“هاوس أوف كاردز” .. متلازمة السلطة
إسلام السّقا

تقول “حنا آرندت”، وهي فيلسوفة في السياسة ولدت في ألمانيا عام 1906، في كتابها The Human Condition، إن مصطلح polis اليوناني القديم والذي يشير إلى المكان الذي يقف فيه السياسي ليُحدِّث الناس عن أفكاره فيستمعون إليه، كمكان أشبه بمجلس الشعب، لم يعد يُعبِّر عن موقع فيزيائي في الدولة المدنية، بل هو العلاقة المنضبطة والتي تنشأ بين الناس كنتيجة لتفاعلهم وتحدّثهم لبعضهم البعض.
فالمعنى الحقيقي لها يكمن في المساحة المتاحة بين الناس الذين يعيشون من أجل هذا الغرض: التواصل وتبادل الآراء، بغض النظر عن مكان وقوع هذه المساحة فيزيائيًا، حتى إن هناك شعارًا شهيرًا يقول “أينما تولّي وجهك فثمّة polis” والذي أطلقه اليونانيون عندما أرادوا تكرار تجربتهم في المستعمرات التي سيطروا عليها، وذلك بأن المساحة التي تخلقها مشاركة القول والفعل يمكن لها أن تجد طريقها تقريبًا في أي بقعة أخرى.
بالنسبة لآرندت، الـ polis هو المظهر؛ ظهورك أنت للآخرين وظهور الآخرين لك، حيث ينشأ عالم لا يكون فيه الرجال مجرد كائنات تعيش كغيرها فحسب، بل إنها تُسلِّط الضوء على “وجودها” من خلال استغلال مساحة الظهور العام هذه والتي يبقى من المحتمل ولادتها في أي مكان يجتمع فيه الناس سياسيًا، لكن هذه الولادة ليست حتمية بل إنها فقط مُحتملة. قدمت آرندت تعريفات هامة في كتاب آخر حمل عنوان (في العنف) من أجل التفريق بين كل من العنف والتسلط والقوة والقدرة والسلطة.
وقد أعجبني للغاية تفنيدها للعلاقة الملتبسة بين السلطة والعنف وإحالة كل إشكالياتها إلى المنطق بواقعية صرف عبر تناول جميع الآراء التي اعتبرت العنف هو التجلي الأكثر بروزًا للسلطة.. العنف حسب “حنّا” هو نقيض السلطة، بل لا يتولد عنه سلطة حقيقية كونه أدواتي، فحتى الأنظمة الشمولية التي تعتمد في وجودها على العنف (التعذيب والسجن والقتل) كوسيلة للحكم، تحتاج إلى توفُّر أسس للسلطة، فالسلطة هي جوهر الحكومة ولا يمكن للعنف أن يكون جوهرًا، وإن حدث واندمج العنف مع السلطة فإن الثمن تدفعه السلطة قبل الأطراف الأخرى، أمّا السلطة إذا ما ضعفت، فإنها تولد عنفًا، والعنف إذا انبعث فإنه يهدد السلطة وغالبًا ما ينتصر عليها، فإن “حكم الطغيان هو الحكم الأكثر عنفًا والأقل قوة بين أشكال الحكم” كما كان يقول مونتسكيو.
أحاول استنادًا على مراجع* مختلفة، كنت قد صادفتها خلال الفترة الماضية أن أتناول شخصية فرانك أندروود (مجددًا!) من مسلسل هاوس أوف كاردز House Of Cards الشهير والذي صدر منه الموسم الرابع مؤخرا.
بات من الواضح للمشاهد حالة التعطُّش التي تتملّك “فرانك أندروود” للسلطة حيث أخذه هذا التعطّش إلى أن يملك الكرسي الأكثر رفعةً في الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة بسيطة نسبيًا، كرسي الرئاسة.
يدين فرانك بوجوده هناك إلى غريزة السيطرة التي تتملكه، هنا يستحضرنا ما قاله جوفينيل أن “المرء يشعر بنفسه أكثر من مجرد إنسان حين يتمكن من فرض نفسه، ومن جعل الآخرين أدوات تطيع رغباته” ما يمنحه “لذة لا تضاهى”. السلطة، كما يقول فولتير، “تقوم على جعل الآخرين يتصرفون تبعًا لاختياراتي”. بينما يرى ماكس فيبر أن السلطة توجد حيثما يكون من حظِّي أن أفرض إرادتي رغم مقاومة الآخرين لها، مذكرًا إيانا بتعريفٍ كان قد جاء به كلاوزفتش للحرب بوصفها “فعل عنف يهدف إلى إجبار الخصم على فعل ما أريد”.

يعتبِر “فرانك أندروود” – (الذي مارس العنف بيده مرارًا حتى وصل إلى كرسي الحكم فقرر أن يكون إنسانيّاً؛ فعليك أن تملك بعض الإنسانية إذا ما صرت رئيسًا في يوم من الأيّام) – أن الإنسان ما هو إلا ما يقوم باختيار إظهاره عن نفسه، وهنا يتفق مع ما عمّمته آرندت حول مفهوم Polis.
إذ لا تنفصل حقيقتك عن حقيقة ما تُظهره، وهذا يعني أن ظهورك أمام صديقتك قد يختلف عن ظهورك أمام والديك، فأنت دومًا ما تختار الطريقة التي تظهر بها أمام الآخرين.
يقوم “فرانك” في كل مرة يكسر فيها الجدار الرابع متحدّثًا إلى الجمهور (نحن) بممارسة هذه الحيلة علينا، فهو بذلك يعترف بتصميمه الدقيق للشخصية التي يظهر فيها في المسلسل أمام الجميع. لذا، عندما يتحوّل إلينا فإنه صريح وحقير في الآن ذاته، نعرف ما يدور في خلده لكن لا أحد غيرنا يعلم ذلك، يعرض علينا شخصيته التي بناها أمام الجميع فقط ليبهرنا ويثير إعجابنا، بالتالي فهو يظهر أمامنا بغير ما يظهر به أمام الآخرين، وهو بالنسبة لنا ما يظهر به أمامنا فحسب. يعلّمنا، بصحبة زوجته، فن الظهور أمام الناس: أن نكون ممثلين محترفين.
قد تكون هذه مقدمة بسيطة لمحاولة الإجابة عن سؤال: لماذا لا نكره فرانك أندروود؟ لكننا لن نزعج أنفسنا كثيرًا في محاولة تحصيل إجابة نموذجية له، فإن آخر ما نودّ فعله هو أن نقدّم أنفسنا وجبة لعقلية فرانك أندروود الفذة، بل إننا نخاف حتى التفكير في ذلك.
في المقابل، لو أردنا أخذ هذا السؤال وعدّلنا في بنيته اللغوية قليلًا ليكون سؤالًا عنّا نحن؛ من نحن؟ هل نحن ما نظهر للعامة على أنه نحن أم أننا ذلك الجزء الصغير المتكوّر في داخلنا ولم نظهره إلا نادرًا؟، فإن سؤالًا آخرًا سينبت بكل تأكيد: من يمتلك القدرة على أن يكون صاحب الإجابة أصًلا، نحن أم من يرانا على ما نحن عليه؟
*مراجع:
(1) حنا آردنت، في العنف، دار الساقي للطباعة والنشر، 1992.
(2) موسوعة ستانفورد للفلسفة، حنا آردنت:
http://plato.stanford.edu/entries/arendt/#ActPowSpaApp
(3) .The Philosophy of House of Cards – Wisecrack Edition