“الزاوي” وثلاثية الاعتراف والعرفان

الضاوية خليفة – الجزائر

المخرج محمد الزاوي

الطاهر وطار في بوحه الأخير

يصلح على الإعلامي والمخرج الجزائري المغترب “محمد الزاوي” لقب قناص الصورة والفرص الثمينة التي لا تعوّض ولا تقدّر بثمن، فالتوثيق للحظات تاريخية مهمة أو قصة شخصية هامة في السياسة والتاريخ والفن أو الأدب قد يأتي صدفة ولا يمكن تضييعه لأي سبب من الأسباب، هي الفرص التي أحسن استغلالها الزاوي في وثائقي “آخر الكلام” وهو يترصد ويتعقب الأيام الأخيرة التي عاشها وقضاها مؤسِّس الرواية الجزائرية الحديثة “الطاهر وطار” في الضاحية الباريسية بين فترة العلاج والنقاهة، ونفس الحظوظ أتيحت للمخرج ذاته ليستنطق التاريخ على لسان المجاهد “مصطفى بودينة”، أحد الناجين من المقصلة الفرنسية بسجن مونلوك، فهل سيوقع الزاوي ثلاثيته قريبا؟

“محمد الزاوي” الذي يعمل بإمكاناته الخاصة دون دعم حكومي تمكّن من استدراج صاحب رواية “اللاز” و”الزلزال” الطاهر وطار ليعود بذاكرته إلى صباه وشبابه ومراحل هامة من حياته مع تركيز أكثر على علاقته بأرضه وأصوله، مرددا أغاني فنانته المفضلة “بقار حدة” في دلالة على العلاقة الوثيقة التي تربط الرجل البسيط بتراثه وتعكس تمسكّه بوطنه، من هنا كانت البداية ومن هنا أراد “عمي الطاهر” كما يحلو للكثير مناداته أن يحكي قصته وعلى طريقته وبعفويته المعهودة، فالراحل تحدث عن الأصول والانتماء والتاريخ، وأخفت ملامح وجهه آثار المرض الذي لم يجد له مكانا في حديثه، وبالكتابة كان يقاوم الألم الداخلي الذي أوقف نبض القلم والإبداع  بتاريخ 12 أغسطس 2010، وحضرت لحظة الرحيل التي وصفها مسبقا على أنها مجرد حالة فنية، وقال فيها “يوم مشيت في جنازتي ومشى الناس”…

لم يخلُ وثائقي “آخر الكلام” الذي لا يشبه غيره من الوثائقيات التي تكتفي بتقديم بورتريهات تقليدية أو سير ذاتية روتينية للشخصيات، من شهادات بعض الأدباء كـ “واسيني لعرج” و الشاعرين “عمار مرياش” و “عز الدين ميهوبي” وزير الثقافة حاليا، والأديب المصري الراحل “جمال الغيطاني” وآخرون ممن تحدّثوا عن إسهامات الرجل الذي كان ينسى نفسه حينما يكتب ويلقي بها في عالم الرواية، وإقامة “الطاهر وطار” المرتبط وجدانيا بالأرض والتراث في بيت المخرج الزاوي واستقراره به أياما كان محطة هامة ليعيد ونحن معه ذكرى وحكايا صاحب مؤلف “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” ويوثقّها توثيقا جميلا للأجيال والتاريخ، ومغادرة عمي الطاهر بيت الزاوي باتجاه العاصمة الجزائر كانت الرحلة ما قبل الأخيرة، وبين الإقامة المؤقتّة والرحيل الأكيد كانت حكاية مسافر عائد من زمن آخر للبوح بالمزيد، ورحيل مبدع يليه ميلاد آخر، هو ما أظهره المشهد الأخير وحملته لوحات الصبية “ياسمين” التي وضعت ذكرى الطاهر وطّار في قلبها ومضت  لتُحقِّق المزيد من الأحلام كخطوة تعكس تواصل الأجيال فيما بينها.

شهادة ناج من مقصلة “مونلوك”

بعد “آخر الكلام” تمكن “محمد الزاوي” بوثائقي “عائد إلى مونلوك” من استدراج ماضي وتاريخ فرنسا الاستعمارية المثقل بشتى أنواع التعذيب والتنكيل في حق الجزائريين، والنموذج كان لأحد الناجين من المقصلة بسجن “مونلوك” الواقع بمدينة ليون، المجاهد والرئيس الأسبق لجمعية المحكوم عليهم بالإعدام “مصطفى بودينة”.

“محمد الزاوي” في الأول كان مجرد مرافق بكاميراته لبودينة عندما أتى إلى فرنسا لعرض كتابه “ناج من المقصلة”، فمنذ البداية لم يكن الهدف التوثيق والتأريخ، لكن ونظراً لأهمية الوقائع والحقائق تحولت الفكرة إلى مشروع وثائقي سعى من خلاله كل طرف وفي 62 دقيقة لتخليد الذاكرة الجماعية وجمع أرشيف الثورة التحريرية المخبّأ هناك إن جاز التعبير على لسان واحد من رجالات الجزائر الذين كانوا عنوانا بارزا للصمود، السجين رقم 45 العائد إلى زنزانة بعد 49 عاما ليروى على مدير المتحف السجن ما حدث لأزيد من 200 سجين جزائري من جبهة التحرير الوطني معارض للاستعمار، أعدم 11 منهم بالمقصلة بأمر من الجنرال شارل ديغول بين فبراير 1960 ويناير 1961، بينما صدر العفو في حق كثير منهم فيما بعد، كالشاهد على التاريخ “مصطفى بودينة” الذي استنطقت ملامح وجهه والكتابات الجدارية أثار التعذيب الممارسة على كل من عارض فرنسا في حربها على الجزائر أو حتى ضد النازية خلال الحرب العالمية الثانية، فما هو حاضر اليوم في هذا المتحف الذي يزوره الآلاف سنويا هو المقاومة الفرنسية، بينما يلمس الزائر غياب أو التغييب المتعمّد لما حدث مع المقاومين الجزائريين، وبالمقابل كان لاعتماد المخرج على تدخلات شخصيات هامة كالمؤرخ “بنجامين ستورا”، المجاهد والمحامي “علي هارون”، وآخرون وقع كبير على العمل.

أهم ما يميز هذا الوثائقي الذي صُوِّر سنة 2012 إظهاره لجانب هام من تاريخ ونضال الشباب الجزائري في أماكن غير موطنهم الأصلي، حقائق يجهلها الكثير خاصة وأن فرنسا لا تزال تخفي الحقيقة وتحتفظ بأرشيف هام وثمين، وتتحفظ في نفس الوقت على الاعتراف بجرائمها الممارسَة في حق الجزائريين، بدليل أن جثث 11 شخص الذين نفّذ فيهم حكم الإعدام بالمقصلة بسجن مونلوك لا أحد يعرف أين هي رفاتهم، وبهذا الفيلم يعطي المخرج والإعلامي “محمد الزاوي” درسا لكل السينمائيين الجزائريين بأنه من فكرة بسيطة يمكن أن نبني ونتبنّى مشروع هام وهادف، وبدون أي دعم مالي خيالي أو مبالغ فيه يمكن إنجاز وثيقة تاريخية قيّمة تحفظ تاريخ الجزائر لسنوات، وتضمن حق الأجيال في الحصول والوصول إلى الحقيقة والتعرُّف على ماضيها، بعيدا عن أي تزييف أو تغليط، فبالسينما نعيد الحياة لمن استشهد ومات، ما دامت السبيل الأقوى والأفضل لخدمة قضايا الشعوب والتحرُّر، لا أن يتاجر هذا المخرج وذاك بتاريخ وقصص الشهداء مقابل الملايين من الدولارات، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الزاوي عُرضت أعماله في كبرى المهرجانات السينمائية الدولية كمهرجان الجزيرة التاسع للأفلام التسجيلية، ومهرجان مسقط السينمائي الذي توج “عائد إلى مونلوك” بالخنجر الذهبي، بينما فاز “آخر الكلام” بالنخلة الذهبية كأفضل فيلم وثائقي في الدورة الأخيرة من مهرجان الإسكندرية للفيلم المتوسطي.

“بالي” وفاء للصحراء وولع بالماء

 

مدينة جانت الصحراية موطن الفنان عثمان بالي

عكس أفلامه السابقة التي أنجزت بإمكانيات بسيطة ولم تنتظر أو تطلب أي دعم مادي، يتطلب المشروع السينمائي الجديد للمخرج “محمد الزاوي” دعم وشراكة وتمويل، وسيتم تنفيذه في الأيام القليلة المقبلة بالتعاون مع المنتج والمخرج الجزائري المقيم ببريطانيا “عبد الكريم سكار”، ويتعلق الأمر هذه المرة بواحد من أعمدة الغناء الأصيل، الرجل الأزرق “عثمان بالي” (1953-2005) ابن مدينة جانت، الذي سافر بالبيئة الصحراوية عبر فنّه وموسيقاه، فغنى باللغتين العربية والطارقية للإنسانية وتغنى بالسلام.

يشترك هذا الوثائقي مع أفلام الزاوي السابقة في أنه أتى صدفة ولم يخطط له مسبقا، حيث بدأ مرافقا للراحل عثمان بالي في إحدى حفلاته التي أقامها بالعاصمة البريطانية لندن سنة 2004 على أساس أن يتولي تنفيذ الصور واللوحات التي ستظهر كخلفية في الحفل، وهنا كانت – يقول الزاوي – “الفرصة للتعرف على عثمان بالي الإنسان والشاعر الفنان، الحريص على تأدية تراث المنطقة لحفظه من الزوال والمجدد فيه، وتلقينه للناس في ترحاله الدائم بين عواصم العالم من كاراكاس إلى مونتريال، رفقة فرقته الموسيقية التي تتكون من أفراد عائلته”.

كان الراحل عثمان بالي كثير التركيز في حديثه إلى حد الولع بالماء والمطر، ودائم التأمل في الوديان الموجودة بالمنطقة كوادي “اجيريو”، ومن شدة حبه للماء استجاب القدر لصاحب رائعة “آمين، آمين” وأخذ روحه في أحد السيول الجارفة التي ضربت مدينة جانت سنة 2005 وألقت بعثمان بالي ميّتا في 17 يونيو من نفس السنة، ليرحل سفير الفن والثقافة الصحراوية كما شاء، وبالتالي يضيف المخرج في فيلم “بالي الرجل الذي يحلم بالمطر”، سننطلق من تاريخ الشاعر، ونطرح رمزية الماء التي يمكن أن نجدها في الممارسات التقليدية لدى الطوارق”، فعلاقة الفنان بالماء ستأخذ الحيّز الأكبر في هذا الوثائقي الذي سيضبط في 52 دقيقة، خاصة أن المخرج خلال تواجده ببريطانيا رفقة عثمان بالي صوره في كل حالاته وعلى طبيعته، خلال توزيعه دعوات ومطويات على ركاب المترو، أو تجولّه على ضفاف نهر “التايمز” بلندن، أو جلساته التي لا تخلو من العود والشاي في محاولة لخلق جو صحراوي مع جزائريي المهجر، كما سيعتمد المخرج في هذه المادة المسجلة منذ 12 عاما على شهادات بعض من تعاملوا معه فنيا وعرفوه كأسرته وأبناء بلدته التي لا تزال تفخر به وتروي تفاصيل الرحيل المضبوط على إيقاع القدر، دون إغفال البيئة الصحراوية التي ساهمت في تكوين ثقافته وشخصيته المتفتحّة على كل الفنون والثقافات.

هكذا هو “محمد الزاوي” الذي ينجح دائما في تحويل المادة المصورة إلى أعمال ثمينة في الهدف والمضمون، يحاول وكلما أتيحت له الفرصة أن يكرم على طريقته إحدى الشخصيات الوطنية في الفكر والفن والتاريخ، ويسعى من خلال الوثائقيات التي يعمل عليها لسنوات أن يعيد لها الاعتبار والتعريف بها وبما قدمت وببعدها الإنساني على وجه الخصوص.


إعلان