واقع السينما التونسية: المفترق الجديد

وسيم القربي – تونس

لقطة من فيلم “نحبك هادي”

على الرغم من الإكراهات والعوائق التي تعترض السينمائيين التونسيين، لا تزال السينما تتنفس في هذا البلد الثوري، بل وتُحقِّق نجاحات استثنائية في ظلّ تراجع العديد من السينمات العربية في السنوات الأخيرة خاصّة. آخر النجاحات بالنسبة للسينما التونسية هو مشاركة فيلم “نحبك هادي” للمخرج الشاب محمد بن عطية في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الذي يقام في الفترة بين 11 و21 فبراير الجاري، خاصة في ظلّ غياب السينما العربية عن هذه المسابقة منذ أزيد من عقدين من الزمن.

الأفلام التونسية وبالرغم من بروزها على المستوى العربي، إلا أنها من وجهة نظر نقدية لم تخلق التمايز الذي نصبو إليه لتبلغ مرحلة تأسيس منهج خاصّ وخالص، بل بقيت في تنافس معهود مع السينما المغاربية واللبنانية والعراقية خاصة مع تراجع السينما المصرية والإطلالات السينمائية من الدول الأخرى.
العقليات المتكلّسة وغياب الثورة الثقافية في بلد الثورة عاملان يجعلان السينما التونسية اليوم في مفترق جديد يؤشر على ضرورة تسلّم المشعل من قبل الشباب السينمائي الواعد.

الروائي والوثائقي في السينما التونسية: أبجديات الاشتغال العميق

لم تكن نشأة السينما في تونس وليدة الصدفة، بل إنّ اقترانها بالإقحام السياسي والعسكري الاستعماري جعلها منذ البداية في خدمة المستعمر وتلبية لغاياته. غير أنّ الوعي بجمالية الصورة السينمائية جعل الرائد الراحل الطاهر شريعة يؤسِّس أول نادي سينمائي سنة 1946 ومن بعده الجامعة التونسية لنوادي السينما سنة 1950. وإذا كانت انطلاقة بعض السينمات العربية قويّة ومبشّرة بتأسيس فن سينمائي وازن، فإنّ تونس تميّزت بسنّ قوانين تنظّم القطاع وبتأسيس أول مهرجان سينمائي عربي وإفريقي وهو أيام قرطاج السينمائية سنة 1966.

السينما التونسية لم تتوقف على تأسيس الهياكل والبنيات الإبداعية، بل تجاوزت ذلك لتتعمّق الأفلام في مواضيع جادّة جعلت السينمائي بمثابة مفكّر عبر الصورة، وهو ما ساهم في طرح واقعي لهموم المجتمع التونسي وإحباطاته وآماله. عالجت الصورة السينمائية قضايا تعلّقت بالمستعمر وبالملاحم الوطنية المقاومة، وأخرى نقدية تجاه السياسة السياحية والاقتصادية، ليتم التطرّق في ما بعد إلى مسألة “التابوهات” التي اخترقتها الصورة الفيلمية التونسية لتبرز خباياها كاشفة عن قضايا تتعلّق بالجسد الأنثوي والهيمنة الذكورية.

الاشتغال العميق برز خاصة من خلال سعي حركة سينما الهواة وحركة نوادي السينما إلى معالجة سينمائية بصيغة الغواية وتحميل الصورة بسهام نقدية مباشرة وهو ما جعل أفلام هاتين الحركتين بمثابة الصورة المزعجة للنظام. استمدّت أفلام الهواة مرجعيتها الفكرية من أرضية ثقافية خاصة وسينمات نضالية، واستطاعت أن تثبت هذا الاشتغال الجادّ خاصة من خلال أفلام وثائقية يمكن أن نذكر على سبيل المثال مجموعة جريئة استطاعت أن تنتج المعنى مثل فيلم “الكرسي” لمروان المدب وفيلم “الجدار” لفتحي بن سلامة وفيلم “الصفارة” لرضا بن حليمة.
لعلّ ما يحيلنا إلى جدّية السينما التونسية هو أنها تأسّست بصيغة مشروع ثقافي، فكري وجمالي من خلال أبجديات واثقة، غير أنّ المشهد الذي كان مواكبا لخطوات الحداثة الفكرية الأوروبية، لم يمنع من خروج هذه السينما عن الخطّ منذ عقد من الزمن تقريبا بشكل جعلها تتأرجح بين العادي والسلبي.

متطلبّات إعادة البناء وضبابية المفترق الجديد:

بوستر فيلم “الشلاط” لكوثر بن هنية

في ظلّ عشوائية الدواليب وتداول وزراء ثقافة بمقام تسيير وليس بتصوّر فكري، تظلّ الثقافة ومنها السينما في مأزق، خاصة وأنّ التراكمات وتغلغل اللوبيات في هذا الميدان أصبح يفرض مسيّرا حديديا حتى يعيد الاعتبار لهذا القطاع، وقد يتأجّل ذلك خاصة بعد تعيينات أخيرة فيها الكثير من المحاباة.. تكلّس العقليات، والتسيير الفوقي وسيطرة مجموعة بذاتها على أموال الدعم السينمائي الوطني، جعل تمويل العديد من الأفلام التونسية إهدارا للمال العام في زمن ثقافي ووضع عصيب تعيشه تونس.
إمساك نفس الوجوه بدواليب السينما، خاصة في ظلّ صمت السينمائيين أنفسهم وخوف العديد منهم على إقصاء أو حرمان مستقبلي من المال العام، جعل الصمت يولول خاصة وأن العديد من المبدعين باعوا مبادئهم من أجل مصالح مسبقة التحديد.

الكسل الإبداعي والتفكير التجاري الانتهازي وسياسة المحاباة في تمويل الأفلام وغياب مسؤول حقيقي وعارف يمسك بزمام الأمور جعل من السينما التونسية (وقياسا على ذلك سينمانا عامة) ثابتة لا تصنع التمايز ما عدا محاولات أغلبها بإرادة فردية ومستقلة استطاعت أن تثبت ذاتها… أفلام عديدة تمّ تدعيمها من طرف الدولة لم تخرج أصلا لقاعات السينما، وأخرى لم ترتقي صورتها إلى مستوى ما منحته الدولة من أموال وهو ما يفضي إلى تساؤل واحد: أين ذهبت بقية الأموال؟
أسئلة من كمّ يُثيرها الوضع السينمائي في تونس وهي تقريبا نفس التساؤلات في الكثير من البلدان العربية، ولعلّ من العاجل جدّا إحالة المنتجين والمخرجين، الذين أثبتوا فشلهم، على التقاعد الوجوبي. كما أنّ الشباب الذي أثبت نجاحاته على غرار كوثر بن هنية ومحمد بن عطية وأنيس الأسود وغيرهم مطالبون بتسلّم المشعل من الجيل الأول من السينمائيين التونسيين.

سينمائيا تتموقّع تونس في مفترق طرق، ويجب أن يتمّ سريعا إعادة النظر وبناء مشروع جادّ خاصّة وأنّ عدد قاعات السينما يناهز 14 قاعة فقط بكامل تراب الوطن، كما يتوجّب الانشغال العميق بالتكوين والكتابة والتوظيف وإيجاد بدائل جمالية تؤسِّس لسينما مختلفة.
ولعلّ الدعم في حدّ ذاته يحتاج إلى موازنة، حيث تمّ خلال هذه السنة دعم فيلمين وثائقيين فقط من جملة دعم 23 فيلم، وهو ما يؤكد غياب استراتيجيا واضحة في التصوّر الثقافي في ظلّ تهميش الوثائقي.

إشكاليات وطموحات، أحلام وآمال سينمائية لا تكلّ من انتظار تغيير عميق في المشهد السينمائي التونسي أملا في التمايز والتموقع في صلب الخارطة السينمائية العالمية، وهو ما يجعل رياح التغيير مهمّة في انتهاج طرق إبداعية تخرجنا من مفترق صعب ورهانات متاهة متعددة.


إعلان