غوانتانامو، الاختبار الحقيقيّ للمشاهد والصانع

            مروة صبري

ليس بغريب أن يجتذب معتقل غوانتانامو صنّاع الأفلام الوثائقيّة بالدرجة الأولى، فقصته تحمل عوامل إنجاح الأفلام الدراميّة لكنّها تحدث في الواقع، غوانتانامو يجمع بين الخطر والغموض والخيانة، يفضح نفاق الساسة من ناحية، وضعف المجرم مهما بدا عتيًّا من ناحية أخرى، ومع تجدد دعوة الرئيس الأمريكيّ باراك أوباما لغلق هذا المستنقع اللا آدميّ ثمّ استغلال المندوب الدائم لمصر في الأمم المتحدة، عمرو رمضان، وجوده لإسكات أمريكا عن التحدث عن حقوق الإنسان في مصر، شعرت بضرورة زيارة القضيّة من خلال الفيلم الوثائقيّ “غلق غوانتانامو” الذي قدمته قناة بي بي سي وأخرجه أليكس كوك، وقام بمحاوراته مايكل بورتيللو.

مايكل بورتيللو هو عضو سابق في البرلمان البريطاني عن الحزب المحافظ، وصحافيّ ومذيع معروف، وربما كانت خبرته السياسيّة هذه مساعدة له في تجميع حبات العقد، فقد انتقلت الكاميرا من قارة إلى قارة ما بين أمريكا وكوبا وانجلترا واليمن وبرمودا؛ ما بين تصوير داخليّ وخارجيّ، انتقل فريق العمل بلا تردد ليجمع قصاصات حكاية غوانتانامو. تلك الحكاية التي بدّلت مجرى حياة أسر كاملة، كما تعد سقطة أمريكيّة جديدة في مجال حقوق الإنسان، فأمريكا التي غزت العراق “لإنقاذ” الشعب العراقيّ من قمع صدام حسين، والتي أزالت حكم طالبان في أفغانستان تحت دعوى إعادة الأمان للبنات والنساء، هي التي قررت فتح معتقل قمعيّ كبير للتحقيقات مع المشتبه فيهم بالإرهاب بعيدًا عن الحماية التي تكفلها القوانين الأمريكيّة على أرضها، مع رفض تصنيفهم كمساجين حرب حتى لا ينالوا حقوق أسرى الحروب التي كفلها مؤتمر جنيف، لا يحوي الفيلم إبهارًا أكثر من ثراء محتواه من حيث تجميع التفاصيل، لكنّه لم يلعب بالمؤثرات التصويريّة على الأوتار العاطفيّة لدى المشاهد، ولم يعمد على حركات ماهرة للكاميرا ولم يحوّل الكادر من “زوم” لتصوير عن بعد لتوصيل نقطة معيّنة إلى المشاهد، بل رأى أنّ إعطاء كل طرف في الصراع الفرصة للإجابة على الأسئلة الحساسة التي طرحها بورتيللو هو أبلغ طريق، وليقرر المشاهد ما يشاء.

الإلقاء في وسط الحدث

بداية الفيلم تعرض الأسلاك الشائكة المحيطة بغوانتانامو ثمّ السجّان وهو يغلق بوابة حديديّة ثمّ مايكل بورتيللو يختلس نظرة إلى سجين من خلال زجاج إنعكاسيّ، ينتقل بنا المخرج إلى أوباما وهو يحدد موعدًا أقصى لغلق غوانتانامو، بهذه المقدمة، رُسِّخَت روح الفيلم وإيقاعه، تبدأ القصة ما بين واشنطن وكوبا، ثمّ تنسكب إلى قارات أخرى مع تعقد الأمور ومع عرض مزيد من الجوانب والرؤى.

الفيلم يظهر أنّ القرار لم يكن بتلك السهولة التي تصورها أوباما، فالسياسات حول المعتقل شائكة تمامًا كالأسلاك التي تفصله عن العالم، وفكرة أنّ الحرية تأتي بالأمان مرفوضة من قبل الحزب الجمهوريّ الأمريكيّ الذي يقدم الأمان على الحريّة والذي ظهر ممثلوه خلال الفيلم للتأكيد على ذلك، لذا كان من الذكاء أن ينتقل المشهد إلى تصريح كيرك ليبولد القائد السابق في البحريّة الأمريكيّة والذي أثنى على غوانتانامو ووصف محاولة إغلاقها بالطريق السهل الكسول.

ممثلو الصراع

التقى مايكل بورتيللو ممثلًا حقوقيًّا، ومحاميّ دفاع أحد السجناء، وأهالي فقدوا أقرباء في الحادي عشر من سبتمبر، ونائبًا جمهوريًا من الكونغرس الأمريكيّ يرى استمرار غوانتانامو، وضباط جيش من داخل المعتقل، حتى أنّه التقى مسلمًا بريطانيًا قضى في غوانتانامو ست سنوات قبل إطلاق سراحه، وسجناء صينيين تمّ بيعهم إلى الولايات المتحدة مقابل خمسة آلاف دولار أمريكيّ عن الفرد، وحارسًا يمنيًا لبن لادن أطلق سراحه قبل قرار منع إطلاق سراح اليمنيين، ومحققًا أمريكيًّا استقال من منصبه اعتراضًا على نزاهة الإجراءات، وغيرهم.

على الرغم من تنوّع أطراف الخلاف بشكل يوحي بعدم تفويت فائتة، إلا أنّني شعرت أنّه كان يجب أيضًا التقاء أقرباء لمعتقلي غوانتانامو سواء السابقين أو الحاليين وعرض أثر تضارب الآراء بشان غوانتانامو عليهم، فاستكمال الملامح الاجتماعيّة لأبعاد الصراع لا يتم في رأيي إلا بهم.

مواجهات غير مباشرة

 لم يكن بورتيللو في حاجة إلى التعليق على كل الأمور، فإن توحيد بعض الأسئلة لقطبيّن في المعادلة كان كفيلًا بإثراء الفيلم وبكشف الكاذب، فعلى سبيل المثال، تحدث بورتيللو عن اعتراف الولايات المتحدة باستخدام الإيهام بالغرق ضد المتهمين في غوانتانامو كوسيلة لاستخراج اعترافات منهم، في نفس الوقت الذي أنكر فيه لواء الجيش ديفيد توماس المسئول عن المعتقل وبوجه صلب أنّه لم يحدث أبدًا أن تعرض متهمًا إلى هذه التقنيّة، وبسؤاله عن التغذيّة القسريّة للمضربين عن الطعام، قال بأنّهم كانوا يراعون دهن أنبوبة التغذيّة قبل إدخالها الحنجرة  حتى لا يتألم السجين المضرب، وبعدها علّق بورتيللو نفسه كراوّ أنّ  المنظمة الأمريكيّة للطب قالت أنّ هذا الإجراء مشكوك فيه أخلاقيًا، كما أنّه لا يصدق إدّعاء توماس بأنّ السجناء تعاونوا معهم في هذا.

ردّ على زعم اللواء توماس بعدم استخدام الإيهام بالماء، قابل بورتيللو سجينًا بريطانيًّا سابقًا حُبِسَ لأكثر من خمس سنوات لتشابه في الأسماء بينه وبين مقاتل شيشانيّ، فقد خلالها نظره في عينه المصابة، وتعرض بحسب تصريحاته إلى الضرب والتعذيب والإهانة وكسر الأصابع، وإصابة في الضلوع استمرت حتى بعد مرور فترة على عودته إلى بريطانيا، كما تعرض للإيهام بالماء.

وللتوازن في عرض الأحداث، سافر بورتيللو إلى اليمن ليعرض لنا قصة أحد حراس بن لادن الذي كان معتقلًا في غوانتانامو أيضًا ومع ذلك تم إطلاق سراحه بلا أيّ ضمانات أو إعدادات نفسيّة أو ماديّة. وهنا يظهر للمشاهد عمق الحسابات السياسات وارتباكها، فالأمر إذًا لا علاقة له بالاتهامات الموجهة فحسب بل إنّه تمّ إطلاق سراح أبرياء ومتورطين على السواء.

التقى بورتيللو أيضًا برجل يمنيّ لم يرسل إلى غوانتانامو لكنّه يزعم تجنيد عددًا من الذين سجنوا به، وقرر فتح مركز للتأهيل للعائدين من هناك، سأله بورتيللو عن شعوره في حالة وقوع حادث أو انفجار في أمريكا وهل سيتغير شعوره إن حدث في انجلترا أو فرنسا، وكانت الإجابة أنّه بسبب ما يحدث في العراق والصومال واليمن فإنّ حدوث ذلك في أيّ من تلك الدول سيسعده لأنّهم يقمعون الدول العربيّة وبذلك يذوقون بعضًا مما يفعلون، وأوضح أنّه يحب أن يتجنب كل ذلك لكنّ الخطوة الأولى هي ترك تلك البلاد في سلام.
 والحقيقة أنّه من الصعب فهم وجهة النظر تلك أو التصالح مع فكرة أنّها غير متناقضة لكن الفيلم نقلها كما هيّ لعلنا نستخلص معلومة متناسقة. هذا الحوار كان مهمًا حيث أنّه أعلن ما يشعر به بصراحة، حتى وإن كانت تلك الصراحة صادمة للرأي الغربي الذي نقل له هذا الفيلم، فإنّها عقدة القصة، من يترك بلاد من أولًا؟

 اليمن مصدر أكبر عدد من السجناء الذين بعد سنوات من إنتاج الفيلم ما زالوا بغوانتانامو إذ صدر إعلان أمريكيّ بعدم إطلاق سراح أيّ من اليمن لدواع أمنيّة، وحين تنتقل الكاميرا إلى مشهد عند دار محكمة يمنيّة حيث كان موعد محاكمة سبع من أعضاء القاعدة، يصل المشاهد أحاسيس متضاربة توضح قرار الولايات المتحدة، فهناك تشديدات أمنيّة في مكان فوضويّ، فلا يؤمن على البريء من التشديدات فيظلم أكثر ولا على المجرمين من استغلال الفوضى فيعودون إلى التورط في مزيد من أعمال العنف.

من حيث اختيار أشخاص الحوار، فإنّه تم انتقائهم بدقّة وأفسح لهم المجال للتحدث بأريحيّة تجسد أقطاب الصراع، وعلى الرغم من أنّ هذا اللون يدرج تحت “أفلام وثائقيّة” إلا أنّنا نشعر خلال بعض اللقطات أنّه تقريرًا إخباريًّا حين تختفي شخصيّة بورتيللو للظل ويدع التركيز على الشخوص المختارة للإخبار عن رؤيتهم، ثمّ نستفيق على تعليق له على تلك الآراء.

في آخر الفيلم الذي يقارب الساعة، يجري بورتيللو مكالمة هاتفيّة مع رئيس اتحاد الحريات المدنيّة في أمريكا، أنثوني روميرو ويسأله إن خذله قرار أوباما باحتجاز بعض المساجين بلا محاكمات ولا مدد محددة للاعتقال، فبعض المتهمين من المعروف خطورتهم لكنّ القانون لا يدينهم، فهل يمكن أن يحبسوا مدى الحياة بدون اتهامات أو محاكمات؟كا ن رأيّ روميرو هو أنّه لا يصح سجن إنسانًا بدون تحديد مدة وبدون اتهامات ترتقي إلى حد السند القانوني، ويمكن إرسالهم إلى حيث يمكن متابعتهم. ختم بورتيللو بأنّه يحترم من يتمسكون بمبادئهم تحت أي ظروف وكان يتمنى إن كان هو مكان أوباما وكان مخيرًا بين فطرته التحرريّة وبين إحساسه بمسئوليّة توفير الأمان لشعبه، أن يختار الحريّة لكنّ الحقيقة هو أنّه لا يستطيع وأنّه مقتنع برأي أوباما بعدم إطلاق سراح البعض وإن لم تتوافر لديهم أدلة إدانة كافيّة.

هذا الفيلم الوثائقيّ من الأفلام التي لا تنتهي بعد نزول أسماء صنّاعه، فالأمر أقرب وأعمق من غوانتانامو، من السهل ترديد شعارات عن المساواة والحقوق والحريّات وسيادة القانون، حتى يأتي حدث جلل كأحداث الحادي عشر من سبتمبر فتقلب الموازين، فنجد رئيسًا من أصل إفريقيّ مسلم ودارس للقانون يصل إلى قناعة أنّ هناك من يستحق السجن بلا أدلة كافيّة للإدانة وبلا تحديد فترة ثابتة، وبلا محاكمات، ويؤيده صحافيّ عمل بالسياسة مثل بورتيللو الذي خصص فيلمًا كاملًا ليقول أنّ هذا القرار ضد المباديء لكن الأمن مقدم عليها. نعم يريد أوباما غلق غوانتانامو لكنّه لا يريد تسريح كل من فيه، وهذا باب خطير حين يطرق، يفتح باب الفساد والاستبداد لأنّ القوانين وإن خذلتنا فالتمسك بها واتباعها خير من الفوضى في غيابها.


إعلان