خمس شخصيات في حياة الراحلة سعاد حسني
في مساء الخميس الموافق 21 يونيو / حزيران 2001، أذاع التليفزيون المصري نبأ مقتضبا عن مصرع الممثلة المصرية الأشهر “سعاد محمد حسني البابا” المعروفة بسعاد حسني بعد سقوطها من شرفة في شقة صديقتها “نادية يسري” في لندن.
تراوحت الأقاويل سريعا بين الانتحار اكتئابا ويأسا من شفاء طال انتظاره، أو قتل تم بمعرفة أجهزة سيادية مصرية أو لصوص عاديين.
يمزق الحزن قلوب من أحبوها ولا يزال يمزقهم مع كل صيف يأتي دون جديد بعد أن حسمت الشرطة البريطانية ملف القضية بأنها حادث انتحار.
لا يستطيعون تصور أن ربة الجمال والفن والبهجة عند المصريين الجدد قد أنهت حياتها بيدها بعد أن نال منها الاكتئاب.
ومن بين من عرفوها خمسة هم الأكثر تأثيرا في حياتها، منهم من مات قبل وفاتها، ومنهم من لحق بها بعد سنوات قليلة.
كلهم رأوها كما أردوا، لا كما أرادت هي، نستوحي هنا من بعض أحاديثهم الصحفية، وما أقروه علانية بعضا من آرائهم عنها.
وندعو الله أن يقبلها في رحمته، ككل المعذبين الذين لم تصبهم السعادة، وإن حاولوا جاهدين توفيرها للآخرين.
عبد الرحمن الخميسي (1920- 1987):
حين رأيتها للمرة الأولى دق قلبي كما يدق لكل موهبة جديدة، أشعر معها إنني أستطيع تحقيق معها ما لم أتمكن من تحقيقه لذاتي.
لكنها كانت ككل موهبة، بِكر، تحتاج من يعملها ويدربها، ويضعها على الطريق، وقد أيقنت أن هذه هي مهمتي وموهبتي.
كنت أوقن أنها جوهرة يغطيها التراب، فعهدت بتدريبها إلى إبراهيم سعفان وإنعام سالوسة.
ثم كان “حسن ونعيمة” عام 1959 أول أدوارها على الشاشة.
كنت أعلم أنها ستنجح وبلغة السوق السينمائي “هتكسر الدنيا” وقد كان.
وجاء الفصل الثاني من علاقتنا ..
“كيف أعزف على قيثارتي وأنا مشغول بالدفاع عنها!” اشتهرت هذه الجملة على لساني كناية عن كيف يستطيع المبدع أن يتم عمله وهو المشغول بالدفاع عن نفسه وتبرئتها من الظلم.
وسعاد كانت قيثارتي المحبوبة التي طالما شغلت بالدفاع عنها ضد من حاولوا سلبها مني، شخصا واحدا لم أصمد في الدفاع أمامه هي سعاد نفسها.
المحبوبة الصغيرة كبرت وشبت عن الطوق وتمردت على حبي ورفضت زواجي، حينها وجب اختفائي عن حياتها.
عبد الحليم حافظ (1929- 1977) :
لا أذكر تحديدا متى كان اللقاء الأول لنا، ربما شاهدت صورتها على أغلفة المجلات قبل أن نلتقي، كبطلة لفيلم من إنتاج الأستاذ عبد الوهاب هو فيلم “حسن ونعيمة”.
رأيتها كوردة جميلة محاطة بالأشواك خلّفتها حياتها القاسية وطفولتها الصعبة.
حاولت أن أكون بقربها وأن أدعمها بخبرتي، فنشأت بيننا صداقة متينة، وتزامن ذلك مع مشاركتها معي في فيلم “البنات والصيف” في دور شقيقتي.
ثم جاء سفرنا سويا إلى المغرب .. كثرت أقاويل الوسط الفني الذي لا يصمت، وكثرت الإشاعات عن الحب الجديد في حياة العندليب.
وقتها كان كل ما يشغلني أن تشفى حبيبتي الوحيدة من مرضها، ونتزوج، ونبدأ حياتنا.
لكن حالتها كانت تزداد سوءا، وتزيد معها وحدتي، ويزيد معها اقتراب سعاد من حياتي.
ربما فكرت أن تصبح سعاد زوجتي، وأن بها كل ما أحتاجه، لكنها كانت قد أصبحت نجمة تستطيع الاعتماد على نفسها، وأن تشق طريقها دون الحاجة إلى استشارتي.
علي بدرخان (1946- ..) :
نهار خارجي / حمام سباحة النادي الأهلي
ها أنا أجلس في نفس المكان الذي شهد لقاءنا الأول، كان أبي المخرج “أحمد بدرخان” يعد لفيلمه الجديد “نادية”، على أن يلعب بطولته أحمد مظهر، ونور الشريف، وعماد حمدي، ونجمة النجوم “سعاد حسني”
كنت أحد مساعدي أبي في هذا الفيلم الذي تلعب فيه سعاد دورين هما التوأمتين (نادية، ومنى) والمفترض أن الأخيرة بطلة في السباحة.
استدعاني أبي وطلب مني أن أدرب سعاد على السباحة، والتي كنت أجيدها بشدة.
آه، سعاد. كان حضورها آسرا لم أستطع مقاومته رغم بساطتها وخجلها الشديد.
أجادت السباحة بسرعة ككل شيء جديد تتعلمه، وكأنها تعوض كل مافاتها في حياتها.
نما بيننا الحب سريعا، لكنه كان قويا وصحيا، بعدها اضطررت للسفر إلى إيطاليا لمدة 8 أشهر لدراسة السينما.
كنا وقتها نتبادل الخطابات كالمراهقين، وفور عودتي لمصر صممنا على الزواج فورا، وحالت وفاة والدي المفاجئة دون إقامة حفل زفاف.
كان زواجا متينا مستقرا، أحد طرفيه موهبة ضخمة مرعبة لكنها يصعب السيطرة عليها.
عاهدت نفسي على مساعدتها على الاختيار قدر ما أستطيع، وأعتقد أنني وفقت، ووصفت أفلامها في فترة زواجنا بأنها أفضل أفلامها، خاصة مع انتقالنا للعيش مع والدتي في فيلا العائلة بالهرم.
كنت مؤمنا بالأمل، وأشعر أنني قادر على تغيير العالم، وهو الفضل الذي أدين به لأستاذي “يوسف شاهين”، وإلى الرفيقين “أحمد فؤاد نجم”، و”الشيخ إمام” الذين كانت صداقتي قد توطدت بهما في تلك الفترة.
ثم كان فيلم “خلي بالك من زوزو” الذي لم أرض عنه يوما حتى الآن، ربما يبدو الأمر الآن كأزمة عابرة في حياة زوجية متينة راسخة، لكن وقتها كادت الأزمة أن تعصف بكل مابنيناه سويا.
قدمنا معا أفلام الحب الذي كان، الكرنك، شفيقة ومتولي، وأهل القمة الذي شهدت كواليسه وقائع انفصالنا الصامت قبل أن نعلنه لاحقا.
حتى الآن لا أعلم ما الذي قد حدث تحديدا لكني أتذكر أنني استيقطت يوما من نومي وقد شعرت إني لم أعد أحب سعاد كما كنت من قبل، وأنه لم يعد بيننا الآن سوى الصداقة التي كنا نجاهد في سبيل الحفاظ عليها.
صلاح جاهين (1930- 1986) :
ورا كل شباك ألف عين مفتوحين
وأنا وإنتي ماشيين يا غرامي الحزين
لو التصقنا نموت بضربة حجر
ولو افترقنا نموت متحسرين
لم تكن زوزو – التي تدعونها سعاد حسني – بالنسبة لي مجرد صديقة أو ابنة روحية. كنت أرى فيها نفسي بشكل ما.
أرى أحلامي وهي قادرة على الانتقال من الورق إلى شخصية لحما ودما، أسمع كلماتي وهي تغنى وتقطعها ضحكتها المشتهاة، أرى أحلامي بنظرية البهجة عن أنك لست بحاجة لأن تكون سعيدا كي تسعد الآخرين وهي يتم إثباتها عمليا.
كنا في منتصف الستينيات، ربما في عام 1964، أو عام 1965 حين رأيتها للمرة الأولى، كانت في صحبة عبد الحليم حافظ الذي كان يصحبها في كل الاجتماعات والأمسيات التي يقصدها أهل الأدب والفن والصحافة.
كانت جميلة، وبريئة، وتلقائية، وتقطر عذوبة، ولها نظرة طفولية تنم عن سذاجة ملحوظة.
أما أنا فكنت وقتها ملء السمع والبصر، أقدم مع كل عيد للثورة أكاذيب ندمت عليها لاحقا، من بالأحضان وحتى يا أهلا بالمعارك.
حتى جاءت النكسة التي لم أدرك أبعادها ودوري الحقيقي فيها إلا في مصحة موسكو، حيث تم تشخيص حالتي باكتئاب شديد.
وحين عدت إلى القاهرة أقسمت أنني لن أخدع المصريين مجددا أبدا، ولن أقدم لهم إلا البهجة، واخترتها هي أن تكون رسولي إليهم، فكانت خير رسول.
قدمنا معا (خلي بالك من زوزو، وأميرة حبي أنا، والمتوحشة، وشفيقة ومتولي، ومسلسل حكايات هو وهي).
وفي ربيع 1986 جاءتني تسعى أثناء مرضي بالمستشفى حيث همست في إذني “أمي غاضبة مني، اكتب لي أغنية أغنيها لها يا أبو صلاح حتى تعفو عني” فكانت أغنية “صباح الخير يا مولاتي” آخر أعمالنا المشتركة.
ليرحم الله القلوب الضعيفة.
أحمد زكي (1949- 2005) :
كنا في أواخر عام 1974 حينما علمت بخبر ترشحي لأن أقف أمام سعاد حسني في فيلمها الجديد.
لقد انتهت الحرب، وها هو السادات يوطد دعائم حكمه، يقولون إن الفيلم يهاجم عهد عبد الناصر، وإنه مأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ باسم “الكرنك”، وأن عليّ أن ألعب دور “إسماعيل الشيخ”.
تتحمس سعاد، ويتحمس صلاح جاهين أبي الروحي والمستشار الفني للفيلم لي، لكن صوتا ما يعلو معترضا، موزع الفيلم يقول: “من هذا الأسود الذي جئتم به كي تحبه سعاد حسني!”.
أغادر الفيلم وأوشك على الانتحار لولاها، تبث فيّ الأمل، وتصر أنني موهوب، لا أعلم من أين أتت بكل هذه الثقة!
نقدم لاحقا أفلام (شفيقة ومتولي، وموعد على العشاء، والدرجة الثالثة، والراعي والنساء) إلى جانب مسلسل حكايات هو وهي.
اليوم عليّ أن أنعيها، بعد أن وقعت من شرفة في لندن، ها هي تموت وحيدة مريضة مكتئبة بعد أن تخلينا عنها جميعا.
إليها .. هي ..
إلى الفنانة سعاد حسني
يا أكثر الموهوبين إتقانا .. وأكثر العباقرة تواضعا .. وأكثر المتواضعين عبقرية ..
بوجودك ملأت قلوب البشر بالبهجة، وبغيابك ملأتها بالحزن ..
استريحي الآن .. اهدئي ..
يا من لم تعرفي الراحة من قبل ..
لك الرحمة وكل الحب وكل التقدير ..
أسكنك الله فسيح جناته ..
يا من جعلت حياة الناس أكثر جمالاً ..
أحمد زكي