رحلة مصر إلى أرض الميعاد السينمائية

د. أمــل الجمل 

منذ تلك السنة التي تم فيها تدشين “أرض الميعاد السينمائية” بانطلاق أولى دورات مهرجان كان السينمائي عام 1946 كانت مصر من أوائل الدول العربية التي شاركت فيه منذ بدايته وحتى الآن بثلاثة عشر فيلما داخل المسابقة الدولية، إذ سجلت أولى مشاركاتها بفيلم دنيا” للمخرج محمد كريم، ولم تكتف يومها بالتواجد في المسابقة الرسمية وفقط، لكن أيضاً في لجنة تحكيم المسابقة الرسمية إذ كان الممثل المصري “يوسف بك وهبي” أحد أعضاء تلك اللجنة عام 1946، ولم تكن هذه المرة الوحيدة إذ شارك المخرج يوسف شاهين في لجنة التحكيم المسابقة الدولية عام 1983، وتم اختيار يسري نصرالله عام 2005 ليكون عضو لجنة تحكيم الأفلام القصيرة وأفلام السينفونداسيون، ثم في عام 2008 اختير الناقد المصري ياسر محب ليكون عضو لجنة تحكيم قسم “نظرة ما”.

فاتن حمامة وشاهين في كان دورة 1952

اللافت أنه منذ العام الأول وفي كثير من دورات المهرجان وحتى عام 1970 كانت مصر تشارك في المسابقة الرسمية بفيلم أو اثنين، وأحيانا كانت تشارك أيضاً في مسابقة الفيلم القصير، فمثلاً عام 1949 عرض لها في المسابقة الرسمية فيلم “مغامرات عنتر وعبلة” إخراج صلاح أبو سيف، وفي عام 1952 شارك يوسف شاهين داخل المسابقة الرسمية بفيلمه “ابن النيل” بطولة فاتن حمامة. كذلك شاركت مصر في تلك الدورة من المهرجان بفيلم “ليلة غرام” للمخرج أحمد بدرخان داخل المسابقة الرسمية، أما في مسابقة الفيلم القصير فشاركت بفيلمين هما: “مدنية 6000 سنة حضارة” للمخرج أحمد خورشيد، و”القاهرة” للمخرج ماسيمو دولامانو Massimo dallamano. ثم مجددا في عام 1954 عرض في المسابقة الرسمية فيلمان مصريان هما؛ “صراع في الوادي” إخراج يوسف شاهين، بطولة: فاتن حمامة، وعمر الشريف. وفيلم “الوحش” لصلاح أبو سيف، بطولة: أنور وجدي، وسامية جمال. وفي عام 1955 شاركت مصر بفيلم “حياة أو موت” لكمال الشيخ وقد أشادت به الصحف والمجلات ومنها “كراسات السينما” بباريس فقد نزل الفيلم المصري لأول مرة في شوارع القاهرة، مؤكدين على أن الفيلم واقعي بعيد عن أي مبالغة، وبأنه جميل ذو طابع واقعي جديد مشوق لدرجة كبيرة وبه بعض الحوادث الجديدة غير المنقولة عن أفلام أخرى.

قطيعة بسبب العدوان

بعد ذلك وعلى مدار سبع سنوات – في الفترة من عام 1957 وحتى 1963 – انقطعت العلاقة بين مصر وبين مهرجان “كان” بسبب العدوان الثلاثي على أرض الكنانة، واستمرت هذه القطيعة حتى عام 1964 إذا عادت مصر للمشاركة بفيلم “الليلة الأخيرة” لكمال الشيخ، وفي عام 1965 شاركت أيضاً داخل المسابقة الرسمية للمهرجان الكاني بفيلم “الحرام” إخراج هنري بركات وبطولة فاتن حمامة، لتغيب خمس سنوات قبل أن تعود بفيلم “الأرض”. 

يوسف شاهين

   بعد عام 1970 وحتى عام 1984 اختفت مشاركة مصر من المسابقة الرسمية واقتصرت على مشاركة يتيمة داخل برنامج “نصف شهر المخرجين” عام 1973 بفيلم “العصفور”، لكن بعد غياب كامل استمر اثنى عشر عاما أعاد يوسف شاهين اسم مصر إلى المسابقة الرسمية عندما شارك بفيلمه “وداعا بونابرت” عام 1985 والذي شكل باكورة الإنتاج المصري الفرنسي المشترك في مجال الفن السبع، ثم بعد اثنى عشر عاماً آخرين عاد شاهين للمسابقة الدولية بفيلم “المصير” عام 1997، كذلك في عام 2012 أي بعد خمسة عشر عاما أخرى شارك يسري نصرالله داخل المسابقة الرسمية بفيلم “بعد الموقعة”. ورغم كل تلك المشاركات داخل المسابقة الرسمية لم يصادف الحظ أيا من الأفلام المصرية لينال السعفة الذهبية أو أيا من جوائز كان السينمائي باستثناء السعفة الذهبية التي نالها يوسف شاهين عن مجمل أعماله، فهل لم تنتج السينما المصرية عملا سينمائيا يستحق الجائزة أم أن هناك أسبابا أخرى؟ 

البيروقراطية والسياسة 

بداية، هناك أسباب عديدة وراء غياب السينما المصرية عن المهرجانات، سواء بشكل كامل أو حتى الغياب عن المسابقة الرسميةـ، بعضها أسباب يتحملها النظام البيروقراطي الذي كان يتحمل مسئولية التعامل والتواصل مع إدارة المهرجان، وذلك قبل أن تتطور تكنولوجيا التواصل الحالية التي تتيح لصناع الفيلم – بعيدا عن جهاز الدولة وكذلك الرقابة – إرسال نسخ من أعمالهم والالتزام بالمواعيد المحددة، فعلى مدار سنوات طويلة كان لابد للحكومة أن تمنح الموافقة الرسمية على اشتراك الأفلام المصرية في المهرجانات بينما يقوم المنتجون بدفع الأموال اللازمة للسفر وشحن هذه الأعمال. وفي أحيان كثير كانت اللجان التي تتشكل لمنح هذه الموافقة تتأخر ويأتي قرارها بعد فوات الأوان. وفي مرات أخرى كانت هذه اللجان ترفض منح بعض الأفلام هذه الموافقة فمثلاً فيلم “شباب امرأة” لولا تدخل جمال عبد الناصر لما سُمح له بالمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان عام 1956 فعندما فكر صناع الفيلم في إرساله إلى مهرجان “كان” اعترضت الرقابة بحجة أنه يسيء إلى سمعة مصر لما يتضمنه من مشاهد تكشف عن الفقر مثل السرجة، ثم عندما وصل الأمر إلى عبد الناصر أمر بتشكيل لجنة هي التي أفرجت عن الفيلم.. وكان من ضمن أعضاء اللجنة الدكتور حسين فوزي الذي لم يعجبه النهاية بموت تحية كاريوكا وكأنه عقاب لها على علاقتها بالشاب فهي لا تستحق في رأيه هذه النهاية المأساوية، بينما كان لها الفضل في تعليمه جانبا مما يجهله عن الحياة.

تحية كاريوكا في فيلم "شباب امرأة"

أين الأفلام من مصريتها؟ 

كانت إحدىمشاكل الأفلام المصرية مع كثير من المهرجانات أنها لا تحمل الطابع المصري، فمثلاً فيلم “شباب امرأة” رغم أهميته الفيلم ورغم كل الاحتفاء به محلياً لكنه عندما عُرض في “كان” خرج من دون جوائز بسبب أن فكرته الأساسية مأخوذة عن قصة فرنسية مشهورة بعنوان “سافو”، وذلك رغم أن الفكرة تم تلوينها وتمصيرها بنجاح كبير لكنها لم تنل النجاح في المهرجانات الدولية بسبب الاقتباس. وهو ما يُعيد إلى الأذهان ما سبق وقاله صلاح أبو سيف في أحد حواراته عن فيلمه “المنتقم” عام 1947، فمنتجو الفيلم كانوا مجموعة من موظفي شركة شل، ولما انتهى العمل فيه أخذوه وسافروا أمريكا ولما عرضوه سُئلوا عن جنسية الفيلم، فقالوا: “مصري”، فكان رد الأجانب: “وماذا به يدل على مصريته؟”  

لكن، في المقابل كان هناك أفلام أخرى أكثر مصرية، مثل “الحرام”، ومثل “الأرض” لكنهما لم ينالا أي جائزة، وذلك رغم أن “الأرض” كان مرشحا بقوة لإحدى جوائز كان لكن الفيلم أمريكي “ماش” اغتنمها، لأنه كان عن حرب فيتنام، ومن يشاهد العملين الآن يُدرك تماما كيف كانت السياسة تلعب دورها في توزيع الجائز أحياناً، فشريط “ماش” عمل متوسط القيمة الفنية والفكرية، وليس هناك أدنى شك أن فيلم “الأرض” أهم وأقوى منه بمراحل وكان يستحق السعفة عن جدارة. 

مصر تعود باشتباك

   أما في هذه الدورة فتعود مصر للمشاركة في قسم “نظرة ما” بفيلم “اشتباك” للمخرج والسيناريست محمد دياب الذي أخرج من قبل فيلم “678”، وهذه ليست المرة الأولى التي تشارك أفلام مصرية في هذا القسم، فقد سبق ليوسف شاهين أن شارك بفيلمين في هذا القسم، الأول هو شريط “الآخر” عام 1999، والثاني هو “اسكندرية نيويورك” عام 2004. والحقيقة أن يوسف شاهين أكثر مخرج مصري نجح في كسر عزلة السينما المصرية عن المهرجانات السينمائية الكبرى ولم يستسلم لبيروقراطية جهاز الدولة، فقد شارك في مهرجان كان وحده خمس مرات داخل المسابقة الدولية، بينما شارك صلاح أبو سيف مرتين، وكمال الشيخ مرتين، بينما شارك كل من محمد كريم وهنري بركات وأحمد بدرخان ويسري نصرالله مرة واحدة داخل المسابقة الدولية. هذا بالإضافة إلى المشاركة خارج المسابقة أو في قسم العروض الخاصة، أو في قسم السوق. 

كذلك من أهم الأقسام التي شارك يوسف شاهين بها عدة مرات برنامج “نصف شهر المخرجين” منذ عرض به فيلمه المهم “العصفور” عام 1973 والذي استقبله النقاد المصريون والعرب والأجانب بالمديح والتقدير، فكتب “مارسيل مارتان”في “إيكران” الفرنسية أغسطس 1973: “العصفور” من أحسن الأفلام التي شاهدتها في حياتي سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الفنية.”(1) و”لا أرى ما يدعو للتردد في القول أننا أمام تحفة جريئة ورائعة.”(2)”إنه درس صريح يأتي من العالم الثالث لكل السينمائيين في العالم.”(3) “وفيه يُؤكد “يوسف شاهين” أنه مخرج يحب أن يجرب، أن يبدو دائماً وكأنه يبدأ من جديد، وفي الوقت نفسه أكد فيلم “العصفور” أن مخرجه تلميذ نجيب في مدرسة الوعي، يزداد وعيه فيلماً بعد فيلم، وتقل رغبته في تقديم التنازلات.”

من فيلم "العصفور"

عندما عُرض فيلم “اسكندرية كمان وكمان” عام 1990 في قسم “نصف شهر المخرجين” بمهرجان كان السينمائي فاز الفيلم بجائزة النقاد العرب المشاركين في مهرجان “كان” في “نصف شهر المخرجين” وأشادت الصحف الفرنسية به، وقالت إحداهن إن الفيلم يفوق في القيمة كثيراً من الأفلام التي عُرضت داخل المسابقة الرسمية.. وهو ما يكشف عن الألعاب الخفية التي تحكم اختيار أفلام المسابقات الرسمية.. ومنها المجاملات والضغوط والموازنات السياسية.

“وكانت مجلة تايم الأمريكية قد اختارت بعض الأفلام الأجنبية التي تمثل تطور السينما في العالم لتُقدمها تحت باب عروض دولية كان على رأس هذه الأفلام “اسكندرية كمان وكمان”. وكتبت المجلة في عددها 3 سبتمبر 1990 : شاهين واحد من رواد السينما الحديثة في مصر قضى العقد الماضي في تكملة سيرته الذاتية والتي بدأت في موطنه الأصلي المدينة القديمة الأسكندرية بعد “اسكندرية .. ليه ؟”، و”حدوتة مصرية”. ثم يأتي فيلمه الثالث الذي قوبل بحفاوة بالغة والذي يمزج فيه عناصر الكوميديا الموسيقية بالتسجيلية الاجتماعية والفانتازيا التاريخية والفارس عندما يصور المخرج الكبير بحثه وتنقيبه عن الحقيقة ومعرفة الذات من خلال زيف صناعة الأفلام السينمائية.. إن هذا الفيلم مساو لرائعة فلييني 1/2 8.

كذلك في عام 1991 تم اختيار فيلم “القاهرة منورة بأهلها” للمخرج يوسف شاهين ليكون فيلم افتتاح قسم “نصف شهر المخرجين” في مهرجان “كان” السينمائي، في أول عرض له، وبدون أن ترى الرقابة في مصر نسخته النهائية إذ استكمل مونتاجه بفرنسا، ويُذكر أنه عقب عرض الفيلم بالمهرجان ثارت ضجة عنيفة، وبينما استقبلته الصحف الأجنبية بالمديح انقسم من حوله النقاد وأهل الصحافة والفن في مصر حتى أن البعض طالب بسحب جنسية المخرج لأنه في رأيهم أساء إلى سمعة مصر.

الطيب ونصرالله 

كان عاطف الطيب أحد المخرجين المصريين القلائل الذي عرضت أفلامهم ضمن برنامج “نصف شهر المخرجين” في مهرجان “كان” السينمائي عندما شارك عام 1985 بفيلمه “الحب فوق هضبة الهرم” وقد استقبل الفيلم استقبالا جيداً، وأشاد به النقاد لخصوصية موضوعه وقدرته على التعبير عن البيئة المصرية، مع تسجيل بعض الملاحظات من بينها طول الحوار في بعض المشاهد، أو لقطات أخرى كان يمكن الاستغناء عنها، لكن من الواضح أن نسخة العرض كانت سيئة على مستوى الصوت والصورة وحتى الترجمة الفرنسية وذلك بسبب المعامل المصرية، وهو أمر كانت الأفلام المصرية تعاني منه وهو ما كان يتسبب أحياناً في رفض الأفلام من قبل المهرجانات، لكن يوسف شاهين أفلت من هذه الخيًّة بسبب الإنتاج المشترك الذي أتاح له مبكرا أن ينهي أعمال الصوت والمونتاج ويقوم بالتحميض والطباعة في المعامل الفرنسية إذ إن أحد شروط الإنتاج المشترك أن يتم إنفاق جزء محدد من التمويل الفرنسي داخل الأراضي الفرنسية.  

عندما تم اختيار “القاهرة منورة بأهلها” ليكون فيلم افتتاح تظاهرة “نصف شهر المخرجين” لم تكن المرة الأولى إذ إن فيلم “سرقات صيفية” – أول أعمال المخرج يسري نصرالله – سبقه وافتتح به قسم “نصف شهر المخرجين” بمهرجان “كان السينمائي” عام 1988، وفاز الفيلم بجائزة النقاد العرب الذين تواجدوا في مهرجان “كان” كأحسن فيلم عربي. وهى أول مرة يُختار فيها فيلم مصري لافتتاح هذا البرنامج. أما في عام 2004 فشارك يسري نصرالله بفيلمه “باب الشمس” الذي عرض خارج المسابقة الرسمية.

من فيلم "سرقات صيفية"

في عام 2006 عرض الفيلم التسجيلي “البنات دول” للمخرجة تهاني راشد في الدورة رقم 59 لمهرجان “كان” خارج المسابقة الرسمية. وفي أعقاب ثورة 25 يناير 2011 أصبحت مصر محط أنظار واهتمام العالم، ولذلك لم يكن من المدهش أن يلتفت مهرجان “كان” السينمائي إلى مصر ويقرر أن تكون السينما المصرية هي ضيف شرف المهرجان في دورته رقم 64 كتحية للثورة المصرية التي كان لها صداها في العالم، وتم عرض فيلم “البوسطجي” إخراج حسين كمال، وإنتاج 1968 في قسم “كان كلاسيك”، وضمن العروض الخاصة أيضاً عرضت مجموعة أفلام المعنونة بــ “18 يوماً”. 


إعلان