جوهر.. مسرحية تطهرية للسجناء

بيروت- الجزيرة الوثائقية

في دأبها “التطهيري بالمسرح”، وبما عبرت عنه من طاقة إبداع، جمعت البحث العلمي مع الذوق الفني، باتت المخرجة والفنانة “زينة دكاش” ظاهرة تستحق التوقف، والبحث، والنقاش في عملها عبر جمعيتها “كاثارسيس”، وقد بدأته منذ عشر سنوات، وطورته، ونوعت فيه بين المسرح والموسيقى والرقص التعبيري، مع إيصال رسائل باتجاهات مختلفة تعالج قيم العدالة، ونظرة السلطات لها، وسبل معالجتها.

مشاهد من عروض السجناء

ليس من الممكن التحدث عن عمل “دكاش” كظاهرة فنية بحتة بمعزل عن الإطار الذي تنشط فيه، وهو الإطار الاجتماعي التطهري للسجناء، والإطار المكاني- السجن بما يعنيه من سلطة، وبيئة، ومتهمين بكافة التهم، ومأخوذين، بحكم أو من دون حكم، بمعايير عدالة لا تُعرف صحتها، ومدى استمرار صلاحيتها، ومواكبتها لتطورات العصر العلمية والقيمية.

خاضت “دكاش” التجربة، ووصلت إلى الكثير من الأهداف المكتنزة في رسالتها، كثير من السجناء تغيرت أحوالهم بالمسرح، وبالعلاج الفارض نفسه على أكثر مقاومة عقلية رافضة له، لا يمكن للمعالجة إلا أن تكون شديدة التأثير على المستوى الفردي، وهذا ما لوحظ لدى العديد من السجناء خصوصا منهم الذين ما زالوا خلف القضبان، يكفي للسجين الاعتراف، وترداد القول أنه كان مذنبا، عن قصد أم غير قصد، ويكررها آلاف المرات لكي يبطل أن يكون مذنبا، لا بل أن يصبح أكثر براءة وتطهرا من أي شخص آخر خارج السجن، فكيف إذا تذوق السجين طعم الاهتمام بإنسانيته، وبالطاقة العقلية التي تكتنز الكثير من القدرات الخلاقة متى أريد لها أن تخرج للنور، وبات بإمكانه أن يعبّر بها بالأداء الفني الراقي!

خاطبت إحدى المخرجات المسرحيات السجناء عقب تأديتهم لمسرحية “جوهر”: “من يخرج منكم من السجن، انا بانتظاره ليعمل معي”. كانت نبرتها حماسية، قاطعة، تشي بإعجاب بأداء السجناء الفني، والتمثيلي، والتعبيري الراقص.

"دكاش" تقدم المسرحية

لكن السؤال المطروح: لماذا التطهر؟ وماذا بعده؟ قد تتلقف دكاش السؤال بدهشة، أو ربما بواقعية، فهي بما تمتلكه من ثقافة وذكاء وخبرة وسِعة اطلاع، لا بد ان تكون ملمة بمجمل ما يحيط بالعمل، مما يمكن تصنيفه نافعا أو غير نافع، ومن يستفيد منه، وما مدى الاستفادة.

تقول دكاش لـ”الجزيرة الوثائقية” إنه “بعد عشر سنوات من بدء العمل 2006، جرى عرض مسرحية “12 لبناني غاضب” عام 2009، والذين خرجوا من السجن استفادوا على جميع الأصعدة بعلاقتهم مع أهلهم، وبما امتلكوه من نظرة أمل للمستقبل، ونحن لا نزال على تواصل معهم، يزوروننا، مع أولادهم وعائلاتهم”.

المشكلة الأساسية التي تواجه المسرحية هي التشابه بين حالتين سجينتين، الأحكام المؤبدة، والأحكام المتعلقة بما يعرفهم القانون بـ”المرضى النفسيين”، وكارثيته أنه ينظر إلى السجين، ذي حالة نفسية مرضية، بأنه أولا، غير قابل للشفاء، وهذه نظرة متوارثة من علوم ما قبل القرن التاسع عشر، فالعديد من الأمراض والحالات النفسية قابلة للشفاء، أو على الأقل المعالجة، وتأمين توازن للمريض بالعلاج والمتابعة، وثانيا، إن القانون يردف فهمه الخاطىء للحالات النفسية باشتراط الشفاء من حالة السجين قبل السماح له بالخروج من السجن حتى لو أنهى مدة حكمه القانونية، وبذلك، يصبح هذا السجين رديفا للمحكوم بالمؤبد.

يوسف المحكوم بالمؤبد

من أهداف المسرحية الحالية “جوهر” إيصال صوت السجناء المصنفين بالمرضى النفسيين، والسعي لتعديل القانون بما يراعي حقهم بالحرية إثر انتهاء الحكم، بالترافق مع تقديم مشروع قانون للبرلمان اللبناني بالتعديل المرجو.

دكاش تتحدث عن هذه النقطة بقولها: “المؤبدات، مثل حالة السجين يوسف، أوصلوا أصواتهم، ومن بقي يستفيد من المسرحية، وتتغير أوضاعه، ويساعد الداخلين الجدد إلى السجن”.

ويوسف محكوم بالمؤبد، رائد في أدائه المسرحي في “12 لبناني غاضب”، وفي الفيلم عن تلك المسرحية، ورائد في أدائه بتقديم مسرحية “جوهر” على ما بدا استهلالا لها. 

تثير قضية يوسف إشكالية كبيرة كنموذج لمحكوم بالمؤبد، أي أنه لن يخرج من السجن، رغم تجربته التطهرية التي حولته إلى إنسان عادي، لكن تجربته التطهرية المفترضة لم تشفع له بتخفيف الحكم عنه، رغم أنه يفترض أن يكون قد تحول إلى إنسان آخر مثله مثل الموجودين خارج السجن.  

مشهد من عروض السجناء

يناضل يوسف في إطار المسرحية لتعديل القوانين ذات الطابع المؤبد، تفيد دكاش أن “يوسف يحمل قضية تعديل القانون الذي يتعلق به من خلال المسرحية، ويقوم بإعداد اقتراحات القانون التي ينصها، هو يوصل الصوت، ويقترح التعديلات المتعلقة بكل المؤبدات”. 

تصف دكاش أن الطابع القانوني يطغى في هذه المسرحية أكثر من الأشياء الأخرى، وهي دعم لمشروع القانون المقدم للبرلمان اللبناني من قبل القاضي حمزة شرف الدين المعين من قبل وزارة العدل للقيام بهذا المشروع معنا”.

“جوهر” جزء من مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي، وهو مشروع كبير يضم المسرحية، ومشروع تعديل القانون، والدراسة النفسية، ودراسة قانونية ستبصر النور قريبا جدا، تظهر الفروقات بين القانون اللبناني وباقي دول العالم”، بحسب دكاش.

“جوهر” المسرحية

تشكل مسرحية “جوهر” إطارا فنيا استعراضيا احترافيا، أنجز على مدى سنة ونصف من التدريب، بمشاركة أربعين سجينا، عرضوا معاناة السجناء في جناح تبرع بتشييده أهل أحد السجناء، في بلد لا تراعي سلطاته كثيرا شؤون مواطنيه، يعرف الجناح بـ”المبنى الأزرق”، وهو مبنى احترازي يعتمد في دول العالم خارج السجن حيث يوضع ذوو الحالات العصبية قيد المتابعة والمراقبة والعلاج.

ولم تكلف السلطات المختصة نفسها عناء بناء جناح خاص بالسجناء، كما لم تكلف نفسها بتقديم صالة واسعة لعرض المسرحية، وكما يظهر أن الردهة التي منحت لجمعية “كاثارسيس” برئاسة دكاش، هي ضيقة، لا تفي بغرض عرض مسرحي، ولا باستيعاب جمهور اكتظ على بعضه أثناء العروض الخمسة، مع العلم أن الردهة الضيقة جرى تعديلها، وتزويدها بغرف كواليس، وتحضيرات أخرى، وكأن إدارة السجن وجدت في العمل المسرحي الذي تقوم به الجمعية مجالا لتحسين أوضاع السجن على نفقة الجمعية، واستنادا على جهودها في تأمين التمويل اللازم. 

مشهد من المسرحية

درج، وبعض فسحات متدرجة اكتظ الجمهور عليها، والفسحة الضيقة للعرض (الخشبة افتراضا) كأن إعدادها يستلهم المسارح الرومانية القديمة، لكن بشكل مصغر، كاريكاتوري. ورغم كل ذلك، قدمت المسرحية بإخراج راق، وأداء رفيع، اختلطت فيه ثقافات فنية، غناء ورقصا وتعبيرا، تراوحت بين الغربي والشرقي -المحلي، مع طغيان طابع “برودواي” الاستعراضي المعتمد على حركات الجسد، والأصوات المعبرة، أداها السجناء باحترافية عالية.

إشكالية فنية واحدة اعترت المسرحية تكمن في المونولوغات الطويلة التي شهدتها بعض الأدوار، لكن تبريرها ربما يكمن في رسالة المسرحية المزدوجة: التطهر، وتعديل القانون. 

تختم دكاش ملخصة الفكرة من وراء مسرحيتها: “جوهر في مهب الريح” هي مسرحية فيها تطهر للشباب المشارك، وهي عمل يساعد في بلورة القانون المطلوب، وهي تطهير للجمهور الذي وعى، بعد حضور المسرحية، بأشياء لم يكن على بينة منها”.


إعلان