تساؤلات حول “صراع العروش”

إسلام السّقا
 
أصبح مسلسل صراع العروش Game of Thrones هو العمل التلفزيوني الأكثر جماهيرية اليوم. وإن هذا الانتشار الواسع للمسلسل قد استدعى أن ننتبه للأسباب التي جعلته ينال كل هذا الاهتمام والاحتفاء الجماهيري منقطع النظير. من أجل الوصول إلى تفسير مناسب أعتقد انه علينا أن نطرح عددا من الأسئلة لكننا لا نعد بالإجابة عنها كلها. كان سؤالًا قد طُرح عليّ فيما سبق واليوم أحاول الإجابة عليه قدر المستطاع: لماذا تبدو مشاهدة صراع العروش مهمة إلى هذه الدرجة؟ فمن وجهة نظري، يمكن الإجابة ضمن ثلاث أسباب لا نطيل فيها. أضعها هنا بالترتيب:
 
1- الشر ينتصر:
 
بتنا نعرف الآن أن صراع العروش ليس عرضًا أخلاقيّا. يتأثر المسلسل بفلسفة نيتشة الأخلاقية الذي قام بمهاجمة الأخلاق وإلغاءها بواسطة تتبُّع أصلها التاريخي والسيكولوجي. وهو الذي سُمّي بفيلسوف القوة، واشتهر بكرهه لما سمّاه (أخلاق الضعفاء). فالأخلاق يحدِّدها المنتصرون. كما يكتبون التاريخ بأيديهم. وإذا قلنا بأن الشر ينتصر، فهذا يختلف عن قولنا “الخير لا يكسب”. ففي الحالة الثانية لا دليل على انتصار الشر، أما الحالة الأولى فهي إقرار بأن الهزيمة قد وقعت وأنه من المحتمل أحيانًا أن تسير الأمور إلى أسوأ مما نتخيّل. 
 
2- واقعية نعيشها: 
 
من غير المفهوم أن يقوم أحد المتفرجين على أفلام “سوبر مان” بالصراخ معترضًا أن “كيف لرجل أن يوقف قطارًا مسرعًا بهذه السهولة؟” متناسيًا أنه يشاهد من الأساس فيلمًا عن رجل يطير. يبدو للوهلة الأولى أن العالم الذي خلقه جورج مارتن وجعله يحتوي على تنانين ولغات لا نعرفها هو عالم بمشاكل لا تحدث إلا للآخرين. إلا أن الوقت قد أظهر لنا أنها بالأصل مشاكلنا ومصائبنا وهواجسنا نحن المتفرّجون. فالمسلسل مليء بالاستعارات من حياتنا اليومية: ممالك تتصارع وساسة يتناحرون واقتصاد على المحك وقطع للرؤوس وجدران للفصل (المعنوي والجغرافي) وتهديد بانهيار العالم عبر خطر مناخي مستمر يوشك أن يحدث وأمور أخرى جعلت ارتباطنا بهذا المسلسل ليس هروبًا من الواقع، هذه المرة، بل انغماس فيه، لكن لماذا قد نلجأ إلى مشاهدة مسلسل لا يختلف أبدًا عن الواقع؟ هل نسعى من خلاله إلى تكوين فهم جديد لكل ما يدور حولنا؟ 
3- بناء الشخصيات:
 
يعتبر البناء المعقّد للشخصيّات في المسلسل واحدا من أهم عوامل نجاحه والإشادة به. نتوحد أحيانًا مع تلك الشخصيات لسبب بسيط وهو أنها تمثّل الإنسان، بشهوانيته وأخطاءه وفجوره وضعفه. فالشخصيات التي تمثل الخير دائمًا ما كانت ترتكب أخطاءً فادحة. أن تكون ساعيًا للخير فهذا لا يعني ألا تكون أحمقا في السياسة. وإن كنت الأحمق الوحيد في ملعب الصراع فلن تضرّ إلا نفسك والذين تحبهم. 
احتوى المسلسل على تنوّع كبير في شخصياته، فالأخيار والأشرار ليسوا وحدهم هناك. بإمكاننا أن نجد شخصيات سيئة إلا أنها تحمل نفحات من الخير تظهر في أوقات الشدّة. إن هذا التنوّع رافقه عاملان مهمان لا يمكن التغاضي عنهما: 1- البناء المحكم لتاريخ كل شخصية وعلاقتها مع كافة الشخصيات الأخرى. 2- بناء عالم فانتازي كامل ومذهل كي تعيش فيه تلك الشخصيات. فالنقطة الأولى هي المحرّك الأساسي لوجود كل السجالات بين عشّاق المسلسل، الذين يختار كل منهم شخصية ما لينحاز إليها واجدًا فيها ما يحب أن يراه ويسمعه. أما النقظة الثانية فإنما تقول لنا أن “جورج مارتن” ليس كاتبًا أدبيًا فحسب، بل إنه بكل بساطة عبقري. 
 
عودة جون سنو
 
حتى لحظة كتابة هذا النص، تعتبر شبكة (إتش.بي.أو) الأمريكية (الجهة المنتجة والمالكة لحقوق بث المسلسل) هي حالة الاستثناء في عالم صناعة البرامج التلفزيونية. سعيها الدائم لاستقطاب جماهير محدودة (معيّنة) أجبرها على أن تكون شبكة تحمل سياسات بث مختلفة، وهو ما فرض عليها القبول بنصوص تميل إلى كونها “صيغ” غير مجرّبة أو مُختبرة بشكل كاف. وقد أدّت تلك السياسة إلى نجاح كبير على مستوى الأرقام، وهو الأمر الذي يهمّ المنتجين في نهاية المطاف. إلا أن الحديث عن مسلسلات وبرامج تلفزيونية غير معيارية لا يعيب البرامج والمسلسلات الشعبية سواء على نفس هذه الشبكة أو في شبكات تلفزيونية أمريكية أُخرى. وبطبيعة الحال فإنها لا تعيب مشاهدة تلك المسلسلات الشعبية على الإطلاق. فذوق الأقليّة قد ينجح بعد وقت قليل نسبيّا ليكون هو ذوق العامة، والازدياد الملحوظ في عدد المشاهدين لمسلسل صراع العروش هو واحد من أمثلة عديدة باتت تستخدم اليوم في الاستدلال على حركة الجماهير وتوجهّاتهم. 
عودة "جون سنو"
واجه المسلسل في موسمه الحالي (السادس) تساؤلات كبيرة في بدايته كادت تلقي بظلالها على مستقبل هذا العمل الضخم إلى الأبد. وإن هذه التساؤلات قد تبقى في ذهن المشاهد لفترة طويلة حتى بعد انتهاء الموسم. فكما كان شعار آل ستارك “الشمال يتذكّر” فإننا كمشاهدين نتذكّر أيضًا. كان حديث الساعة يدور حول عودة “جون سنو” إلى الحياة من جديد. على الرغم من أن موت شخصية محورية ومحبوبة مثل “جون سنو” في نهاية الموسم الخامس من المسلسل كانت صادمة، إلا أنها كانت ضرورية من وجهة نظر صنّاع المسلسل. فالرقابة الليلية في كاسل بلاك قد أقسموا على عدم ترك الحراسة إلا في حالة واحدة، وهي الموت. فإن كان لجون سنو أن يحقق خطته في التحرّك جنوبًا بصحبة الهمج فإنه كان من الضروري له أن يموت (على مستوى درامي فحسب). أما فيما يتعلّق بعودته فإن إله النور كان على استعداد منذ الموسم السابق من أجل وهب الحياة لأحدهم. إذاً، ما الذي يسبب الإرباك الآن بالنسبة للجمهور طالما أن أسباب الوفاة والانبعاث تنتمي فعلًاً إلى عالم المسلسل؟ 
 
يمكن قراءة هذا الخلاف الحادّ في الآراء بين جمهور المتابعين في ضوء سببين: 1- العودة الدرامية الضعيفة لجون سنو. 2- وقوع تلك العودة كحدث توقّعه الجميع قبل سنة من مشاهدته. وإن النقطة الثانية هي ما يمثّل مشكلة كبيرة في عقل المشاهد كونه قد اعتاد على المفاجآت طيلة 5 أعوام قضاها في متابعة هذا العمل. أما النقطة الأولى فقد تركت عددا من الأسئلة حول أصالة العمل اليوم، كان أهمها: هل انحاز صنّاع المسلسل إلى ذوق الجمهور؟ وهو سؤال يبدو من المبكّر الإجابة عنه رغم المؤشرات التي قد تحيلنا إلى أن نقول (نعم)، قد تحوّل المسلسل إلى ما تُسمِّيه مدرسة فرانكفورت النقديّة بـ”الثقافة باعتبارها صناعة” وهو مصطلح يشير إلى موقفٍ كان قد اتُخذ بناءًا على الأداء الركيك الذي اتسمّت به صناعة الأفلام في هوليوود فترة الأربعينيات في طريقها لاستمالة “الثقافة الجماهيرية” وتعزيز وجودها كصناعة مادية بحتة. في حالتنا اليوم قد يتحدّ هذا الرأي مع الأخبار القديمة التي أفادت بأن القصة ستبدأ من الآن فصاعدًا بالارتجال بناءًا على ما يراه “كتّاب السيناريو” مناسبًا وليس اعتمادًا على ما يراه “جورج مارتن”. ذلك لأن المسلسل قد سبق أحداث الرواية فعليًا. فهل نلحظ ضعفًا في خطوط المسلسل الأخرى مثلًا؟
 
قد يكون الإشكال الأساسي بالنسبة لي هو “موت” جون سنو وليس “عودته”. فرغم أن عودته كانت ركيكة دراميّا إلا أنها تمتلك تفسيرًا محكمًا لا غبار عليه. أما مسألة موته فهي ما يعيق السلاسة التي كان يسير عليها هذا العمل منذ بدايته، ويجعلنا نتساءل بمزيد من الإلحاح: هل كان موت جون سنو هو الحل الدرامي الوحيد؟ فبالنسبة للكاتب، كان من الضروري أن يموت جون سنو كي يخرج من الحراسة الليلية. وكان من الضروري أن يعود كي نستكمل المسلسل من جديد! لقد اعتدنا على أن يكون الموت في هذا المسلسل هو النهاية، ولطالما كان كذلك حتى وقت قريب. فهذا ما أضفى طابعًا محببًا أثناء مشاهدته، فإن وقع الموت داخل المسلسل فلا عاصم منه وإن كنتم في بروج مشيّدة.. أليس كذلك؟

إعلان