جدالات التاريخ والحاضر في وثائقيات تركية

محمد موسى 

جَمَعت المسابقة الوطنية للأفلام التسجيلية التركية في الدورة الخامسة والثلاثين من مهرجان إسطنبول السينمائي (الذي عقد من السابع وحتى السابع عشر من شهر أبريل الجاري)، أفلاماً متنوعة بمواضيعها،وإن قارب جُلّها التاريخ والحاضر التركيين المعقدين، لتوفر هذه الأفلام ما يشبه إطلالة حديثة على حال البلد، الذي يضع رجلاً له في أوروبا وأخرى في الشرق الأوسط، ويتأرجح بين قوى هذين العالمين المتضادين، ومازالت الرقابة الفكرية فيه تجثم على حريات فنانيه ومخرجيه، لتمثل الحدود التي تقطعها الأفلام التسجيلية في مقارباتها لمواضيعها الحساسة، مقياسا أحياناً لما بلغه البلد ككل في تعاطيه مع هذه القضايا.

في كل ذلك يواصل مهرجان إسطنبول السينمائي تصديه للدور الذي أخذه على عاتقه، بالدفاع عن الحريات العامة والخاصة، بما يختاره من أفلام، وهو أمر لم يمرّ دائماً دون عراقيل، إذ تعترض الرقابات هناك على اختيارات المهرجان من أفلام وكما حدث العام الماضي.

ملصق مهرجان اسطنبول

فمن القضايا التي تصدت لها أفلام هذا العام التسجيلية: العلاقة التركية المعاصرة مع التاريخ الدموي بين الأتراك والأرمن، الخدمة العسكرية الإلزامية، المنفيون الأتراك لأسباب سياسية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أحوال أتراك جزيرة قبرص وعلاقتهم بالبلد الأُمّ وما يقال عن سيطرة حكومية تركية على القرار السياسي للأقلية التركية هنا. إضافة إلى فيلم تسجيلي مهم كثيراً عن الفيلم الروائي التركي المعروف “الجدار”، والذي يتناول بدوره حياة مساجين سياسين أتراك في سجون تركية، وصور بفرنسا تحت إدارة المخرج التركي المنفي يلماز غوني، والذي مرَّ هو نفسه في جحيم السجن السياسي قبل هروبه إلى المنفى في بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي.

انتباه

تحت الروح والبناء المرحين لفيلم “انتباه” للمخرجين التركيين أونور بكير وباناجيوتيس شارأميس، والذي فاز بالجائزة الأولى في مسابقة الأفلام التسجيلية لهذا العام، هناك أسئلة جدليّة مستفزة عن الجيش التركي، كأحد أركان الدولة التركية الحديثة، وعن الولاء وتعريفاته المتغيرة. يصور الفيلم رحلة أحد المخرجين (بكير) وهو يحاول أن يجد الإجابة عن معنى وجدوى الخدمة العسكرية الإلزامية في بلده اليوم، وفي ضوء قوانين جديدة تسمح للراغبين وممن تجاوزوا عمر 27عاماً الإعفاء من الخدمة مقابل دفع مبلغ مالي كبير. يتجول المخرج بين أهله ومعارفه الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة، طارحاً أسئلة عن الخدمة العسكرية والتي كانت من مقدسات الماضي التركي وإحدى دعائم الانتماء إلى الوطن للذكور في تركيا.

من فيلم "إنتباه"

تغلب على الفيلم السلاسة والانتقالاتالسريعة، وتطغى عليه أحياناً الكوميديا الدافئة، لكن مساره كان يسير باتجاه جدي للغاية، فعلى المخرج أن يقرر في النهاية إذا كان سيخدم في جيش بلده أو يدفع النقود للتخلص من هَمّ الخدمة. لم يرغب المخرج الشاب أن يكون قراره فردياً، بل أراد عبر معالجة الفيلم الذكية أن يعبر عن اتجاه فكري ويربط ما يقوم به بتحولات اجتماعية عامة. توفر شهادات شخصيات الفيلم خليطاً متنوعاً من وجهات النظر، فجاءت شهادات الأهل وخاصة الوالدين حميمية وحاسمة بقرارها بأن يدفع الابن المبلغ المالي، في حين وفرت شهادات أصدقاء خدموا في الجيش التركي، وجهات نظر تنطلق من تجارب وفهم جديد لدور الجيوش في زمننا الحالي.

الآخرون

لعل الجدل الذييتوخاه فيلم “الآخرون” للمخرجة عائشة بولات، يشبه ذلك الذي احتدم في غرفة جلوس أحد بيوت تلك القرية على الحدود بين تركيا وأرمينيا ونقله الفيلم في أحد مشاهده،عندما كشف أحد الموجودين عن رأيه المتطرف في كراهيته بحق جيرانه الأرمن، ووجد من الجيل الشاب من يرد عليه ويذكر بإنسانية الأرمن. يحقق الفيلم التسجيلي في حال العلاقة بين الأرمن والأتراك في قرية كانت تجمع يوماً إثنيات متعددة، منها الأرمنية والتركية والكردية. يزور الفيلم ما بقى من آثار كنائس القرية، التي تحولت إلى بيوت بعد أن هجرها أهلها. ويرافق تركي شاب يقوم بتوثيق آثار الأرمن في المنطقة الحدودية.

من فيلم "الآخرون"

لا يجد الفيلم الطريق المناسب أو المقاربة الواضحة. لكن خطه العام يتحسن عندما يتناول قصة جدة دليل الفيلم، الأرمنية التي فقدت أهلها وتحولت للدين الإسلامي بعد زواجها من تركي شاب وقتها. سيتشكل بوتريه لهذه السيدة التي يحتفظ ابنهاالمسّن بصورة لها في محفظته. فهي ستطلب قبل وفاتها أن يدفن معها عقداً ورثته من أُمّها وكما يفعل الأرمن، وهو ما رفضه الشيخ الذي دفنها، ليتناقل أهل القرية الحكاية هذه لليوم. يعوض الفيلم عن بنائه غير المتماسك بمشهديات جميلة للطبيعة المفتوحة الفاتنة، والتي كانت شاهدة عبر العصور على أحداث المنطقة الدموية.

الرئيس

من الشطر التركي من جزيرة قبرص يأتي فيلم “الرئيس” للمخرج التركي الشاب أورهان إيسكيكوي. هذه المنطقة التي مازالت مجهولة لكثر ستكون في خلفية الحكاية التي يقدمها الفيلم، الذي يرافق أحد مرشحي الرئاسة هناك واسمه عارف صالح كرداخ. ستكون الانتخاباتالتي يغطيها الفيلم الثالثة للمرشح، والذي لم يحصل قبلها إلا على بضع مئات من الأصوات، ولا يبدو أن حظه سيتحسن في الانتخابات الحالية. يسجل الفيلم الأيام التي سبقت الانتخابات وتحضيرات شخصيته التي تخوض الانتخابات بقدراتها الذاتية، وبلا أدنى دعم حزبي أو مالي. عدا زوجة مخلصة، تواصل الوقوف خلف زوجها.

أورهان ايسكيكوي

لا يطرح المخرج أسئلة عن المرشح الرئاسي، بل يكتفي بمراقبته، الأمر الذي سيزيد من غموض هذا الرجل الستيني، فتارة يبدو كمجنون فقد الاتصال بالعالم الواقعي من حوله، وتارة أخرى كحكيم، يملك رؤية مكتملة لمشاكل الجزيرة المعقدة. بدا المخرج منشغلاً بالحياة اليومية لشخصيته أكثر من طموحها السياسي. فركز في مشاهد على العلاقة التي تربط المرشح مع زوجته الطيبة التي تتبع زوجها دون اعتراضات كثيرة، وتسعى أن تضيف عقلانية ما لما يقوم به زوجها.

“الجدار” و أطفال السياسي التركي المنفي

يرتكز مشروع فيلم “قصة المنفيين يلماز غوني” للمخرج إيلكرسافاسكورت، على مواد أرشيفية شديدة الأهمية لكواليس تصوير فيلم “الجدار”، الذي أخرجه السينمائي والكاتب التركي يلماز غوني في فرنسا في عام 1982. لكن الفيلم التسجيلي ورغم هذه اللقية الثمينة لم يتجاوز حدود التقرير التلفزيوني وهو يتناول سيرة السينمائي الراحل، وبالخصوص عمله في فيلم الجدار، الذي كان نقدا قاسيا لحقبة حكم الجنرالات في تركيا والقمع الذي كان سائداً حينها. يقابل الفيلم التسجيلي ممثلين اشتركوافي الفيلم الروائي ذاك، ومنهم فرنسيونلعبوا شخصيات تركية وتم دبلجة أصواتهم. وسط شهادات شخصيات الفيلم، يطل المخرج الراحل غوني في مشاهد أرشيفية، كشخصية فريدة بمثلها وسخطها وغضبها وإيمانها الفريد بالثقافة والفن.

من فيلم "قصة المنفيين يلماز غوني"

لجأ السياسي الشيوعي التركي رفعت تيمور الى ألمانيا في نفس الوقت تقريباً الذي كان مواطنه غوني يصور فيلمه في فرنسا. سيغطس تيمور في المنفى الألماني، وسيسعى أن يجد معنى لحياته عبر انشغاله بمساعدة مهاجرين أتراك إلى مدينته برلين حيث يعيش. يسلط فيلم “أطفال رفعت” للمخرجين مؤمن باريز وراشد بلكايا الضوء على إحدى تجارب السياسي التركي، والذي نظم دروسأ في الفلسفة لأتراك شباب من طبقات اجتماعية فقيرة. يوسع الفيلم مداه عندما يتناول السير الشخصية الصعبة لطلاب تيمور، وسيكون من الأعمال القليلة التي تنقل شهادات حميمية لرجال عاشوا حيوات صعبة في بلدانهم الأصلية وعلاقات معقدة عنيفة مع رجال في عوائلهم. كما سينتقل الفيلم بسلاسة بين الشهادات والمعايشات لشخصياته التي رافقها لفترات طويلة في يومياتها في المدينة الألمانية الواسعة.


إعلان