قسنطينة.. “لالة زبيدة” تعود من جديد
ضاوية خليفة – الجزائر
تستقر في قسنطينة مدينة ”الجسور المعلقة” الكثير من القصص والحكايات، ومنها تنسج تفاصيل الأفلام وتكتب الروايات، فيتسع المجال ومعه الخيال للمخرج والأديب والفنان حتى يختار من يوميات سكانها ومواطنيها ما يشاء.

هنا اختار المخرج “يحي مزاحم” قصة “لالة زبيدة” التي عاش آلامها وكبرياءها كامرأة وحاول من خلال تصوير مطول للقطات، واقتراب بل تركيز أكثر على ملامح وتعابير الشخصيات، أن يزج بالمشاهد في تفاصيل الوقائع ويقحمه في ذلك الصراع النفسي الذي تعيشه بطلته الرئيسة الممثلة التونسية “سوسن معالج” التي بدت جزائرية اللسان وقسنطينية اللهجة وكانت طرفا هاما في المعادلة والفيلم ككل، بلغة وتعبير جسدي راق وأداء مقنع وانسجام تام مع تفاصيل القصة والقضية، مع أن المشاهد المغاربي بشكل خاص تعود عليها في الكوميديا أكثر.
في قالب اجتماعي درامي قدم المخرج “يحي مزاحم” والسيناريست “حفيزة مرمش” قصة حقيقة وقعت في فترة ما بعد الاستقلال (1962) بمدينة قسنطينة الواقعة في الشرق الجزائري، لسيدة تدعى “لالة زبيدة” تتجه في إحدى الليالي لارتكاب جريمتها لتنقض زواجها واستقرار بيتها، ولكنها تسيء التقدير، فتصيب شقيقة ضرتها وتصبح القاتل المجهول، ومن هنا يبدأ الصراع النفسي والندم إلى أن تقدم على الانتحار بعدما تلاشت قوتها من فعلتها وانتهت سلطتها على أهلها وجيرانها المستأجرين في بيتها، وبدأت تلمس الشك في ملامح الجميع وازداد حينها تأنيب الضمير، وقتها لم يكن لديها خيار غير وضع حد لحياتها ونهاية لقصتها.

وهنا اتجه المخرج ومدير التصوير “فريديريك دوريان” بالكاميرا إلى جسور المدينة لتصوير مشهد الانتحار الذي كان خارجيا عكس أغلب لقطات الفيلم التي تمت وفق تصوير داخلي، وبالمقابل يتوقف العمل عند تركيبة وطبيعة المجتمع الجزائري الذي يعطي للذكر حظوظا وأعذارا وحقوقا أكثر من الأنثى، ويرى في الزوجة الثانية إلى الرابعة خلاصه للظفر بأبناء وأحفاد، وهذا ما تجلى في قصة ابن “لالة زبيدة” التي ترفض أن تكون لزوجها امرأة ثانية بينما ترغم ابنها على ذلك، فسمة العمل تكمن في جمعه بين بساطة القصة، وتناقض أبناء الأسرة والمجتمع الواحد وقوة الألم الموجود في بيئة محافظة لواحدة من أعرق مدن الجزائر.
دافع “مزاحم” عن اختياره لهذه القصة وتقديمها بإيقاع بطيء يتلاءم والتطور السيكولوجي للشخصية وما تحدثه من تطورات في تفاصيل عرضه السينمائي، بالاعتماد على إضاءة وديكور وتفاعل مناسب بين الكاميرا والممثل مما ساعد على خلق حرب نفسية داخل الشخصيات ونقلها للمتلقي في نفس الوقت، ومن الرهانات التي عرف بها وكسبها المخرج “يحي مزاحم” هو الوجوه الجديدة التي يقترحها في كل مرة للمشاهد، فان لم يقدم مشروع ممثل (ة) فانه يظهر لك فنان بوجه آخر وأداء متميز غير المتعود عليه، وهنا يكمن ذكاء المخرج الذي وُفق أيضا حينما صنع الاستثناء وتفادى عرض الزخم الثقافي خاصة موسيقى المالوف التي تعرف بها المنطقة في فيلمه، مثلما يفعل كثيرون لتغطية ضعف الحوار والسيناريو والإخراج، وهو اختيار موفق منه ومدير التصوير الذي أظهر جمال المدينة وجسورها وأزياءها التقليدية وكذا تصاميم البيوت الشعبية بشكل ذكي ولافت يسر المشاهد ولا يفقده تركيزه وتتبعه لخيوط الجريمة وآلام المرأة المتجلية في “لالة زبيدة” وأخريات، فالقصص اختلفت ولكن الألم كان مجتمع في نساء ذلك البيت العتيق.

يستعين الكثير من المخرجين الجزائريين اليوم بممثلين من جنسيات متعددة، فعلى خطى بلقاسم حجاج في فيلم “لالة فاطمة نسومر” سار المخرج “يحي مزاحم” الذي منح دور البطولة إلى التونسيتين “سوسن معالج” و “لبنى سديري”، في حين اكتفت الفنانات الجزائريات على غرار “رانية سيروتي” و”نجية لعراف” وأخريات -بأدوار ثانوية-، وقد يكون هذا اختيار من المخرج وقناعة منه بقوة وأداء الممثلات التونسيات أمام الكاميرا، أو للثغرة الموجودة في الوسط الفني الجزائري اليوم، فالكثير من المخرجين يشتكون صعوبة الوصول إلى الشخصية والممثلة المناسبة والمقنعة للأدوار المقترحة في مشاريعهم السينمائية.

وفي سياق آخر يلاحظ المتابع للمشهد السينمائي الجزائري أن المرأة كموضوع لم تعط حقها، فنادرا ما يلتفت إليها المخرجون، وقليلا ما يتذكر كتاب السيناريو قصصها ويطرحون معاناتها ويستعرضون تضحياتها التي لا حدود لها لأجل الأسرة والوطن، فكل عمل يقدم اليوم ليخلد قصة أو حكاية لسيدة من سيدات الجزائر يحسب لصاحبه، ويجب الإشادة به مهما كانت قيمته وجودته، فالتقصير لا يزال قائما في حق شهيدات الوطن مثلا، باستثناء بعض المخرجين الذين التفوا حول المرأة وأنجزوا أفلاما عنها ك “عز الدين مدور” في “جبل باية”، “بلقاسم حجاج ب “فاطمة نسومر”، والمخرجة “نسيمة قسوم” في وثائقي “10949 امرأة”، و “ما وراء المرأة” ل”نادية شرابي”، واليوم “يحي مزاحم” الذي أثرى المشهد السينمائي بعمل وموضوع جديد عنها بعيدا عن مواضيع الثورة التحريرية والعشرية السوداء، فالاقتراب من المرأة يجعلك تفتح دفاتر الماضي لتفهم الكثير عن المجتمعات، وتزيل عن قصصها كل أشكال النسيان.