أغادير السياحية والفيلم الوثائقي

المصطفى الصوفي

تطرح جملة من الأسئلة المحرجة في بعض الأحيان، حول المكتسبات التي حققها المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي، والذي تستضيفه بمدينة اغادير، إحدى كبريات المدن السياحية المغربية الواقعة جنوب البلاد، وذلك على مستوى تكريس مزيد من الإشعاع الثقافي والفني والسياحي للمدينة التي تأثرت أسوة بباقي المدن السياحية في العالم إثر موجة الأزمة المالية والاقتصادية العالمية.

ملصق المهرجان

ترى ما الذي حققه هذا المهرجان، الذي تنظمه جمعية الثقافة والتربية بواسطة السمعي البصري وبخاصة على مستوى ترسيخ ثقافة سينمائية وثائقية دولية، تجعل من السينما تلك الممارسة الإبداعية الخلاقة في معالجة الواقع بطريقة جذابة للغاية؟، وهل استطاعت الأفلام المشاركة في الدورة الثامنة التي اقيمت من الثاني إلى السابع من مايو الجاري، إنزال تلك الفرجة المشتهاة التي يبحث عنها المتلقي، على اعتبار ان السينما الوثائقية تظل الأقرب إلى الجمهور، في بحثه عن ما يميز المجتمعات، من تغيرات، وما يقدمه المخرجون من إبداعات تختلف من حيث المبنى والمعنى، وتقدم في أبهى التجليات الفنية، صورا حية عن الواقع والإنسان، والوجدان، والضمير الجمعي والفردي، وكذا عن أحلام الشباب الذين اتخذوا من كاميراتهم نياشين لا تقدر بثمن على الأكتاف، بحثا عن الحقيقة؟

والى إي حد وفقت لجنة التنظيم في جعل الدورة الثامنة، دورة النضج، بعد دورات سابقة جرت معها ذيلا من الهموم والمشاكل والانتقادات، على وجهات عدة، وإلى اي حد نجحت لجنة التنظيم، وبخاصة أنها خلال هذه الدورة توفرت لها الظروف المادية الكافية، وبخاصة من قبل الداعمين ومن أبرزهم المركز السينمائي المغربي والمجمع الشريف للفوسفاط إضافة إلى مؤسسات عمومية وخاصة، وهي مؤسسات حسب العديد المتتبعين قادرة على جعل المهرجان يتبوأ مكانة مرموقة ضمن قائمة المهرجانات الوطنية والدولية، لكن هل فعلا تحققت الرهانات لجعل الوثائقي في مدينة اغادير، هو سينما الحرية، رغم دعم تلك الجهات، ما يجعل لجنة التنظيم أمام مسؤولية كبيرة، دون إشراك فعاليات ثقافية وجمعوية، وإعلامية رافقت تجربتها منذ دورتها الأولى؟.

أفلام ترصد حياة الناس

هكذا تطرح الكثير من الأسئلة حول ارهاصات ورهانات مثل هذه المهرجانات، على المستوى الفرجوي والتكويني والتاطيري والحقوقي والأكاديمي وتكريم الوجوه السينمائية المبدعة وطنيا وإفريقيا ودوليا، والتي أخذت على عاتقها تكريم الفيلم الوثائقي في بعده المجتمعي والتاريخي والإنساني والجمالي، وفتح آفاق جديد للشباب من اجل ترسيخ روح الابداع الوثائقي في تجاربهم الفتية وبخاصة على المستوى الاكاديمي والتربوي، فضلا عن توسيع الفرجة السينمائية وتنويعها، وجعل السينما الوثائقي رديفة للفسحة السياحية، في افق، خلق عمل تنموي جاد يتكامل فيه السينمائي بالسياحي، والثقافي بالفني الوطني والدولي، حتى تبقى السينما الوثائقية ذلك الخيط الرفيع الذي يشج وجدان الناس بأحلامهم المستقبلية.

وعودة الى فعاليات الدورة، وإذا قارناها بدورات مهرجانات مغربية أخرى، تشتغل هي الأخرى على تيمة الفيلم الوثائقي، يمكن التأكيد على أن هذه التظاهرة ما زالت في حاجة، إلى جرعات إضافية من المهنية والاحترافية والدعم، حتى تصل إلى مصاف المهرجانات الدولية الكبرى، القادرة على جلب جمهور استثنائي عريض، وطرح قضايا كونية وجمالية وإنسانية تتعايش معها كاميرا المخرجين، بحثا عن ذلك المعادل الموضوعي، الذي يؤسس لمستقبل سينمائي مغربي قوي، في علاقته بالدولي، من شأنه منح الممارسة السينمائية برمتها ذلك الأفق الإبداعي الحالم بعيدا عن منطق الدوغمائية والنرجسية والصداقات.

وتميزت فعاليات الدورة الثامنة المهرجان، التي تركزت حول موضوع”علاقات القرابة والدم والبنوة”، بمشاركة 25 بلدا عربيا وأجنبيا، بنحو 30 فيلما، ترصد في مجملها حياة المواطنين بمرارتها وحلاوتها، وتعالج في الصميم مواضيع ترتبط بالأسرة من آباء وأصدقاء وإخوان، وعلاقات القرابة، ما يجعل من تلك الأفلام في معظمها تفيض حميمية وعاطفة، بنبع فني وإبداعي صادق، يركز على قيمة المشاعر في حياة الانسان. وضمن هذه الأفلام شارك في المسابقة الرسمية عشرة أفلام جديدة، لم يسبق عرضها في المغرب، تم اختيارها وفق شروط ومعايير دقيقة من قبل لجنة مختصة، وهي”الثورة لن تكون متلفزة” لرامه طياطو من السنغال، و”سمير في الغبار”، وهو إنتاج مشترك بين قطر وفرنسا والجزائر لمخرجه محمد اوزين، ثم فيلم”أرض الورود” وهو أيضا إنتاج جماعي بين كندا وألمانيا للمخرج زاينا اكيول، و”النورس وأولمو” وهو إنتاج  خماسي بين السويد وفرنسا والبرتغال والبرازيل والدانمارك لكل من ليا غلوب، وبطرا كوسطا، فضلا عن فيلم”في رأسي دوار” للمخرج الفرنسي من أصل جزائري حسن فرحاني، و”حاضر من الماضي” للمخرجة المصرية كوثر يونس، و”أليسا في بلاد الحرب” لاليسا كوفا لنكو وليوبف دوراكوفا من بولونيا وأوكرانيا، و”مركز اتصال إسطنبول” لهند بنشقرون وسامي مرمر، وهو من إنتاج بين المغرب وكندا وتونس، ثم الفيلم المغربي “ياسمينة” لمخرجه عمر التجمعتي.

“إليسا” والحرب يتوجان بالجائزة الكبرى

وقد اختارت لجنة تحكيم المسابقة الرسمية والتي ضمت، المخرج والمنتج التونسي رضا تليلي، والمخرجة الفرنسية صوفي بريضي، والمخرج السويسري ستفيان كويل، والمخرج السينمائي دويودو حمادي من السنغال، فضلا عن المخرجة والفنانة التشكيلية المغربية تودا بوعناني، فيلم”أليسا في بلاد الحرب” لأليسا كوفا لنكو وليوبف دوراكوفا من بولونيا وأوكرانيا، فائزا بالجائزة الكبرى، التي تحمل اسم “نزهة دريسي”، تقديرا لهذا الفيلم الوثائقي المؤثر، والذي قدم صورة حية عن تحدي الإنسان في ظروف صعبة للغاية، من أجل الحياة في أجواء حربية قاتلة ومخيفة، حيث استطاع المخرجان بتقنية بارعة، تقديم لقطات فنية قوية تقود للعيش والتعايش مع الحرب، عبر مشاهد صادمة تعيد إلى الأذهان شبح الهلوسسة وأطياف الخيال العلمي الواسعة، حيث تختلط القيمة الشخصية للإنسان بالسياسية في قالب سينمائي رائع، وتلك كانت قوة وركيزة الفيلم نحو فرجة سينمائية ممتعة ليتوج بالجائزة الكبرى.

لحظة تتويج فيلم"أليسا في بلاد الحرب" لأليسا كوفا لنكو وليوبف دوراكوفا من بولونيا وأوكرانيا

وعن باقي جوائز الدورة، التي حضرها جمهور عريض، آلت جائزة حقوق الإنسان لفيلم “مركز اتصال إسطنبول” لهند بنشقرون وسامي مرمر، وهو فيلم أنتجته كل كندا والمغرب وتونس، مفعم بطموح كبير في الحياة، ويجمع بين الحس الواقعي المعاش والسياسي المليء بالمزايدات، وفن الممكن والمحال، والصراع من أجل الحياة في مجتمع لا يرحم. هذا الفيلم، كان محظوظا فنال أيضا جائزة القناة الثانية (دوزيم) الشريك الرسمي للمهرجان، وقدمها مدير المجلات الإخبارية والوثائقي بالقناة رضا بنجلون.

وعادت الجائزة الخاصة بلجنة التحكيم إلى فيلم “في رأسي دوار” للمخرج الفرنسي يمن اصل جزائري حسن فرحاني، وهو فيلم قدم بشكل مركز الطريقة التي يمكن بها النجاح بدقة في أكثر اللحظات الصعبة في الفن، إنها البساطة، التي تقود دائما الى التألق والنجاح. اما جائزة الجمهور التي حملت اسم الناقد السينمائي المغربي الراحل نور الدين كشطي، تكريما لروحه، فعادت إلى فيلم، “حاضر من الماضي” للمخرجة المصرية كوثر يونيس.

ملصق فيلم"أليسا في بلاد الحرب"

ثقافة المواطنة والصورة الوثائقية

يشار أن الدورة، التي استهلت بعرض فيلم”في الظلام” الذي يحاكي واقع شخصية محمد وأسرته العميان، أسرة تعيش حياة فقر مدقع، ورغم ذلك، يحافظ العميان على آمالهم وأحلامهم التي لا تموت، حيث الصبي محمد، يصارع من أجل الإبقاء على نور عينيه لاستكمال دراسته العليا، أسوة بقريبته نعيمة، التي لعبت دورا مميزا في هذا الفيلم الذي استأثر باهتمام المتتبعين والنقاد، شهدت سلسة فقرات خصبة من منتديات حوارية حول الأفلام المشاركة، وورشات حول الفيلم الوثائقي، ولقاءات مع ضيوف المهرجان، فضلا عن درس في السينما(ماستر كلاس) أطره المخرج السينمائي الدولي جون لويس كونيت، وغيرها.

اختتمت فعاليات المهرجان التي عرفت كذلك أنشطة موازية، من أبرزها تفاعل المهرجان مع الدورة المقبلة لمؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ(كوب 22)، والتي ستستضيف مدينة مراكش شهر نوفمبر المقبل، وذلك بعرضها أفلاما بيئة برؤية كونية وعالمية،، لتطرح أسئلة أخرى، حول أفاق تحقيق إشعاع قوي لثقافة المواطنة والصورة الوثائقية، من خلال هذا المهرجان، وآفاق توسيع الفرجة السينمائية على مستوى المؤسسات التعليمية والجامعية، وكذا منطقة سوس ماسة، ومنها شتوكة، وتارودانت، وتيزنيت، آيت ملول، إنزكان وغيرها، فضلا عن الربط بين الفرجة السينمائية والفرجة الموسيقية، ودعم الشباب في هذا المجال وتكوينيه وتاطيره، وغيرها من القضايا الإبداعية والسينمائية الأخرى، والتي تهم جنس الوثائقي، واستمرار جعل هذه التظاهرة السينمائية الدولية محطة إبداعية مهمة، وجسرا للحوار والتواصل مع إفريقيا والعالم العربي والفضاء الأورو- متوسطي، للمساهمة الحقيقية في هيكلة هذا القطاع وجعل السينما الوثائقية فنا راقيا لإذكاء الوعي الإبداعي الإنساني والثقافي، وبابا واسعا لكشف النقاب عن الحقائق المجتمعية التاريخية وصورة حية عن الواقع بكل حرية.


إعلان