حفريّات جمالية في السينما والأدب

كتاب أمل الجمل “اللغة السينمائية في الأدب، دراسة مقارنة بين تاركوفسكي وشريف حتاتة”

عبد الكريم قادري

تاركوفسكي

نسجت السينما منذ اكتشافها وإلى يومنا هذا، شبكة من الروابط المتينة والمُتلاشية في الوقت عينه مع الفنون الأخرى، واحتوت العديد منها، بعد أن أذابتهم في متنها، وعلى إثرها تولّدت نقاشات هادئة مرة، وحادة مرات، على مدار عقود من الزمن، وطُرحت الكثير من الأسئلة الجوهرية حول ماهيّة هذا الفن وجوهره، بعد أن استطاع في وقت وجيز أن يستوعب في بوتقته شريحة واسعة من الجماهير، التي تأقلمت مع هذا الوافد الجديد نسبيا، ما خلق نوع من التعالي، جعل  الناصّ بغض النظر عن النص الذي يُنتجه من (قصة، شعر، موسيقى، رقص، غناء، رواية، …إلخ ) يُنظر بازدراء للفن السابع، ويعتبره وافدا هجينا انتقص من أهميته وهيبته الإبداعية، من هذا المُنطلق فُتحت أبواب النقاش والجدل، التي تناولت العلاقة بين السينما والأدب، ومدى ملامسة كل واحد منهما للعناصر الفلسفية والتقنية، المُؤسسة على الرؤى الهادفة، والإستيطيقا، التي تضمن البقاء، إذ ما كان السند قويّا ومُقنعا.

من هنا كان لزاما على الباحثين والدارسين، خاصة العرب منهم ـ بحكم غياب المراجع والبحوث في هذا الميدان ـ  أن يتناولوا هذه العلاقة بتجاذبها وتصادمها، ويُعيدون اكتشاف آليات السينما المخفيّة، ومدى تأثُّر الرواية  بها، وقد جاءت دراسة الناقدة السينمائية الدكتورة أمل الجمل، “اللغة السينمائية في الأدب، دراسة مقارنة بين تاركوفسكي وشريف حتاتة”، الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام الشارقة، كي تُسهم في سدّ هذه الفجوة.

استندت الناقدة أمل الجمل في كتابها على المنهج “السيميولوجي”، لتُغني بحثها التحليلي في الأفلام والروايات، وتُسهّل من عملية الكشف عن كُنهها الدلالي والمعرفي، وما يتضمنّه متن كل واحد فيهما من علامات، أيقونية، رمزية، إشارية، وسمعية بصرية، خصوصا وأنها دراسة مقارنة بين السينمائي الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي (1932-1986)، والروائي المصري شريف حتاتة (1932)، إذ استحضرت بالنقد والتحليل أعمال كل من الشخصيتين المذكورتين، أفلام الأول، وكتاباته التنظيرية، وروايات الثاني ومواقفه، ناهيك على أنها تعرضت لحياة كلاهما، إذ كان التقاطع بينهما في الكثير من المحطات، سواء من خلال التعسُّف الذي مورس ضدهما، والقتل المعنوي الذي حدث لكلاهما، بسبب العديد من المواقف والأعمال، إذ أن طريق تاركوفسكي كان مليئا بالشوك والسموم، وتم محاصرته من طرف أجهزة الاتحاد السوفيتي، بسبب مواقفه و”ثيمة” أعماله، وعدم انصياعه لرؤاهم الأيديولوجية.

وفي هذا تقول الباحثة عن هذا القتل المعنوي ” حقّق تاركوفسكي أفلامه الثلاثة الأخيرة خارج وطنه، وبإنتاج أجنبي، ففي بلده ضايقوه وأهانوه، فلم ينجُ هو ولا أفلامه من البطش والتنكيل”، أما الروائي شريف حتاتة الذي اشتغل طبيبا في بداية حياته، فقد دفع هو الآخر ثمن مواقفه السياسية الشُجاعة، ووقوفه في وجه الطغيان، والتعصُّب، والزيف، والكذب الذي كان يُمارَس من طرف الساسة والحُكّام، وعليه تم تلغيم حياته، لدرجة أنهم اتهموه بمحاولة قلب نظام الحكم بالقوة والإرهاب، وهذا حسب ما ورد في الكتاب، لتنطلق الباحثة إلى محطات أخرى أكثر إشراقا في الحياة الإبداعية لهما، إذ سلّطت الضوء على الصعوبات التي عايشها متنهما الإبداعي، الذي انعكس على المنتوج.

كما تطرّقت الباحثة في هذا الكتاب إلى عديد  القضايا الجوهرية، من بينها مفهوم اللغة في السينما، حيث ترى بأن لها “طاقة كامنة هي أداة تواصل وتخاطب، أداة للتعبير والإيحاء بالمعنى، أداة للتفاهم أو الاختلاف، للهدم والبناء، وأقصد باللغة الشفرات والأدوات التي تسمح بإنتاج رسائل سمعية وبصرية، يُعبّر بها ومن خلالها الأديب أو السينمائي عن الواقع والذاكرة والحلم، عن الحاضر والماضي والمستقبل، عن آرائهم ومعتقداته المُعلنة والخفيّة، عن مشاعره وهواجسه الدفينة”، وتطرقت إلى العلاقة بين فن الرواية والسينما، حيث تقرّ بأنها مُتشابكة، بعد أن بدأت السينما تبحث عن هويتها وخصائصها كما سبق وقلت.

بالإضافة إلى هذا حاولت الناقدة أن تبحث في مفاصل وقضايا أخرى تخص السينما، من بينها المونتاج والإيقاع، إذ تطرح في هذا الباب الكثير من التساؤل، وهذا بقولها “إذا كان الإيقاع وليس المونتاج هو العنصر والمكوِّن الرئيسي للسينما كما يؤكد تاركوفسكي، فهل هذا يعني أن الفنون الأخرى كالشعر والمسرح والرواية تخلو من الإيقاع؟ وإذ كانت حركة الزمن المُتخيل في كتابات شريف حتاتة تخلق لديه إيقاعا مميزا أفلا يعني ذلك أن روايات حتاتة ترتكز على أحد المقومات الأساسية للسينما؟ أم أننا نُريد أن نُفقد السينما العنصر الآخر الرئيسي المُكوِّن والمميز لها؟”.

استطاعت أمل أن تستنبط العديد من الجماليات والرسائل المُتخفية في الرواية والسينما، بعد أن خلقت لهما فضاءات حياتية جديدة من خلال هذه الدراسة، إذ ساعدت في تطوير الفهم الكلي للرسائل المضمرة، وفسرّت معناها شكليا و”استيطيقيا”، وألقت الضوء على الدلالات، وجعلتها مساوية للظاهر، من خلال إتبّاع العديد من الأسس المُسيّرة لهذه العملية الجمالية، كل هذا تم عن طريق المنهج “السيميولوجي”، حيث استعارت عناصر التحليل التي دعا إلي تطبيقها رولان بارت، نظرا لأهميتها في تعميق الدراسات، حيث باتت الأعمال التي تناولتها لها حلّة جمالية مغايرة، أضفاه لها مقدرة الناقدة على المقارنة بين جنسين مختلفين، من خلال استعانتها بالتحليل السيميولوجي سواء على مستوى النص أو الفيلم، كما أنها قدّمت فهما باطنيا وظاهريا، وغير تقليدي للمُنتج.

وبعد مرورها على العديد من أبواب الكتاب، الذي قسّمته إلى ثلاثة فصول، والعديد من المباحث، تناولت فيها اللغة في السينما والأدب، وجدلية العلاقة بين فن الرواية والسينما، وحياتيّ الروائي شريف حتاتة والسينمائي أندريه تاركوفسكي، والزمن وماهيته وأشكاله، وهذا من خلال تناولها للكتاب التنظيري لتاركوفسكي، “النحت في الزمن”، ناهيك عن تناولها للميزانسين، والموسيقى، والمؤثرات الصوتية، والمونتاج، والإيقاع، في السينما.

لتخرج الكاتبة بنتيجة من خلال الخاتمة، رتبّتها في 10 نقاط، تناولت في كل نقطة ما يجمع بين أفلام السينمائي تاركوفسكي والروائي شريف حتاتة، أهمها بأن الفروق الجوهرية بين الأسلوب السردي والمميز لكل من فن الرواية وفن السينما، هو أن الأول لا يمتلك خاصية تحريك الكاميرا بنفس القوة والمرونة التي يتمتّع بها شريط السينما، أما السبب فتقول عنه الناقدة أمل يرجع إلى الإمكانيات التي تُتيحها الصورة المرئية التي تفتقدها الرواية، كما تذكر في نقطة أخرى بأن النحت في الزمن والإيقاع عنصران لا يخصّان السينما دون غيرها من الفنون، فالسرد الروائي يتضمّن نحتا في الزمن، كما أنه يتسّم بإيقاعه الخاص.

كتاب “اللغة السينمائية في الأدب، دراسة مقارنة بين تاركوفسكي وشريف حتاتة” ، يُعتبر مكسبا للمكتبة السينمائية العربية، خاصة وأن هناك فجوة واسعة بين مدى استعمال واستعارة المناهج النقدية الحديثة وإسقاطها على الأفلام السينمائية، وسيسهم هذا الكتاب في تقليص هذه الفجوة.


إعلان