الطبيب الفنان والمُعلم القبطان

إسراء إمام

في الفصل الدراسى لمدرسة داخلية صارمة، يقف الأستاذ “جون كيتينج” أمام السبورة، ويطلب من أحد طلابه قراءة مقدمة كتاب أحد نقاد الشِعر الكِبار، يقرأ الطالب فقرة ما بتمعن، يصف فيها على لسان الكاتب وصفا تفصيلىا لكيفية التفنيد بين القصيدة الجيدة والأخرى الرديئة، عن طريق رسم بياني تخيلي.

الأستاذ "كيتينج" في الفصل الدراسي

يلتقطه “كيتينج” من فم الطالب، ويبادر فى رسمه متأهبا، وموحيا بدرجة اهتمامه بقيمة ما ينبرى المؤلف لإيضاحه، فى الوقت ذاته يقوم طالب آخر بنقل رسمة “كيتينج” فى دفتر ملاحظاته، باعتبارها مرجعا قد يعينه على الاستذكار فيما بعد. وبعدما ينتهى الطالب الأول من قراءة الفقرة، يتم “كيتينج” رسمته، ويكاد يفرغ الطالب الثاني من نقش ما خطه “كيتينج” على السبورة. يتفوه “كيتينج” فجأة وهو مبتسم رائق البال ” ما هذا إلا مجرد هراء”. ولابد من أن أطلعك أولا على رد فعل طالب النقش عزيزي القارىء، قبل أن أوضح لك ما أرمى إليه بسردى الموقف كله، فما إن نطق “كيتينج” جملته المباغتة، حتى اندهش هذا الطالب، ومن ثم قام فورا وبحركة آلية بمحو الرسمة التي اجتهد بتفان منذ قليل فى نقشها.

يُبدي”كيتينج” بعدها امتعاضه بخصوص مبدأ صاحب الكتاب النقدى، ويتنكر من هذه الطريقة الجافة والمُدعية إزاء الشعر، والتي في المقابل يُمجِدها المُعلَم، ويعترف بقيمتها لدرجة وضعها فى مناهج الدراسة، لكي يتعلم من خلالها الطلاب الحُكم على الشعر. 

على صعيد آخر، وبالعودة إلينا، يمكننا جيدا أن نراقبنا، نتأملنا ونحن نستيقظ يوميا، نقاتل لكي نمارس تفاصيل عيشنا، دون أن نسأل أنفسنا فعليا عن حقيقتها، ننقشها نقشا كالطالب الذي نقش رسم أستاذه لمجرد اعتقاده بأنه ذو قيمة، ومن ثم محاه لأنه ليس كذلك. 

فى الحقيقة، نحن نحيا لنحيا..

فماذا سيحدث، إن قررنا أن نحيا لنُلهِم ونُلهَم؟

أستاذ “جون كيتينج” من فيلم 1989dead poets society، ودكتور “ليونيل لوغ” من فيلم the king’s speech 2010، شخصيات اختارت أن تحيا لتُلهِم غيرها، وتجد إلهامها الخاص في إعادة اكتشاف كل ما يحيط بها، آثرت أن تملك عينا متفردة تُعَبِر عنها، ومنهجا مغايرا تَعبُر من خلاله ممر الحياة، تتجاوزه لترى المغزى منه، بدلا من أن تسكنه هو بذاته، وتحيا محتمية بظله الخادع، آمنة لظلامه الذي لن يمكنهم أبدا من رؤية النور.

دعني أثرثر معك عزيزي القارىء عنهما، عسانى اُلهِمك بهما، وأعد مأدبة امتنان على اسمهما، تُفسِح لهما فى تكوينك حيزا أبديا، دعنا نمارس فى السطور القادمة، طقسا من طقوس الإبصار بالقلب، فهل تفكرت يوما بأن القلب يحمل في داخله عقلا أكثر رجاحة؟!!

 “ليونيل لوغ” الطبيب الذى لم يدرس الطب أبدا

مأساة الملك جورج السادس المزمنة مع مرض اللعثمة، والتي لم يزدها أطباؤه الحاصلون على المرسوم الملكي، والمشهود لهم بالكفاءة العلمية إلا تدهورا، يأتي، أحدهم فجأة ليحل عقدتها، أو على الأقل يُرخِيها، ويجعلها قابلة للمساومة، بعدما امتلكت لدهور الكلمة العليا على صاحبها، ووضعته فى أزمة جحيمية تؤرق من مأزقه ومركزه الحَرِج.

الملك جورج السادس كما بدا في فيلم the king’s speech 2010

هذا الرجل يتغاضى في أول مقابلة له مع صاحب السمو عن منصبه، ويسلبه هيبته، يطالبه في حميمية أن يرفع الألقاب، ويبدأ فى مناداته باسم “بيرتى” وهو الاسم الحميمي الذى يستخدمه أفراد أسرته، يصر على قوانينه المعتادة التي يستخدمها مع كل مريض، يفرض سطوته على سمو الدوق، أو بالأحرى يقتحم مساحات خوفه، ويمنحه مظلة ثقة ليرتاح إليها دونما وعي.

أزمة “بيرتى” تفاقمت على يد الأطباء، فكل منهم كان يطبق عليه نصوص الطب، يَشِفها من الكتب التى تعلمها ومن ثم يرسمها فوق جبهة الدوق المسكين، فيربط على عقدة خوفه من عدم الشفاء خيوطا أسمك، ويحول بينه وبين الأمل، الكل أخفق في معالجة “بيرتى” لأنه سار على النهج المعهود في النقل، قَيمّ المُشكلة بعقول من سبقوه، وتعامل معها بأقرب مبدأ منطقي متعارف عليه، ورغم الشهادات، الكفاءات، البديهيات الطبية الشائعة، والبدائل العلمية المطروحة، ظل “بيرتى” مريضا مسكينا، لا يقوى على مساعدة نفسه، على الرغم من أنه على شفا حفرة من مقعد الملكية.

دكتور “ليونيل” نجح مع “بيرتى” لأنه يملك تكوينا خاصا، فهو رجل لم يدرس الطب أبدا، استمد خبراته في معالجة مشاكل النطق من مساعداته للجنود في الحرب، تحت وطأة ظروف معينة، وحينما بلغ من البراعة ما يؤهله لمزاولة الأمر كمهنة، لم يتخل عن حلمه القديم في التمثيل، واحتفظ بدوره في صفوف تجارب الأداء المسرحي، إلى جانب أداءاته المستمرة لأولاده في المنزل، مُجسدا لهم الشخصيات والمواقف الشيكسبيرية التي يهواها.

الطبيب "ليونيل لوغ" يسار مع "بيرتي"

لم يوفق “ليونيل” مع “بيرتى” بسبب خبراته المتراكمة، وإنما بسبب موهبته الخاصة في الاستماع لصوت نفسه، ولأصوات كل من حول، فهو اختار أن يملك البصيرة قبل الشهادة، وآثر أن يرى قبل أن ينقل، في أول مقابلة له مع “بيرتى” يسأله عن تفاصيل حياته الخاصة، وفي المقابلات التالية يهدم جدران صمته وعزلته، ويحل وثاق جسده المربوط منذ أمد، والذي لم يفطن أطباء الشهادات أنه سبب من أسباب إعاقة لسانه، فيدفع “بيرتى” لممارسة التمارين لتقوية حجابه الحاجز، شد ترهلات معدته، والعمل على ارتخاء فَكُه، وتنشيط عضلات لسانه.

“ليونيل” عالج “بيرتى” بانفعالاته التي دفعت باسمه لكي يوُثَق في خانة المُلهِمين، ولكن الموجع عزيزي القارىء، أنه لولا إرادة القدر التي وضعت “بيرتي” فى حياة “ليونيل”، لبقى الأخير في نظر المحيطين به، مجرد ممثل فاشل، لا يرقى لمكانة الطبيب، والحقيقة، أننا لم نكن لنعرف عنه من الأساس.

عندما يواجه “بيرتى” “ليونيل” بمعرفته حقيقة عدم حصوله على أي درجة علمية طبية، يبادره “ليونيل” مطمئنا متباهيا بمؤهلاته الوحيدة التي امتلكها للنجاح سابقا مع جنود الحرب، قائلا “يكفيني شرف منحهم الثقة بأصواتهم، والتأكيد لهم بأن ثمة صديق هنا يصغى إليهم”

“جون كيتينج” المُعلِم القبطان

“هيل هيلتون” مدرسة داخلية صارمة، شعارها الجد والاجتهاد، يَبرز الفوتومونتاج السريع مدى قتامة ورتابة أساليب معلميها، فمنهم من يبلغ من البؤس مداه لدرجة أنه يُملي على الطلاب ما يرددونه وراءه.

الأستاذ "كيتينج" بين الصفوف

ومن ثم يأتي بكاريزماه المغايرة، ومنهجه الحيوي، ويخبر الطلاب في أول لقاء له معهم عن الجُملة اللاتينية “كاربي ديم”، والمرادفة لمعنى “عش اليوم”، يسألهم أن ينادونه بالقبطان وفقا للقب جاء فى أبيات شعر لـ “والت ويتمان”. ويحرضهم بجنون حول ضرورة الإيمان بأنفسهم، كسب أوقاتهم، وبلوغ آخر ذرة من التصالح مع مواهبهم.  يتركهم حيارى بعد وقت ليس كثير، يتهامسون فيما بينهم عن خبل هذا المعلم، الذى لم يفتح معهم كتب الشعر، ويقرأ عليهم منها، غير متهاون مع دقيقة واحدة من دقائق الصف، بينما تظل الأبيات التى لجأ إليها ليُقربهم إلى فكرته تتردد فى أذهانهم.

“تجمعن أيتها البراعم طالما تستطعن

فالزهرة ذاتها التى تبتسم اليوم، ستموت غدا”

“كيتينج” لا يمارس الصلاة المعتادة لكل المُتفَق عليه قبلا، فبعدما يعترف أمام طلابه بضحالة المقدمة الموضوعة في كتاب الناقد الكبير “جي ايفانز ريتشارد”، يحثهم على تمزيقها، فهي بلا قيمة بالنسبة إليه، لأنها لا تمس حالمية الشِعر بصلة. 

“كيتينج” لا يعتمد على صرامته، وملامحه الجادة لكي يتسول احترام الطلاب، وإنما يقف أمامهم بنفس راضية، وروح خفيفة، يُلقد “مارلون براندو”، و “جون واين”. يصعد على عنق مكتبه، ويخبرهم أن الرؤية من فوقه تختلف تماما عن المشهد المألوف الذى يشاهده كل مرة وهو واقف أمامه. يخبرهم عن ضرورة رؤية جميع الأشياء المحيطة بمنظور مختلف، نسبى، يتغير من شخص لآخر، بما يوافق تكوينه وطبيعته. يستدعيهم للوقوف معه، ليختبروا الفكرة على محيط بسيط، مُصغر. يقول بينما يتناوبون الصعود والهبوط” أتمنى أن تبذلوا مجهودا لكى تجدوا أصواتكم الخاصة، لأنه كلما مر وقت سيقل حظكم فى فعل ذلك، حينما تقرأون كتابا، لا تهدروا طاقتكم في التفكير فيما يقوله الكاتب، وإنما انتبهوا أيضا لما يرادوكم أنتم من أفكار”

من فيلم Dead Poets Society

“كيتينج” يصطحب طلابه إلى الملاعب والساحات، يُحدثهم عن الشِعر وهم يمارسون تمرينا كرويا، أو يطلقون أقدامهم مشيا. وفى المقابل، ترصده عين المدرسة الثاقبة، تستنكر أفعاله، وتراه نموذجا أعوج للمعلم الذى لابد وأن يحمل اسم “هيل هيلتون”. وبعد تصاعد درامى ما، تنتهز إدراة المدرسة الفرصة، وتُلفق لـ “كيتينج” الجرم الذى يمنحه طردا مُخزيا. 

وبينما يعود “كيتينج” لمرة أخيرة حتى يلملم أغراضه من الصف، في الوقت الذي يتخذ مُدرس آخر مكانه، ويأمر الطلاب أن يقرأوا المقدمة العظيمة في كتاب “جي ايفنز ريتشارد”، يتخلى طالب مُخلص عن جلسته الملتزمة على المقعد، ويقف على عنق مكتبه، وينادى “كيتينج” “أيها القبطان، يا قبطاني”، متجاهلا الإنذارات القاسية التي يلقيها عليه معلم الصف، ومُحرضا في خفاء بقية الطلاب للقيام بنفس الفعلة بالتتابع، تتعالى موسيقى قريبة من المارشال العسكرى الشرفى، لتمحي صوت المعلم المنزعج، ترتكز الكاميرا على عين “كيتينج” الدامعة، التي تمتن لطلابه، ومن ثم يغلق باب الصف خلفه ويذهب، مُخلفا كلمات سبق وأن رددها عليهم..

“يجب أن تؤمنوا أن معتقداكم مميزة، حتى لو وجدها الآخرون بشعة. فروبرت فروست يقول ثمة طريقان في الغابة، وأنا اخترت الطريق الذي يشبهنى، حتى لو كان أقل رواجا”.

آخر كلمتين:

_ geoffrey rush فى دور “د.ليونيل” و robin Williams فى دور “جون كيتينج”.


إعلان