“وطن” .. ألم العراق
يامن محمد

كان جمهور معهد العالم العربي في باريس على موعد وتجربة فريدة لم يألفوها من قبل، على الأقل بالنسبة إلى الإنتاجات السينمائية العربية، خصوصاٌ الوثائقية منها، فالفيلم الذي “أحضره” إليهم المخرج عباس فاضل، من بلاد الرافدين “وطن: عراق سنة صفر” لم يكن خاصاً من حيث موضوعه، أي العراق وكارثة الغزو الأمريكي له في العام 2003 ولا من حيث رصد النقلة الرهيبة بين ما قبل وما بعد ذلك التاريخ فحسب؛ إنما الخاص هنا وربما بالدرجة عينها، من الوجهة السينمائية، هو طول مدة الفيلم البالغة حوالي ست ساعات، جعلت الكثيرين يفكرون ملياً قبل دخولهم صالة العرض، في معنى هذه المدة، حتى قبل مشاهدتهم الفيلم، وفي قدرتهم على المكوث خلالها تحت وطأة شرط التلقِّي المتحدي ذاك.
كان الحضور الغفير، بدايةً، علامة أولى وردة فعل مباشرة واستباقية، على إعلان الفيلم الاستباقي أيضاً لشرطه المذكور آنفاً، حيث لا يبقى لمعرفة نتيجة هذه المواجهة إلا انتظار مرور الوقت وإحصاء نقاط التقدم والتراجع، الخسارة والربح، بشكل أساسي؛ ما يدلّ عليه خروج الجمهور من الصالة أو عدمه، وهو بلا شك معيار جوهري في حالتنا هذه حتى من الوجهة الفنية. إذ ما الذي سيرغم مشاهداً على البقاء هذه الفترة أمام شاشة سينما في صالة مغلقة، حتى وإن كان يتناول (الفيلم) موضوعاً ساخناً كغزو العراق، الأمر الذي لم يعد الآن، على كل حال، كما كان عليه في وسائل الإعلام قبل ثلاثة عشر عاماً! إن لم يكن بُنية خاصة وتدفق شعوري ما يربط الفيلم بمتلقِّيه على أقل تقدير؟
من هذه الزاوية، وعلى عكس ما قد يتوقعه المترقِّب، فإن عباس فاضل بدأ فيلمه بالتقاط لحظات/مشاهد دافئة لأقربائه، نساء ورجال وأطفال، يشبهون كثيراً عراقاً مصغراً. عراقٌ بسحر غريب، يشبه بدوره أوابده. تلك الملامح التي تخالها خارجة من تاريخ شهد تواريخاً، ألمٌ سائر وخفي لا تستطيع تحديد ما إذا كان سببه وأصله حصار وقلق وتجويع فرضه العالم “المتمدِّن” بعد حرب الخليج، يجعل أحد الأكاديميين العراقيين يروي كيف كانت زوجته الطبيبة تربي ماعزاً على سطح منزلها لإطعام أسرتها. أو أنه أصبح جزءاً من جسد العراقي، كقدم أو ذراع، متأصلاً عمقَ تاريخ هذه البلاد.
لا يبدو في هذا الفيلم أن مخرجه يسعى إلى ربط المشاهد بحبكة واضحة، ولا حتى إلى استعجاله أو جذبه بفبركة ما أو أحداث تدهش وتبعد الملل عن الأعين رغم امتلاكه (المخرج) لمادة أصلية (راشز) تبلغ مئة وعشرين ساعة، على عكس ذلك، سنرى هنا لقطات طويلة لحوارات أبطالها أطفال أو مراهقين، أهمها وأكثرها لفتاً للانتباه ذلك الحوار بين الطفل حيدر (ابن أخت المخرج) وقريبته الشابة أثناء عمله على إخراج الماء بشكل متواصل بالمضخّة اليدوية، من البئر التي حفرها أهله في فناء البيت تحسبّاً للحرب القادمة، وذلك لتنظيف الماء من شوائبه، هنا إذ أخذ المخرج الخطاب من أفواه ضاحكة وبريئة ومن حركات روتينية تشبه أكثر ما تشبه الحياة بآلية تولّدها في كل لحظة، وذكرَ الحرب بهناءة وسكينةِ – قلبٍ أبيض – فإن الهول يبدو في جلال هذا التناقض عينه، وقد قام المخرج بإعلان استباقي آخر استناداً إلى “معرفتنا” بالقصة، أي الحرب وما نعرفه وما عاصرناه وتابعناه، لكن القصة هنا “مختلفة” تتجسّد في السينما الإبداعية بغير أشكالها المعتادة، بإيقاع يشبه إيقاع الحياة ولكن ليس هو ذاته، حتى لو قاربه المخرج ما أمكن، بإطالة أمد الفيلم ومعايشة شخوصه، والتغلغل في تفاصيلهم اليومية، والهناء بمللها الرتيب، المفقود، ما يبدو أن عباس فاضل يحنّ إليه حدّ الحرقة، هو الذي شرع بمونتاج الفيلم بعد عشر سنوات على إنجازه المواد الخام، هكذا ينتقل هذا الدفق بالعدوى إلى المتابع، ولا يسعه بعدُ إلا الرضوخ تباعاً لمرور الزمن الذي يشبه زمن الحياة، لكن ليس هو.
لم يغب بعد ذلك الحضور القوي للطفل “حيدر” كأهم المتحدثين في الفيلم، الناطق الرمزي باسم العراق، ضميره وأمله في آن، برغم حضور المتحدثين “الرسميين” بدءاً بالرئيس صدام حسين وليس انتهاءً بالممثل المصري سعيد صالح الذي وضع المخرج له مقطعاً من زيارة له إلى العراق يشدّ فيه من أزر العراقيين في مواجهة الأمريكان مطلقاً عبارة، محاكياً عبرها جملة شهيرة له في إحدى مسرحياته الكوميدية، لكنها كانت هنا مُرّة ومؤلمة كحال واقع عربي مهلهل: “جورج بوش انهزم يا رجالة”!

يتابع “فاضل” في رصده، الخط الآخر الموازي للأول، في الحيز الخاص، سوف يبقى على الدوام ينتقل إلى دوائر أوسع ويزور حوانيت ويحادث شباناً عاطلين عن العمل وشيوخ بذكريات تحكي تاريخاً آخر مضمراً للعراق، لكن قوة تأثير هذه المشاهد لا تضارع قوة مشاهد تخص ما يجري في البيوت، ترصد الزيارات الخاطفة والولائم التي لا تخفي توتراً عميقاً كأنها آخر لحظات سكينة النفس البشرية قبل عاصفة مميتة، كأن الناس يقولون آخر ما لديهم بتراثهم وبأفعالهم الرهيفة ومفارقاتهم المتنوعة إلى ما لا نهاية، وإن كانت المساحات تضيق شيئاً فشيئاً وصولاً إلى موعد الكارثة.
سقط صدام، واحتفل أناس وكره آخرون، ويتابع “فاضل” التصوير، ويتابع المتفرج ما كان يظن أنه يعرفه مسبقاً، لكن هنا، في “وطن” عباس فاضل لا يوجد أشلاء، ولا كثافة تدمير، سنرى آثار الغزو بأشكالٍ أخرى، كأطلالِ مؤسسة رسمية للسينما بأجهزتها وأشرطتها السينمائية التالفة، بأطفال يلعبون بقذائف الأمريكان وقد أخذوا يعتادون شيئاً فشيئاً على واقع أشد قسوة، ستسمع وصف الناس العراقيين، المغيبَّة أصواتهم قبل الغزو وبعده، لمنشآت دمرّها الأمريكان ولرجل متأثر يقول: “هل يعقل أن أولَ بلد في الحضارة آخرُ بلد يُستعمر؟!” سنرى حيدر الصغير بطرافته وابتسامته التي لا تفارق محياه يجادل أحد الرجال العراقيين المدافعين عن صدام، سنرى تجسيداً آخر بليغاً لعُته الآلة العسكرية المتطورة تكنولوجياً وعماها بأن تحتل دبابة أمريكية ضخمة وتجثم في مدخل مبنى أثري موجهة مدفعها إلى العالم.
يصعب ذكر كل التفاصيل في “وطن” عباس فاضل، في سرده الملحمي الطويل وإصراره على إبقاء التراتبية الزمنية الواقعية للمَشَاهد عبر اتبّاع مونتاج منضبط، يسمح لنا بالتأمل ومراجعة أنفسنا مراراً دون أن ندرك ذلك، وصولاً إلى نتيجة يصل إليها أي متفرج، عراقيٌ، عربيٌ، أو غير عربي، هي أنه خاسر مما جرى هناك لا ريب، فقدَ ما لا يستهان به، جزءاً من إنسانيته ربما، بعضاً ممن أصبحوا “أصدقاءه” على مدى ست ساعات، وإذا كابر أحدٌ أو بالغ في ممانعته، فإن الثواني الأخيرة من الساعات الست ستثنيه، وتدخله في الفيلم من جديد لكن من نهايته هذه المرّة، ذلك باصطدامه باللحظة التي يموت فيها حيدر، برصاص أهوج عندما كان في السيارة إلى جوار خاله “المصور” لتنتهي حياته مع نهاية التصوير والفيلم الطويل معاً.