“مفرق 48” .. جائزة الجمهور بمهرجان برلين
أمير العمري

في حدث نادر، وفي نفس يوم زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى العاصمة الألمانية برلين، وقف المخرج الإسرائيلي- الأمريكي “أودي ألوني” على المسرح لتقديم فيلمه الجديد “مفرق 48” Junction 48 في قسم “بانوراما” بمهرجان برلين السينمائي، أمام جمهور كبير ملأ القاعة عن آخرها، وشن هجوما عنيفا على نتنياهو قائلا إن نتانياهو يبث الكراهية، بينما يدعو هو من خلال أفلامه إلى التقارب والسلام. ومضى ألوني فيما بعد، فطالب المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل بوقف تزويد إسرائيل بالأسلحة والغواصات.
“أودي ألوني” ينتمي إلى فصيل صغير داخل إسرائيل من دعاة السلام ومناهضي السياسة الرسمية الإسرائيلية، ومنح الفلسطينيين دولتهم المستقلة، ويقول الشعار الذي وضعه على موقعه على شبكة الانترنت “من النهر إلى البحر.. الحرية للجميع”.
في فيلم “مفرق 48”- لا يعبر ألوني فقط عن آرائه السياسية النقدية اللاذعة ضد السياسة العنصرية الإسرائيلية، ولكنه يُجسِّد من خلاله أسلوبا سينمائيا طموحا يمزج بين التسجيلي والروائي، وبين الموسيقي والدرامي، الرسالة السياسية وتقاليد الفيلم الغنائي الاستعراضي الحديث، الميلودراما والرومانسية والإثارة البوليسية، مع اتجاه واضح لتقريب الموضوع من جمهور السينما الشعبية من خلال قصة بسيطة لا تسقط في منزلقات الإغواء الشكلي والتعرّجات، وهو بهذا المعنى ينتمي بلاشك لسينما ما بعد الحداثة.
تلقّى الفيلم دعما ماليا من داخل شركات سينمائية بالولايات المتحدة وكذلك من مؤسسات عدّة داخل إسرائيل من ضمنها صندوق دعم السنيما التابع لوزارة الثقافة، لكن الفيلم جاء في محتواه الفني مناهضا تماما للسياسة الرسمية تجاه الفلسطينيين. وقد دفعت تصريحات ألوني الهجومية التي تزامنت مع زيارة نتانياهو الرسمية إلى برلين، وزيرة الثقافة الإسرائيلية “ميري ريجيف” إلى التلويح بحرمان ألوني من الحصول على أي تمويل لأفلامه في المستقبل، وقالت إن “الفنانين الذين يقومون بتقويض الدولة وتشويهها والتشكيك في شرعيتها، لا يجب أن يحصلوا على دعم من أموال دافعي الضرائب”.
الكشف عن المواهب
ويمكن القول إن الفيلم الذي عمل فيه نحو أربعين من الفنيين والتقنيين اليهود من معسكر السلام داخل إسرائيل، هو أول فيلم “فلسطيني” يستخدم موسيقى وأغاني “الراب” المعروفة الفلسطينية، للتعليق على الوضع السياسي وحالة الاغتراب التي يعيشها فلسطينيو الداخل فيما وراء ما يسمى بـ “الخط الأخضر”. وفيه تبرز مواهب عدد كبير من الفنانين والممثلين الفلسطينيين. وقد اشترك في كتابة السيناريو وكان وراء فكرة الفيلم من البداية، فنان الراب الفلسطيني تامر النفار الذي يقوم ببطولة الفيلم أمام الوجه الجديد سمر قبطي، ومعهما طاقم محترف كبير يضم سلوى نقاره وإياد فاضل وسامح زقوط وسعيد دسوقي وأديب صفدي، كما تظهر ميساء عبد الهادي (التي تألقت في فيلم مي مصري “3000 ليلة”) في مشهد واحد في دور المحامية الفلسطينية التي تدافع عن مالك المنزل الفلسطيني القديم الذي تريد السلطات إزالته.

تقع الأحداث في “اللدّ” التي القريبة من تل أبيب، وهي البلدة التي عرفت تلك المذبحة الشهيرة في عام 1948. ويروي الفيلم بالتعليق الصوتي في البداية قصة هذه البلدة التي كانت فلسطينية تماما لكن أرغموا اليهود سكانها بالترويع والمذابح على مغادرتها بعد قصفها من الجو ثم اقتحامها وقتل نحو 250 فلسطينيا معظمهم من النساء والأطفال في المذبحة الشهيرة.
بطل الفيلم هو “كريم” (الذي يقوم بدوره تامر النفار) وهو شاب ينتقل من عمل صغير إلى آخر، يعيش في كنف والديه اللذين ينتميان للطبقة الوسطى الفلسطينية، فهما يبديان اهتماما بالموسيقى والمسرح والفنون عموما، ولكن كريم يميل إلى الشكل الموسيقي الجديد أي “الراب” الشعبي الذي يعتمد على الإيقاعات السريعة والجمل القصيرة التي يستخدمها في التعبير عن شعوره وزملائه من الشباب بالاضطهاد داخل المجتمع الإسرائيلي.
يرتبط كريم بعلاقة ما مع “يوسف” وهو تاجر مخدرات فلسطيني، ونراه يتمكن من الهرب من الشرطة الإسرائيلية في المشاهد الأولى من الفيلم. وهو لا يستقرّ في عمل، مما يؤدي إلى توتر علاقته بوالده الذي يصرّ على ضرورة ابتعاده عن “يوسف”، ثم يودي حادث سيارة بحياة والد كريم، وإصابة والدته إصابة تتركها مقعدة، فيقرر كريم قطع علاقته بصحبة المخدرات، ويبدو منسجما في علاقته العاطفية البريئة مع صديقته “منار” التي يقنعها بالغناء معه ضمن الفرقة الموسيقية التي كونّها من بعض الشباب. ويشترك الاثنان معا في حفل غنائي إلا أن مجموعة من الشباب اليهودي المتعصِّب يحاولون الاعتداء على منار، فتنشب مشاجرة بين الطرفين تؤدي إلى إفساد الحفل.
رمز الهوية
في الوقت نفسه تعتزم السلطات الإسرائيلية هدم منزل “طلال” صديق كريم ومنار، من أجل بناء متحف يطلقون عليه “متحف التعايش” في مفارقة ساخرة بالطبع.. وينظم الفلسطينيون مظاهرات احتجاج ضد هدم المنزل، كما يستخدم كريم أغاني الراب للتعبير عن رفض القمع الإسرائيلي والتمسُّك بالهوية الوطنية، وفي الوقت نفسه التعبير عن الرغبة في التحرّر من أسر التقاليد القديمة البالية التي تحظر مثلا العلاقة بين الجنسين، ويصور الفيلم أجواء التوتر الذي ينشأ بين عائلة “منار” و”كريم”، بعد رفض أقارب الفتاة ظهورها على المسرح مما يدفع بعضهم إلى تهديد كريم باستخدام العنف ضده. إننا إذن أمام شاب فلسطيني ينشد الحرية لكنه مكبل من الناحيتين، فهو يصارع ضد القيم القبلية من جهة، والعنصرية الصهيونية والتهميش من جهة أخرى.
يصور الفيلم هدم المنزل الفلسطيني الذي يعود إلى جد طلال (يؤدي الدور طارق قبطي) الذي يمتلك كل الوثائق التي تثبت توارثه المنزل عبر الأجيال، كما يصور قمع الشرطة الإسرائيلية المتظاهرين السلميين بوحشية، وهدمهم للمنزل الذي يعتبر جزءا من التاريخ الفلسطيني، ومن ناحية أخرى، يصور الفيلم أيضا الجانب المرح المحب للحياة، الذي يتمثل في التمسك بالأرض والهوية من خلال شريط صوت شديد الثراء والجمال، يمتليء بالموسيقى والأغاني السريعة المعبرة بالعربية والعبرية والإنجليزية، يوظفها المخرج ببراعة وبحيث تتناغم تماما مع مسار الأحداث وتصاعد مجرياتها وسخونتها، في مزيج فني مدهش بإيقاعاته وصوره وتكويناته البديعة.

يبدأ “مفرق 48” بتاريخ “النكبة” أو “المذبحة” التي وقعت في البلدة، وبأحداثه لا يبتعد قط عن البعد السياسي من خلال نسق سينمائي فريد، يحقق المتعة والتأمل معا.
وبينما يغني كريم أغاني “الراب”، تغني منار الغناء العربي الكلاسيكي القريب من أشعار المقاومة. ويتميز الفيلم بإيقاعه السريع، الذي يتناسب مع إيقاعات الراب، وبتكويناته اللونية التي تعكس الطابع الرومانسي الذي يتبدّى في العلاقة بين كريم ومنار، ولكنه لا يخلو أيضا من المواقف الكوميدية، مع تركيز على علاقة مجموعة الشباب الفلسطينيين ببعضهم البعض وارتباطهم الوثيق معا، ومغامراتهم التي تضفي على الفيلم رونقا خاصا من خلال مشاهد تتمتع بالتلقائية في الأداء والسلاسة في الحوار.
رسالة متوازنة
قد يأخذ البعض على الفيلم الذي ينطق بالعربية في غالبية مشاهده، إبرازه لشخصيتي كريم ومنار وانحيازه الواضح لهما، والتصوير السلبي للشخصيات اليهودية، لكن الفيلم قدم نماذج متعددة لشخصيات فلسطينية سلبية منها تاجر المخدرات الذي يلجأ للعنف لتصفية خصومه، وأقارب منار الذين يرفضون ظهور صورة لها على ملصق لحفل أغاني الراب، بل ويرفضون أن تغني أصلا ويهددون كريم، وهنا فالفيلم يعري تلك النزعة البطريركية المتسلطة التي لا تزال قائمة في المجتمع الفلسطيني التقليدي داخل إسرائيل، وهو ما يذكرنا بالفيلم الفلسطيني “عرس الجليل” لميشيل خليفي.
تبرع في الفيلم مجموعة الممثلين الفلسطينيين، الذين يؤدون معا في تناغم وانسجام بحكم معرفتهم بالمكان وبالموضوع، وتماثلهم تلقائيا مع الأدوار التي يؤدونها. ويعد الفيلم اكتشافا لوجه فلسطيني أنثوي معبر هو وجه سمر قبطي التي لاشك أنها ستكتسب خبرة أكثر، وتتألق في أفلام أخرى قادمة.
وقد أثبتت الاستجابة الكبير من جانب الجمهور الألماني في مهرجان برلين ونقاشهم الطويل مع مخرجه وبطليه: النفار وقبطي، أن الرسالة قد وصلت، وأن المتعة لا تنفصل عن الرسالة. ولذلك كان طبيعيا أن يفوز الفيلم بالجائزة التي يمنحها الجمهور، كأفضل فيلم روائي طويل في المهرجان.