريب نقله على الشاشة، وربما لأول مرة في السينما التركية يقدم الموضوع عبر مشاهد متأنية تفضح مكمن العلة وتبوح بتفوق ذكوري يُجيز انتهاك المرأة، ويأخذ في الطبقات الفقيرة شكل أعراف مجتمعية ممرّها الزواج التقليدي والمبكر، كما في حالة الطفلة التي جيء بها إلى المستشفى وقد وصلت حافة الانهيار بعد قتلها زوجها وحماتها، وخضعت لفحص نفسي قامت به الطبيبة (الممثلة “أكم أوزون” فازت على دورها بجائزة أفضل ممثلة تركية) وسيتضح لنا فيما بعد بأنها هي الأخرى تعاني من اضطرابات نفسية مكتومة لعدم انسجامها مع زوجها وميله لعلاقات حميمية خارجية وانشغاله داخل البيت بمشاهد أفلام إباحية إشباعاً لغزائزه الجسدية المنفلتة.
يبدو الجميع في منجز التركية متردداً في حسم مواقفه من الآخر، وبسبب التعقيدات النفسية المتراكمة فإن الحسم قد يأتي كارثياً. لا تستنكف “أوسطاغلو” من إعلان انحيازها لـ”أنثوية” واعية تميل إلى النقد والتحليل، لا إلى الشعارات أو تقليد الغير. فهي تنتمي إلى واقعها وتعرف كيف تقدمه سينمائياً دون تحفظ وربما هذه هي فضيلتها الأهم إبداعياً. تعرف كيف تقول كلمتها وتمضي تاركة أمر قبوله للآخر وما منح لجنة التحكيم جائزتها الكبرى لفيلمها إلى جانب جائزتي الإخراج والتصوير سوى تحصيل حاصل لمنجز يمكن اعتباره واحداً من بين أفضل النتاج التركي خلال العقد الأخير، لجرأته في التوقف عند العُقَد الاجتماعية التركية والتعبير عن أكثر تمظهراتها إشكالية، ونعني به مفهوم الجسد وطريقة تناوله بمسؤولية بعيداً عن الإثارة الرخيصة.
فيلم “تردد” يُحيلنا الى التفكير في موضوع حرية التعبير البصري في بلد ما زال لم يحسم أمر هويته بعد ولم ينتهِ من مشكلاته القومية التي أخذت في فيلم “جناحا والدي” طابعاً اقتصادياً اجتماعياً نال عليه بطله جائزة أفضل ممثل تركي ضمن المسابقة الوطنية للأفلام الروائية الطويلة، لعب الممثل “مندرس صامانغيلار” دور عامل بناء قادم من المناطق الكردية، يصاب بالسرطان قبل إتمام دفعه فوائد القرض البنكي، الذي استلفه لشراء شقة لعائلته، وبسبب عمله البعيد عنها كان يكتفي بالتواصل معها عبر الإنترنت.

يتميز منجز “كيفانتش سيزر” بانحيازه إلى جماليات الصورة وكثافة الحوار ومس المشكلة الكردية من باب طبقي لا يميز أبطاله عن بقية المُستَغلين في تركيا إلا بدرجات بؤسهم، فأصحاب المصالح ومشاريع البناء الكبيرة لا يفرقون في خديعتهم بين الكردي وغيره، ولكن بالنسبة للعمالة المهاجرة يتضاعف الحيف عليها لأنها في الأصل فقيرة وغالباً ما تعمل في مدن بعيدة ولا يتوفر لها فيها وضعاً مريحاً كما نرى في تجربة عمال “جناحا والدي” الذين لم يستلموا رواتبهم لعدة أشهر، في ظل مراوغة صاحب المشروع وعدم تفكيره باستحالة عيش عوائلهم بدونها.
عمل “سيزر” يوسع مساحة سرده ليصل الى العلاقات العاطفية للعمال المعدومين وتضامنهم فيما بينهم، في نفس الوقت يشير إلى انحياز بعضهم تجاه مستغليهم، عبر إغواء المال وطمعاً في التقرب من “السلطة” التي لا تكف بدورها عن حمايتهم والوقوف معهم ضد بشر كل همهم؛ تأمين حياة سوية، يدفعون من أجلها عافيتهم كما جسدّها الفيلم بمرض العامل الكردي وعدم رغبته في إخبار أسرته بحقيقة وضعه الصحي، الذي وضع نهاية له وذلك برمي نفسه من علوٍ، ليعتقد الجميع أن سقوطه كان حادثاً عرضياً غالباً ما يتعرض له عمال البناء لعدم توفر ضمانات وحماية كافية.
أراد بانتحاره الحصول على التعويض البسيط لتدفع به زوجته بقية أقساط البنك لكنها ستواجه خديعة ومكر المُستغلين ولينتهي الفيلم بفاجعة تسلط الضوء على الجانبين القومي والطبقي في تركيا وحرص صاحب الفيلم الرائع على تقديمها بلغة سينمائية توفرت على كل عناصر النجاح والاحتراف، ولهذا لم يكن ترشيحه لنيل الجوائز أو الفوز بها مفاجأة لأحد، لأن العمل الجيد في النهاية يفرض نفسه على الجميع وهذا ينطبق بدرجة كبيرة على الفيلم الحائز على الجائزة الكبري للمسابقة الوطنية “الدراجة الزرقاء” للمخرج “أوميت كوركن” وأفضل وثائقي “مصارعون شباب”، كما نجد ذات المواصفات في الفيلمين؛ الجورجي/الروسي الحائز على جائزة التحكيم للمسابقة الدولية “بيت الآخرين” والإسباني الحاصل على أفضل سيناريو “الباب المفتوح”.
دورة هذا العام انتهت بأحكام عادلة للجان تحكيمها يندر أن نجد مثيلاً لها في مهرجانات أخرى رغم نسبية الصح والخطأ في كل حكم صادر عن لجنة تحكيم دورة سينمائية ما، لكن الإشارة هنا إلى القوة التي تمتعت بها الأفلام التركية وهيمنة الجيد منها على أغلبية الجوائز، أما الدولية فالأمر يبقى نسبياً لأن أفلامها لا تمثل بالضرورة أفضل الموجود خاصة إذا ما عرفنا الظروف التي أحاطت بانعقاد الدورة بعد الانقلاب العسكري الفاشل، ويبدو أن قرار مواصلة المهرجان قد اتُخذ بعجالة رغم تقديم موعده بدلالة غياب أفلام قوية كان بإمكان منظميه توفيرها بسهولة، وأبسط مثال على ذلك قلة مشاركة الأفلام العربية لا سيما فيلم “اشتباك” المعروض في مهرجان كانّ السينمائي.
ولأننا في الحديث عن العربي فاختيار المخرجة الفلسطينية “نجوى النجار” لعضوية لجنة تحكيم المسابقة الدولية وفوز الممثل “تامر نفار” بجائزتها لأفضل ممثل عن دوره في فيلم “مفرق 48” لم يغيّب السينما العربية بالكامل عن مشهدها الاحتفالي، كما أتاحت لجمهورها فرصة مشاهدة أغلبية الأفلام الحاصلة على جوائز المهرجانات الكبرى مثل؛ كان، برلين، فينيسيا وغيرها. من المعروض التركي يمكن التدليل على قوة السينما في البلد الجار وتوفرها على كل عناصر الديمومة والاستمرارية.
