فن معاصر يحول الحجارة لألماس
أسماء الغول
إن تحويل الشكوى اليومية إلى عمل فني لأمر مهم، إنها اللحظة التي يلتقط فيها الفنان ما يعتاد عليه من معاناة يومية ليحاكيها إبداعياً وبفرادة غير نمطية، هذا السهل الممتنع فعله الفنان محمد أبو سل حين حول شكوى الناس من ارتفاع أسعار البناء إلى عمل فني مختلف في معرضه “راحة الآلام”.
وهذه الشكوى ليست ناتجة عن تفاصيل حياة عادية، بل تعود إلى أصحاب ما يزيد عن عشرين ألف منزل دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية خلال صيف 2014 في قطاع غزة، ولم تُبن حتى الآن بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء، خاصة عقب تدمير السلطات المصرية للأنفاق على الحدود بين مصر وجنوب القطاع حيث كان يتم تهريب الأسمنت بأسعار أٌقل بقليل وكميات مضاعفة عما تسمح به إسرائيل الآن عبر معابرها التجارية.
رَكَّب أبو سل عملاً فنياً “انستوليشن” من فحوى هذه المعاناة حين رصع حجر باطون بالألماس، ووضعه في صندوق من الزجاج يشبه الصناديق التي يتم فيها وضع التيجان الغالية، كما علق أدوات البناء التي طلاها بالذهب، في إشارة إلى مواد البناء التي لا يستخدمها أحد، بالضبط كالمصوغات الذهبية المحفوظة بالخزائن.
وكتب الفنان بجانب الحجر المرصع “حجر بناء مقياس 20 سم مكسو بالكريستال الشبيه بالألماس، يتم بيعه بمبلغ أعلى من ثمنه الطبيعي بسبب عدم توفر الإسمنت لتصنيع حجارة جديدة”.
وكتب بجانب المطرقة الذهبية وأدوات البناء المصنوعة من الذهب
“أدوات بناء، مطرقة ومسطرين ومسامير ومجحاف مكسوة برقائق الذهب عيار 12، يحافظ عليها عمال البناء، ويتفقدونها يومياً على أمل سماع خبر دخول الإسمنت والبدء بإعمار المنازل المدمرّة”.
ولم يتجه المشروع الفني إلى هذه الثيمة وحدها، بل هناك ثيمة حنين العائلات لمنازلهم المقصوفة، فقد استخدم حجارة هذه المنازل المقصوفة، وحولها إلى آرائك وكراسي، كما العمل الفني “أريكة رمضان”، وهو عبارة عن كرسي جلوس عام لـ أربعة اشخاص من حزام خرساني يعود إلى ركام منزل (عائلة رمضان) الذي تعرض إلى قصف في حرب صيف 2014، محمل على هيكل معدني وعجلات متينة، ومنجد ومكسو بالإسفنج والفراء الصناعي.
وغير بعيد عنه هناك انستوليشن آخر بعنوان “عرش الإخلاء” عبارة عن كرسي شخصي مكون من كتلة إسمنتية وحديد، وهو جزء من منزل تعرض للاستهداف والقصف الحربي، محمول على قاعدة معدنية متحركة، مكسو بالإسفنج والفراء الصناعي، وهو إيحاء من آخر خمس دقائق يمهلها جيش الاحتلال إلى العائلات كي تخلي منازلها، تاركة كل ما تحب.
أما العمل الذي أخذ الحيز الأكبر فهو انستوليشن جاء بعنوان “حديقة المستهدفين / فك أحجية الحديد”، عبارة عن كراسي من حديد البناء المعاد تدويره وتجهيزه، مكسوّة بالإسفنج والجلد الفاخر، بينها طاولة معدنية مستديرة مصنوعة من أسياخ حديد، مغطاة بوجه من الزجاج السميك، وجميعها موضوعة على بساط من العشب الصناعي، وهي بمثابة تذكار طويل الأجل من ذكريات تلك المنازل وشاهد أبدي على حرمان المواطنين من حقهم في منازلهم.
ليس الألماس والذهب ما كان ثميناً في هذا المعرض فقط، وهي الكلفة التي يقصد منها الفنان السخرية، بل أيضاً ماركة لويس فيتو الشهيرة للحقائب كانت تقبع هناك في زاوية المعرض لكن هذه المرة ليست للحقائب بل لخيمة قابلة للتركيب، مكسوّة بنقش معدّل لنمط لماركة “Louis Vuitton”، وهي مستوحاة من الخيم التي تم توزيعها على النازحين الذين دمرت الطائرات والدبابات بيوتهم بشكل كلي.
وربما يعتبر العمل الأكثر تعقيداً هو انستوليشن “خطة روبرت سيري”، وجاء عبارة عن ثلاثة قواعد إسمنتية صغيرة الحجم، جهّزت بنفس مكونات وخطوات تجهيز قواعد بناء المنازل في غزة، تم تحويلها إلى ختم ثقيل يحاكي قوانين (روبرت سيري) مراقب الأمم المتحدة على عملية إعادة إعمار القطاع التي من المتوقع أنها ستستغرق أكثر من عشرين عاما.
وسياسيا تعتبر هذه الخطة أحد المعوقات أمام إعادة الإعمار، فهي تعتمد على قدرة المعبر الوحيد “معبر كرم أبوسالم” الذي يسمح بمرور 350 شاحنة يومياً، يخصص منها 15% فقط لإدخال مواد البناء، بالإضافة إلى فرض قيود وشروط كثيرة لمن يحق لهم الحصول على مواد البناء، لذلك تسير خطة إعادة الإعمار بسرعة السلحفاة.
جميع هذه الأعمال عُرضت في قاعة بفندق المتحف شمال قطاع غزة خلال يونيو الحالي، بدعم ورعاية الصندوق العربي للثقافة والفنون من برنامج آفاق – بيروت، وأنجزها الفنان خلال إقامته الفنية في مؤسسة “Camargo Foundation” بفرنسا، ربيع 2016.
وعلى هامش المعرض التقت الجزيرة الوثائقية الفنان أبو سل الذي قال “إن فكرة المعرض خطرت لي حين سمعت عن الحادثة التي تكررت في الحرب مع مئات العائلات، وهي اتصال جيش الاحتلال بهذه العائلات، ومنحها خمس دقائق فقط قبل قصف منازلها، ما جعلني أفكر بإعادة تدوير الحجارة المدمرة، والحديد المتروك إلى قطع أثاث، واستمرت الثيمة الفنية إلى ما بعد القصف، والأمل الذي تحمله هذه العائلات لإعادة بناء منازلها لكن هناك حالة عقاب جماعي توقف حركة البناء، فارتفعت أسعار مواد البناء بشكل جنوني، وجاءت خطة سيري التي تفرض شروطا تعجيزية لإدخال مواد البناء”.
وأوضح أن اسم المعرض “راحة الآلام” يحمل كلمتين متناقضتين للإشارة إلى رفاهية الألم التي يعيشها أهالي القطاع، فعادة لا تجتمع الراحة مع الألم ولكنها اجتمعت اليوم في هذه القطعة من الأرض عقب ثلاثة حروب.
وأوضح بقوله” يواجه سكان القطاع تلك الضغوط بردود أفعال عكسية فيصبرون .. ويصبرون .. ويتحملون.. ويقاومون.. ويتأقلمون.. ويقبلون بالترويض وإيجاد البدائل والحلول التي تضمن استمرار حياتهم ويومياتهم”.

ويبدو أن أبو سل يتحدى السياسة بمباشرتها ونزقها ليقدم أعماله الفنية بشكل أكثر سخرية ونزقا، فلا يخرج عنها بل يتلبس بها لكن يتفوق عليها عبر رؤيته الفنية، فإعادة الإعمار ليس المعرض الفني الوحيد الذي يتناول أبو سل فيه السياسة بل هو جزء من مشروعه الفني الذي تناول ثالوث العذاب الغزي.
وعن هذا الثالوث يقول مدير المركز الثقافي الفرنسي أنتوني برونو للجزيرة الوثائقية فقد دعم مركزه مشوار أبو سل الفني ” الجزء الأول من مشروعه يتحدث عن فكرة البحث عن مترو الأنفاق فيطرح تساؤل عن سبب عدم وجوده في القطاع، ويضع لافتة في عدة أماكن بالقطاع مكتوب عليهاsubway كما مدن العالم، والجزء الثاني عن أزمة انقطاع الكهرباء عبر معرض صور بعنوان “شمبر”، واليوم يكمل هذا الثالوث بالتحدث عن إعادة إعمار المنازل عقب ثلاثة حروب بهذه الأعمال الفريدة، إنه مشروع فني عظيم ومتميز”.
الحركة والكهرباء والإعمار ثلاثية العذاب اليومية التي تكمن في تفاصيلها كل الشياطين، ولكن أبو سل تناولها بادئا من السؤال الذاتي لينطلق بها إلى العام فجردها من شياطين السياسة ومن المعتاد اليومي ليقدمها الفن بماهية جديدة قد تكون سببا يوما في التغيير.