“مرحى قيصر”: افتتاح فاتر لمهرجان برلين
محمد رُضــا

في عملهما الجديد، «مرحى، قيصر»، الذي افتتح الدورة الـ69 لمهرجان برلين، يصوّب الأخوان “كووَن” بندقيّـتهما إلى أهداف عدّة ويُطلقان النار عليها، لكنهما لا يصيبان أيا من هذه الأهداف. فقط أولئك الذين يختمون بالموافقة على كل عمل لمخرج حيوّه سابقاً لا يستطيعون رؤية المشاكل العديدة التي يعاني منها الفيلم في معظم خاناته.
حكاية متعددة الرؤوس محورها رئيس الإنتاج لشركة سينمائية اسمه إدي مانيكس (جوش برولين) تقع أحداثها في مطلع الخمسينيات. مانيكس حلّال مشاكل وهناك العديد منها في يومين:
• الممثل بيرد ويتلوك (جورج كلوني) الذي يقود بطولة فيلم ديني- تاريخي تم اختطافه من قِـبل مجموعة من الكتاب الشيوعيين (بينهم دور صغير للممثل ألفرد مولينا، غير مذكور في قائمة الممثلين) الذين يطالبون بفدية 100 ألف دولار للإفراج عنه.
• ممثل أفلام الوسترن السريعة هوبي دويل (ألدين إنرنريتش) يُـعيّـن لبطولة فيلم درامي يتطلّـب منه آداءاً لا يقدر عليه. الفيلم من إخراج لورنس لورنتز (راف فاينس) الذي يشكو لمانيكس الذي يرفض تغييره.
• إحدى نجمات الشركة واسمها دي آنا (سكارلت جوهانسن) حبلى من مجهول وعلى مانيكس تدبير الأمر ليحمي سمعة الممثلة في زمن ما زال محافظاً.
• ممثل آخر لديه يجيد الرقص اسمه بيرت (شانينغ تاتوم) يخطط، بمعاونة الكتّـاب الشيوعيين، للهرب في غواصة روسية من أميركا إلى موسكو مستخدماً الفدية المدفوعة.
• هناك صحافيّـتان توأمان (تقوم بدورهما تيلدا سوينتون) تلحّان في نشر ما قد يضرّ بسمعة الشركة وعليه أن يلاعبهما لكي يحمي سمعة الشركة.
إلى ذلك فإن مانيكس يستلم عرضاً من الشركة الصناعية “لوكهيرد” لكي يستقيل من عمله ويلتحق بها مقابل أجر أكبر وراحة في العمل والقرار. زوجة مانيكس (أليسون بيل) تودّ ذلك لكنها تترك الخيار له.
يبدأ الفيلم في غرفة الغفران الكاثوليكية: إدي مانيكس (جوش برولين) في الجزء المخصص للمعترفين في الغرفة يطلب الغفران عن خطيئة. ما هي؟ دخّن السجائر على عكس ما طلبته منه زوجته.
المستفاد في هذا المشهد بسيط: مانيكس يطلب الغفران لشيء لا يستحق أن يُـطلب. في مفهوم الكوميديا الساخرة التي عمد إليها الأخوان طويلاً ويعمدان إليها أيضاً في هذا الفيلم، من المفترض أن يُـثير المشهد السخرية ولو مبطّـنة. لكن كون المشهد جاء في مطلع الفيلم ومباشرة داخل غرفة الغفران تلك يسحب البساط من تحت مثل هذا الهدف. يبدو المشهد معلقاً بين شيء سبقه وآخر قد يلحق به.

ما هو أكثر إشكالاً هو أن شخصية إدي مانيكس مرسومة عن شخصية حقيقية. لا أحد يعرف اليوم إذا ما كان أمّ الكنيسة للاعتراف وعما اعترف به، لكن الرجل كان حقيقياً ولم يكن ملاكاً محبّـاً ومحبوباً كما يصوّره الفيلم، بل كان موظفاً إدارياً في شركة Metro Goldwyn Mayer (وتوفي سنة 1963) عُرف بأنه حلال مشاكل ولو بوسائل مثيرة للريب. أشيع عنه أنه كان على علاقة بالمافيا وأنه وقف وراء قتل بول بيرن، وهو منتج منفذ عمل للاستديو الكبير نفسه وقُتل في ظرف غامض سنة 1932. قبل ذلك كانت زوجته الأولى وُجدت ميتة واتُهم بقتلها لكن الأدلة كانت غائبة. في العام 1959 مات “جورج ريفز” الذي لعب دور سوبرمان في مسلسل تلفزيوني استمرّ من سنة 1952 إلى 1958. قيل أن زوجة مانيكس الثانية لوني لانيير ربما قتلت أو اشتركت مع زوجها في قتل ريفز الذي كان عشيقها بعلم زوجها.
على هذا كله، تكون الصورة المختارة هنا لمانيكس مختلفة كلياً عن تلك الحقيقية. هو هنا شخص يجيد دوره. يحب عمله (يرفض العرض المغري). يساعد الممثلين على تجاوز عثراتهم. يدافع عن الشركة وأصحابها في نيويورك. مخلص لزوجته التي تلتزم البيت وتحرص على زوجها وتحب مصلحته.
تفعيلة غير واقعية
إذ حرص الأخوان كووَن على تقديم صورة مانيكس ناصعة غالباً ومناقضة للواقع، تم دفع الشخصيات الرئيسة الأخرى إلى دروب سلبية الظهور. كل الممثلون داخل الفيلم مطليّين سلبياً: دي آنا/ سكارلت، ممثلة أنانية وعدائية. بيرد/ كلوني ساذج وجبان. بيرت/ تاتوم خائن لبلاده. هوبي/إيرنريتش يفتقر إلى الموهبة وصل إلى التمثيل بالصدفة. الكتّـاب ليسوا أفضل حالاً لكنهم ملتزمون سياسياً، على الأقل، بمبادئهم. وهم يدعمون الممثل الذي يريد التسلّل إلى الغواصة السوفييتية التي تخرج من عمق الماء عند سواحل كاليفورنيا لتنقله. يقفز من مركبهم إلى جانب الغواصة. يرمون إليه بحقيبة المال. ثم ها هو كلبه يقفز وراءه. في لحظة يترك الممثل حقيبة الماء تسقط في البحر لكي يتلقّف كلبه عوض أن يسقط الكلب في البحر.
كون الأحداث تقع في العام 1951 لا يساعد على هضم القول بأن الممثل بيرد كان خارج الرادار فلم يسمع مطلقاً بالمكارثية وبالشيوعيين الذين كانت المكارثية تتعقّبهم ما يجعل من تصويره هنا ساذجاً إلى هذا الحد تفعيلة غير واقعية وغير مجدية.
الباقي هو طلقات طائشة. المشاهد التي يطلب فيها مانيكس الغفران بلا حرارة موقف. والمشهد الذي نرى فيه مانيكس مجتمعاً مع ممثلّي الطوائف المسيحية وحاخام يهودي يكاد ينجح في توزيع سخرية منها جميعاً لولا أن جدّية مانيكس (الدائمة) طغت على ما في ذلك المشهد من فرص ساخرة.
هذا واحد من الفرص الضائعة في الواقع. تضيف إليه ما هو أفدح: الفكرة التي تدور حول خطف ممثل من قِـبل مجموعة كتاب ما زالوا يعملون في الخفاء رغم الحملة المكارثية. بينما كان من الممكن أن تستحوذ هذه الفكرة على نصيب أهم من الحديث، وأن تنتج مشاهد أكثر تصادماً بين أطرافها، تمرّ هنا منزلقة صوب أقلّ قدر من الأهمية. مرّة أخرى كيف تم تقديم وتصوير الممثل بيرد كأبله سبب أساسي كون لا تحديات ولا إفرازات مفيدة يمكن أن تنتج عن هذا الوضع.

ما يبقى للفيلم هو التمثيل إلى حد (تمثيل البلاهة ليس سهلاً) والسرد بلا مشاكل وذلك مرجوعه عائد إلى الأخوين كووَن اللذان يقومان بتوليف أفلامهما تحت اسم رودريك جاينس. تصوير روجر ديكنز أقل مستوى مما حققه لهما من قبل. المشاهد في هذا الإطار غير متساوية، بعضها محكم وموحي ومعظمها يمرّ من دون مزايا يمكن الوقوف عندها.
في مجمله هذا فيلم بلا قدرة على النقد ولا على السخرية. ليس “نوستالجيا” جميلة عن هوليوود وليس هجوماً عليها. بل مجرد أفكار متضاربة بشخصيات يوجهّها المخرجان فتلتزم بما تؤمر به لدرجة ذوبان القدرة على الإبداع.
قتامة
في كل الأحوال، فإن سينما الأخوين كووَن ليست مؤلفّة من أفلام رائعة فقط بل من عدة أعمال لم تصب الأهداف المناطة بهما.
بدآ العمل بنصيب كبير من النجاح عبر فيلم Simple Blood سنة 1984 وتبعاه بفيلم ساخر بعد ثلاث سنوات هو Raising Arizona، ثم عادا للبوليسي المعتم في Miller?’?s Crossing. وتابعا هذا التناوب ما بين البوليسي والكوميدي الأسود حتى العام 1998 عندما حقق The Big Lebowski. بعد ذلك أنجزا معظم أفلامهما في نطاق تلك الكوميديا السوداء بما فيها «أيها الأخ، أين أنت؟» O Brother??,? Where Art Thou? سنة 2000 و«قسوة لا تحتمل» Intolerable Cruelty سنة 2003
عبر هذا الخليط من الأعمال يمكن ملاحظة مسألة هامّـة في أفلام كووَن جميعاً (عددها حتى الآن 17) وهي أن الأفلام التي حققاها بمزاجهما المستقل (آخرها على سبيل المثال «رجل جاد»/ A Serious Man وInside Llewyn Davis تميّـزت بأنها أكثر منطقية وواقعية وإجادة من تلك التي حققاها لحساب أحد الشركات أو الاستديوهات الكبيرة، كما حال فيلمهما الأخير هذا.
مسألة أخرى تجعل الإعجاب المطلق بهما مسألة ظرفية وشخصية: كلما حرصا على السخرية من شخصياتهما وتلوينها باللون القاتم، كلما خرج الفيلم أقل جودة مما يجب. الأخوان كووَن في هذا الفيلم الجديد، كما في أفلام مثل «قسوة لا تحتمل» و«قتلة السيدة» و«إحرق بعد القراءة» يحرصان على أن لا تخرج شخصية من هذه الأعمال إلا وهي مضحوك عليها. ربما تكون ساخرة من الحياة ذاتها، لكن الفيلم يجيّـر هذه السخرية لصالحه وضد شخصياته.