“شبابِك الجنة”.. الموت كبداية أخرى
صالح سويسي

حين يصبح الفقد والحزن رديفا للحياة، وحين يصبح الموت بوّابة لاِكتشاف حقيقة الحياة من زوايا أخرى قد تكون صادمة لكنّها تُشكّل واقعا يعيش في دواخلنا.
حين تتشكّل موجات الإحباط لتتحوّل لفعل مقاومة ولو بأساليب قد تبدو اِنهزامية، لكنّها في النهاية تُمثّل السبيل الأيسر لتجاوز الصدمة وامتصاص ردّات الفعل المتأتّية جرّاءها.
في شريطه الروائي الأول، سعى المخرج التونسي فارس نعناع – الذي سبق أن قدّم للسينما ثلاثة أفلام قصيرة – لقول الكثير بهدوء ورصانة، ولم يبادر بتصدير شخصيّات اِنهزامية ومتواطئة مع تبعات الفقد والرحيل أو متلبّسة بالحزن والألم، قدّم المخرج شخصيات مقاومة بطرق وأساليب تختلف من حيث الشكل، لتلتقي في النهاية على طاولة واحدة، طاولة تجمع المتناقضات وتشكّل منها عنوانا لبدايات أخرى كانت في القريب نهايات حتميّة.
إنّه العبث في أبهى تجلّياته، وهو الذي شكّل نزوع الشخصيات نحو فعل المقاومة من بداية العمل وحتى نهايته.
في سياق أحداث الشريط زوجان شابّان لم يكملا العام السابع من رحلة الزواج بفقدان في لحظة مفصلية ابنتهما ياسمين، تموت الطفلة لتنطلق رحلة جديدة للزوجين، ولكن هذه المرّة لكل واحد منهما طريقه التي سلكها كي ينسى أو لكي يوهم نفسه أن نسيَ، وفي خضمّ لعبتيْ التذكّر ومحاولة النسيان تبرز وجوه أخرى يلبسها البطلان وأدوار أخرى يمارسها كل طرف بما أملته عليه الظروف التي صنعت تلك الأدوار وفرضتها (ربما أمام وقع الصدمة الأولى) لتكون أقرب لحياة أخرى غير التي كانت.
الموت ورحلة الهروب نحو النسيان
هنا يبدو الموت أشبه بكائن عجيب ينزل فجأة من حيث لا ندري ليفعل بالنفوس والقلوب والأبدان ما لا يمكن مقاومته وسط كمّ هائل من الأسئلة القاتلة عن جدوى مواصلة الحياة بعد الفقد.
تهرب الزوجة سارة إلى الموسيقى والغناء من خلال اِنضمامها لمجموعة موسيقية لتتعلّم الغناء ولكنّ اليأس سرى أكثر ممّا يجب في تفاصيلها اليومية ما جعله في لحظة فارقة تكاد ترتمي في حضن مدير الفرقة الموسيقية لكنّ شيئا ما جعلها تستفيق وتستعيد نفسها التي كادت تضيع، وربما كان لزوجها دور في ذلك وهو الذي أهملها وأهمل نفسه وانهمك في عوالم أخرى لم تكن عوالمه.

ورغم أنّ الموسيقى انتشلت الزوجة من زخم اليأس والمرارة إلاّ أنّها لم تأخذها بعيدا عن مناطق الإحساس الفظيع بالفقد وآلام البعد، حيث بقيت تردّد ذات الأغنية التي كانت تغنّيها لابنتها ياسمين “عصفور طلّ من الشباك”.أمّا الزوج سامي فحمل همومه وأحزانه وهرب إلى الحانات الرخيصة والعلاقات العابرة يجرّه إحساس مرير بأنه السبب في وفاة ابنته الوحيدة في لحظة أهملها فيها على الشاطئ منغمسا في أحاديث جانبية مع أفراد العائلة الموسعّة حول ما يشغل الشأن العام في البلاد وخاصة على المستوى السياسي والاجتماعي، يقوده ذلك الإحساس إلى أماكن مريبة في رحلة بحث عن سبلٍ للنسيان إلاّ أنه يجد نفسه في مناطق حقيرة لا تتوافق مع الحياة الناعمة الباذخة التي طبعت حياته خاصة بعد اِرتباطه بزوجته التي تنحدر من عائلة ثرية.
في هذه الأثناء تتصل به والدته لتعلمه أن والده يحتضر، وتطلب منه أن يزوره قبل وفاته، وهنا تظهر حكاية أخرى جانبية ضمن الحكايات التي ترابطت لصنع موضوع الفيلم، لكن ظهور الأب فجأة في حياة سامي سوف يصنع اللحظة الفارقة والمفصلية في علاقته بالحياة والموت، حيث يعلم سامي وقتها أنه ابن زواج غير قانوني (زواج عرفي) بين أمه ووالده الذي يعيش مع عائلته في أقصى الجنوب التونسي، حيث يزوره ولا يدور بينهما حوار، إن هي إلاّ مجرد نظرات ولمسات تحمل الكثير من المشاعر والعتاب والاعتذار.
ليتيقّن سامي بعد موت والده الذي لم يلتقِ به إلاّ وهو يستعد للرحيل الأبدي، من أنّ الموت ما هو إلاّ بداية أخرى، وما الولادة إلا اِستعداد للموت، وبذلك تبدأ قناعات أخرى تتزاحم داخله لتشكّل فهما آخر، فلحظة موت والده جعلته يرى الموت بعيون أخرى غير التي رأت موت وحيدته ياسمين.
شِعرية سينمائية
هو العمل الأول للمخرج “فارس نعناع” كما أسلفنا، وهو عمل نأى بعيدا في بُعده الإنساني الرهيف، ولو أنّه اْستمدّ موضوعه من صلب المجتمع التونسي انطلاقا من فكرة إنسانية بالأساس، لم يتعمّد المخرج مثلا تصوير مشهد لغرق الطفلة ياسمين، بل مرّر الفكرة عبر المشاهد الدرامية التي طبعتها مسحة شاعرية محبّبة، مع موسيقى ناعمة في أغلب الأحيان ساهمت في تصوير تبعات الموت وتأثيره على أبطال الفيلم.
اِعتمد المخرج أيضا على تواتر الأحداث بشكل مغرٍ، ولم يكن تقليديا في رسم البدايات والنهايات بل توغّل في عمق الشخصيات إنسانيّا، وجعل المشاهد يكتشف بالتدريج ما حدث ويحدث، حتى فيما يتعلّق بالقصص الجانبية لم تكن مجرّد حشو وإنما كانت بوصلات للقصة الأصلية أو سبيلا لإيصال الفكرة العامة للفيلم.

يُحسب لفارس نعناع في تجربته الأولى في الأفلام الطويلة أشياء كثيرة، لعلّ أهمّها اِختياره الناجح للممثّلين الذين جسّدوا الأدوار بحرية عالية وتميّز كبير، خاصة فيما يتعلّق بلطفي العبدلي وأنيسة داوود وهذا طبعا لا ينقص من قيمة بقية الممثّلين في الشريط، ومن النقاط التي أسهمت في نجاح الفيلم المسحة الرومانسية والرهافة في التعاطي مع الأحداث ما حقّق المتعة المشهدية.
لطفي العبدلي: عبقرية الأداء
من بين العلامات المضيئة في “شبابك الجنة” الأداء المميّز جدا للممثل التونسي لطفي العبدلي، هذا الممثل الشاب الذي ظفر بجائزة أفضل ممثل في الدورة الأخيرة لمهرجان دبي السينمائي عن ذات الدور، سبق أن قدّم للسينما والتلفزيون أدوارا متباينة من حيث جودة الأداء وهذا أمر طبيعي ومفهوم بحكم قلّة التراكم الإنتاجي في تونس، لكنه كان في جلّ الأدوار السينمائية التي أثّثّها يعطي إشارات لكونه ممثّلا موهوبا، ليؤكد في هذا الشريط أنّه من طينة الكبار وأنّ القادم سوف يرسّخ هذا الاعتقاد.
لطفي العبدلي جسّد الشخصية باِقتدار، بل إنّه تلبّس الشخصية وعاشها وفجّر من داخله طاقات غير قليلة جعلت المتلقّي يقف عند أداء عبقريّ لهذا الممثّل المتمكّن، وقد سمحت العديد من المشاهد بالوقوف عند لحظات فارقة في أدائه الذي كان مبهرا وممتعا في آن.
عموما، يمكن اِعتبار هذا الفيلم بداية موفقة جدا لمخرج ننتظر منه الكثير، وخاصة على مستوى الأعمال التي تنبش في عمق المشاعر الإنسانية بحب وشاعرية.