“آخر واحد فينا”

 
رامي عبد الرازق
 
ضمن فعاليات مسابقة العمل الأول خلال خمسينية أيام قرطاج السينمائية (28 أكتوبر- 5 نوفمبر) شهدت الدورة السابعة والعشرون تنافسا لثلاثة عشر فيلما طويلا ما بين الوثائقي والروائي لمخرجين من مصر ولبنان وتونس والجزائر وأوغندا وسوريا والمغرب يتنافسون خلال واحدة من أقوى برامج المهرجان هذا العام.
 
من بين الثلاثة عشر فيلما تشارك تونس بفيلمين من أهم التجارب التي عُرضت خلال العام السينمائي الأخير، الأول هو “نحبك هادي” للمخرج محمد بن عطية والذي استطاع انتزاع جائزة أحسن ممثل وجائزة أحسن فيلم (عمل أول) ضمن فعاليات مهرجان برلين الأخير، والثاني هو “آخر واحد فينا” للمخرج علاء الدين سليم الذي حاز على جائزة أسد المستقبل وجائزة أفضل إسهام تقني في مهرجان البندقية لهذا العام.
 
وينافس كل من الفيلمين التونسيين أفلام ذات بهاء فني معروف ربما أبرزها “أبدا لم نكن أطفالا” من مصر لمحمود سليمان، و”مسافة ميل بحذائي” من المغرب لسيد خلف والذي يعتبر الفيلم المغربي المرشح للقائمة الطويلة للأوسكار، كذلك الفيلم السعودي المبهج ذو الطابع النقدي “بركة يقابل بركة” لمحمود الصباغ.
 
كما الإنسان الأول 
 
في المشهد الأخير من فيلم “آخر واحد فينا ” يقف المهاجر الأسمر عاريا كما الإنسان الأول أمام شلال ضخم وسط الغابة التي يعيش بها، مغبر الوجه أشعث الشعر ليظن المتلقي أنه ينوي أن يستحم بعد أن قضى أياما غير معدودة في الغابة وحيدا هائما يطارده القمر في المساء، إلا أنه وعلى خلاف ذلك التصور الواقعي التقليدي وعبر تقنية المزج المونتاجية يذوب الجسد الأسمر العاري في لقطة بعيدة داخل المحيط الأخضر المائي الذي يقف بداخله، وكأنه أخيرا استردّ الشئ الذي كان يبحث عنه أو حقّق الغاية التي قطع المسافات الطويلة من أجلها.
 
هذا فيلم مراوغ في معطايته الإنسانية والسينمائية، في البداية يبدو وكأنه فيلم عن الهجرة غير الشرعية وطريقها الوعر ومحطاتها التي تتنوع ما بين الاعتداء والهرب والسرقة والنوم في الطرقات ومقاسمة الطعام مع قطط الشوارع، لكنه تدريجيا وفي النصف الثاني مع وصول المهاجر الأسمر إلى أحد الشواطئ البعيدة التي لا ندري هل هي محطته الأخيرة أم أنها فُرضت عليه بحكم المسافات والإصابة، في النصف الثاني يكشف الفيلم عن نواياه الحقيقية خاصة عندما يلتقي المهاجر الأسمر برجل عجوز يسكن الغابة التي تقع خلف الشاطئ البعيد والذي يبدو وكأنه هو نفسه المهاجر الأسمر ولكن قبل سنوات، ليجتمع الحاضر والمصير في اجتماع المهاجر الأسمر والعجوز الصامت صاحب النظرة القلقة والحواس الحيوانية التي تدربت على التقاط أخف الأصوات في تلك الغابة الخالية.
 
 
صمت، تجريد وضوء طبيعي 
 
لا يدع لنا الفيلم مساحة يقين بأي شئ، بل يتركنا لتأويل التفاصيل حسب المطروح منها، فالبعض قد يراه من منظور سياسي يتحدث عن تفاصيل رحلة هجرة غير شرعية انتهت بصاحبها ببعض العناء إلى تحوله لإنسان بدائي يعيش على اصطياد الحيوانات البرية في غابة مجهولة، والبعض قد ينظر إليه من زواية الارتداد الفلسفي للجنس البشري بعد أن وصل إلى قدر هائل من التطور والمدنية لكنه بفقدانه للروح الإنسانية الحقيقية فإنه سوف يعود مرة أخرى كما بدأ، وكأنه رجل الكهف الأول بعد أن كان إنسان المدن الأخيرة، وهو ما يمكن أن نرصده بذلك الانتقال البيئي بصريا منذ مشاهد البدايات التي تنطلق من الصحراء حيث نرى المهاجر الأسمر وزميله الذي لا يلبث أن يفقده بعد محطة قصيرة، ثم المدينة التي يدخلها خلسة والشوارع التي ينام فيها ملتحفا الفراغ وصولا إلى البحر الذي يتسلل عبر شاطئه بعد أن سرق مركبا صغيرا إلى أن يصل للغابة التي هي المجاز الأخير في تلك الرحلة، وقد تحول إلى شبه حيوان يقع في فخاخ الذئاب المنصوبة، وينتظر على يديه وقدميه أن يلقي له العجوز الذي التقى به قطعة من لحم قط بري.
 
وقد ينظر البعض للفيلم من زاوية الدعوة إلى الهجرة الداخلية أي إلى داخل الإنسان ذاته ليعيد اكتشاف نفسه ويتخلص من أدران الحضارة المدنية غير المتكافئة والتي تدفعه فيها الأوضاع السياسية والظروف الاقتصادية إلى خوض التهلكة برا وبحرا ربما أملا في الوصول إلى مكان أفضل.
 
ولكن حتى ذلك المكان ربما لا يختلف كثيرا عن المدينة الأولى، أليست الغابة بقوانينها وشريعتها وقسوتها البرية في مستوى ما من مستويات المجاز، هي ذاتها المدينة التي تجمل وجهها بالبنايات والشوارع ولكنها ظلّت تحتفظ بقلب الغابة الموحش !
إن تعدد مستويات التأويل في الفيلم – أو أي عمل فني – لا يكون نابعا فقط من الأفكار التي يطرحها العمل ولكنه يأتي من امتزاج شكل الفيلم مع مضمونه، أي الأدوات السردية والحكائية المستخدمة في طرح الفكرة والموضوع بحد ذاته، ومن هنا يمكن الوقوف على عدد من العناصر التي قام المخرج بالاشتغال عبرها لتحقيق هذا المستوى من تعدد التأويلات.
 
 
على مستوى شريط الصوت حافظ المخرج على غياب الحوار بشكل أساسي وبدون افتعال، خاصة في النصف الأول من الفيلم الذي يحتك فيه المهاجر الأسود بشخصيات أخرى يستلزم التواصل معهم الحوار بشكل واقعي وطبيعي ولكنه استطاع التحايل على ذلك – مذكرا إيانا ببعض مشاهد الفيلم المصري فرش وغطا للمخرج أحمد عبد الله – حيث تغطى الأصوات المحيطة على حوار الشخصيات بشكل يحول دون سماعها، ولكن عبر تتابع اللقطات يمكن بسهولة الوقوف على ماهية الحوار الدائر خاصة في المشاهد الأولى التي يبدو من الجليّ فيها أنه اتفاق على التهريب غير الشرعي للمهاجر الأسمر وزميله عبر الحدود بعد أن اجتازوا الصحراء سيرا على الأقدام.
أما في النصف الثاني بعد أن يطأ المهاجر أرض الغابة ثم يلتقي بالعجوز الذي ينقذه من فخ الذئاب ويعالج قدمه فإن الحوار المعدوم بينهم يبدو منطقيا لأن هذا الرجل يبدو وكأنه قد نسي اللغة تماما من كثرة ما عاش في تلك الغابة وحيدا هائما كأنما هو هنا من قبل اختراع اللغة أو بعد موت اللغة ذاتها، بل أننا لا نجد بينه وبين المهاجر الأسمر أي صعوبة في التواصل بلا لغة سوى نظرات العيون – والفيلم هو حكاية تروى بالنظرات كما نعلم – .
 
إن غياب الحوار أو تحييده بهذا الشكل هو جزء من تقليص مساحة اليقين بأي شئ وهو أيضا جزء من العنصر التالي من عناصر السرد ألا وهو التجريد، حيث أن اللغة قيد ومعلومة وكلاهما ضد التجريد في صناعته الأثيرة، اللغة تعني الجغرافيا والتاريخ والظرف الاجتماعي والسياسي والمعلومات الملقنة وغيابها عن شريط الصوت، هو مدّ خط الخيال والفكر على استقامتهم، نحن أمام مهاجر أسمر قادم من الصحراء هذا هو ما يكفينا من معلومات – بصرية – لكي نتخيل البقية أو لا نتخليها ولكنها مؤنة ذهنية تصلح للانطلاق منها وترتيب آلية التلقِّي. 
 
وكما تنتفي اللغة تنتفي الجغرافيا بمفهومها المحلي فنحن لا نعلم في أي بلد نحن، نحن أمام قادم من الصحراء إلى المدينة ثم متسللا عبر البحر إلى الغابة، كلها أماكن مجردة لا اسم لها ولكن يمكن أن يكون لها كل الأسماء بحسب منطق التجريد الأشمل.
 
ما نراه عبر رحلة المهاجر الأسمر هو شوارع وقطط وسيارات وصيادين وقوارب وبحر ومدينة كلها نكرات لا يوجد منها معرف واحد وبالتالي فإننا يمكن أن نتعاطى معها على اعتبار أنها تخصّنا أو تخص العالم كله الذي نحن جزء أو تفصيله منه، والحياة نفسها أليست هي ترحال دائم وسفر مستمر وهجرة من حال إلى حال حتى عند الماديين وليس فقط المتصوفة أو أصحاب فلسفات الروح؟
 
ومن أجل اكتمال عنصر التجريد وبالتالي فتح أفق التأويل والتلقّي أمام المشاهد في تعاطيه مع الفيلم، فإن المخرج لجأ إلى أسلوب بصري أقرب للسينما الوثائقية أو الدوجما وذلك في تعامله مع الإضاءة الطبيعية كجزء من عملية السرد، حيث أن اللقطات دوما ما تأتي إما في ضوء النهار أو في أضواء المصابيح اليدوية التي يحملها المهاجر الأسمر وزميله وذلك قبل أن يعتدى عليهم ويهرب المهاجر الأسمر بمفرده ويظل محتفظا بالمصباح اليدوي إلى أن تحل محله النار التي يشعلها له العجوز ساكن الصمت والغابة.
 
 
حتى مشاهد الليل نجد الكثير منها يتم التعامل معه بذكاء خاصة مع تعب المهاجر الأسمر ونومه في البحر أو على أطراف الغابة أو في حفرة فخ الذئاب، أما في المشاهد التي يوشك فيها أن يفقد عقله أو لنقل التي يبدأ تفاعله الحقيقي مع الطبيعة يتحرك باتجاه الاكتمال، فإننا نرى القمر يطارده ويسير خلفه كأنما ينير له ليله حالك الظلمة والحيرة والوحدة.
 
إن ميزة التعامل مع الضوء الطبيعي هو نقل الإحساس بأن ما نراه واقعي ربما أكثر من الواقع نفسه، وحقيقي بشكل كبير، ورغم قوة التكونيات البصرية ودقتها وتعبيريتها الواضحة في الكثير من لقطات الفيلم إلا أن أجملها وأكثرها تأثيرا يظل محكوما بكونها تشكلت دون تدخل عنصر اصطناعي أو مقحم على البيئة أو المكان كالضوء غير الطبيعي أو مجهول المصدر.
 
يحتوي واحد منا على العديد من اللقطات المفعمة بقوة التعبير البصري والتكوين الدال ذي التأثير واللمسة الجمالية خاصة في النصف الثاني من الفيلم أو ما يمكن أن نطلق عليه فصل الغابة، فمنذ أن يطأ المهاجر الأسمر الشاطئ ويدخل إلى الأحراش نجد تلك اللقطات التي تصوره بين الأغصان كأنما هو في سجن ضخم أو كأنها تنفذ عبر جسده ممزقة إياه، ولكننا بالتدريج ومع تحرره النسبي وانخراطه في الحياه البدايئة نراه دوما في لقطات واضحة بينما الغابة في الخلفية، وكأنما تخلص من القفص وأصبح اكثر قربا من التماهي مع ذاته أو أصله الأول كما في المشهد الأخير وهو يقف عاريا قبل أن تذوب اللقطة في الغابة الواسعة والشلال الدائم.
 
ولا تأتي رحلة التحرر أو الذوبان تلك إلا عبر التخلص من الطبيعة الحيوانية التي نراها في لقطة انتظار المهاجر الأسمر على قدميه ويديه لقطعة من الشواء الذي يقوم العجوز بمنحها له بعد أن انتشلها من فخ الذئب، حيث يعطينا التكوين البصري دلالة واضحة لهذا السياق لا تلبث ان تختلف مع تطور العلاقة بينهم، إلى أن يحل المهاجر الأسمر محل العجوز في الغابة بعد أن يموت العجوز نتيجة جرح غامض.
 
هذا فيلم يستحق مشاهدة متأنية وذهنية لا تتعاطى مع السطحي أو السهل أو المتاح بل تنظر إلى ما وراء الصمت وتتعامل مع التجريد لا على اعتبار أنه غامض بل مساحة تأويل حرة ومفتوحة لواقع حضاري وإنساني أصبحت فيه المسميات غير ذات معنى.
 
 

إعلان