“الرجل الذي يُصلح النساء”

وسيم القربي
 
ضمن “لقاءات تونس الوثائقية” اتجهّت أنظار الجمهور نحو عرض فيلم “الرجل الذي يُصلح النساء” للمخرج البلجيكي “تيري ميشال” ومن إنتاج مشترك بين بلجيكا والكونغو الديمقراطية والولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كان العنوان في ظاهره مصدرا للغرابة فإنّ صُور هذا الفيلم الوثائقي هي شذرات من مأساة إنسانية في بلد الحروب، طيلة ساعة واثنتين وخمسين دقيقة رصد لنا المخرج صورا من الانقلابات والانتهاكات التي يتعرّض لها الأطفال ومآسي التعدّي على البنات والنساء في بلد الكونغو الديمقراطية الذي منع عرض هذا الفيلم فيها هناك.
 
في بلد اعتاد الحروب، وفي منطقته الشرقية التي تعيش منذ حوالي عشرين سنة على أنغام التمزّق والخلافات، يرتسم الاغتصاب كسلاح حرب. وبالرغم من الثروات الهائلة التي تُعرف بها جمهورية الكونغو الديمقراطية مثل الماس والمعادن فإنّ الحرب التي أودت منذ 1996 بحوالي 5 مليون شخص، جعلت من هذا الفيلم الوثائقي نموذجا مصغّرا من مأساة اجتماعية. 
يروي الفيلم قصّة الدكتور “دونيس ماكويج” المتحصّل على جائزة “ساخاروف” سنة 2014، وهو طبيب نساء بمستشفى “بانزي” بمدينة “باكافو” يعمل جاهدا على إعادة البسمة لنساء من مختلف الأعمار يتعرّضن للاغتصاب من طرف الميليشيات المتنازعة، وهي طريقة لتدمير المناطق التي تمكنّوا من الوصول إليها، لتكون بمثابة وسيلة لبث الرعب وترسيخ تأثيرات نفسية لا يمكن محوها من خلال فضّ بكارة كل فتاة تعترضهم كعقاب موحش.
صور بشعة من الحرب، موتى هنا وهناك، وجوه مكفهرّة باكية، صور تتألّم… عبر لقطات مكبّرة، حاول المخرج رصد الأحاسيس، والرعب البارز من عيون مرتجفة للكونغوليات وقلوب باكية دامية. ومن جهة مقابلة، حاول المخرج تصوير مجموعة من المناظر الطبيعية الخلابة، ليبرز ذلك التناقض بين الجمال والخراب، خراب يسود، وجثث تكاد تنبعث روائحها من الشاشة الكبيرة، حيث لم يخفِ الفيلم البشاعة بل كشف صورا صادمة كان أغلبها لجثث مشوّهة تبرز الواقع المُرّ وفظاعة الحرب الأهلية وقمّة القسوة.
في مجتمع تسيطر عليه تعبيرية العنف، يتبع الشريط قصّة الدكتور “ماكويج” الذي يختار أن يسلك طريق النضال من خلال حرصه على المتابعة النفسية للبنات والنساء الكونغوليات، حيث يسعى إلى رتق عذارتهنّ ويحيي أملهنّ في الحياة عبر نسيان هول الحرب والاعتداءات الصارخة على حُرمة أجسادهنّ. وعبر هذه الصور يحيلنا المخرج إلى شهادات حيّة لا تستطيع فيها المستجوبات أن تكبحن دموعهنّ، بل تروي البعض منهنّ مخلّفات قاسية من الأضرار والتشوّهات الحاصلة من جرّاء الاغتصاب الجماعي لمرتزقة تنفّذ تعليمات الآخر.
 
ولئن تعرّض الدكتور “ماكويج” إلى محاولة اغتيال سنة 2012، فإنّ ذلك لم يثنهِ عن مواصلة رتق آلاف النساء ليتّخذ صبغة الطبيب الحقوقي، ويأخذ على عاتقه مهمّة الدفاع عن المرأة الكنغولية ومحاولة إثارة هذه القضية الحقوقية في الخارج، حيث يقول “ماكويج”: “كل ابنة اغتُصبت هي ابنتي، وكل امرأة تمّ اغتصابها أعتبرها بمقام زوجتي، وكلّ أمّ اغتُصبت، أعتبرها بمقام أمّي… كيف يمكن لنا أن نصمت؟”.
 
الكونغو بلد استقلّ سنة 1959، لكنّ عدم الاستقرار انطلقت بوادره منذ الأشهر الأولى للاستقلال حيث شجّعت بلجيكا آنذاك الفصائل، وبالرغم من أنّ مخرج فيلم “الرجل الذي يُصلح النساء” بلجيكي فإنّ مغزى هذا الوثائقي يلوح بمثابة اتهام صريح للغرب الطامع في الثروات، والذي يقف وراء تحريك الفصائل لخلق الفوضى ومواصلة رهن البلاد للخارج. وبالعودة إلى منع الفيلم من العرض في جمهورية الكنغو الديمقراطية، فإنّ وزير الاتصال كان قد صرّح بأنّ هذا الفيلم الوثائقي هو اتهام صريح للعسكر وتجنّي مباشر، خاصّة وأنّ العديد منهم توفّي في صراع الدفاع عن الوطن وبالتالي لا يمكن اتهامهم بالاغتصاب.
 
غير أنّ صور الأرشيف التي اعتمدها المخرج، ومحاولة اتبّاعه لسيرة الدكتور “ماكويج” في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ومتابعة مرافعاته الحقوقية من أجل التدخّل لإنقاذ شرف المرأة الكنغولية وتمكين الكونغوليين من الحقّ في الحياة وإعادة إنسانية الإنسان، خاصة أمام الصمت المطبق للمجتمع الدولي.
أصبح الدكتور “ماكويج” بمثابة البطل القومي، حيث تمّ استقباله استقبالا شعبيا حارا إثر عودته من المهجر حيث اضطرّ سابقا لمغادرة وطنه بعد محاولة اغتياله.
 
يمكن اعتبار هذا الفيلم بمثابة درس ذي بعد إنساني، وإعادة تذكير بأنّ هذه الصور المفرطة في الواقعية هي صور لا تزال موجودة إلى اليوم، صور، مجموعة رسائل للمسؤولين في الكونغو وفي المجتمع الدولي.
 
“الرجل الذي يصلح النساء” هو مأساة تعكسها السياسة وتظهر في قالب اجتماعي لطبيب مناضل وهو ما جعل من حنكة هذا الأخير مصدرا للسعادة والنسيان، لتدوِّي أناشيد وأغان من حناجر النساء وتتبدّد الصور التراجيدية في شكل أهازيج أمل.
 
من خلال مستشفى “بانزي” تمّ رتق عذرية حوالي 50 ألف كونغولية، وهو ما جعل قصّة الدكتور “ماكويج” بمثابة درس في حقوق الإنسان، غير أنّ ما يمكن الإشارة إليه هو أنّ قصة هذا الدكتور سبق وأن صوّرتها السنغالية “أنجيل ديابانغ” سنة 2014، لكنّ ذلك لم يمنع “تيري ميشال” من إعادة تصوير بأسلوب مغاير يؤكّد اختصاص هذا المخرج في التوجّه نحو مواضيع الشقاء في القارة السمراء بوثائقيات اجتماعية سياسية حيث يمكن أن نذكر فيلم “زائير، دورة الثعبان” سنة 1992 وفيلم “مبوتو، ملك زائير” سنة 1999 وفيلم “كاتانغا، حرب النحاس” سنة 2010 ..

إعلان