المراوغة الفرنسية في مهرجان كان الأخير
د. أمــل الجمل
من الآفات التي تعتبر إحدى الخطايا في المجتمعات الغربية آفة الكذب بكل أشكاله، تعريف الكذب وفق المعجم الوجيز هو أن يُخِبر المرء عن الشيء بخلاف ما هو عليه في الواقع، التعريف السابق ذاته ينطبق على الخداع، ثم يأتي تعريف المراوغة بأنه خداع، لأن المراوغة تتضمن التفافاً على قول الحقيقة بشكل واضح وصريح، وتُخفى حقيقة الشيء أي ستره وكتمه ومواراته، إذن المراوغة والتخبئة أو الإخفاء هي أحد أشكال الكذب من دون شك.
نقبت عن معاني الكلمات السابقة أثناء تأملي لتصريح تييري فريمو – المدير الفني لمهرجان كان السينمائي – بشأن هوية الشرائط السينمائية الذي أعلن فيه أن “المهرجان قام بتصنيف هوية الفيلم وفق هوية مخرجه”، مدعياً أن السبب وراء ذلك هو “صعوبة التصنيف، لأنّ معظم الأعمال اليوم صارت من الإنتاج المشترك بين بلدان عدة، وبذلك تُصبح متعددة الهوية.”

في بادئ الأمر كان تصريح تييري فريمو مثيراً لدهشتي، وقد اعتبرته آنذاك تصريحاً وأسلوباً يفتقد للمعايير العلمية في تحديد جنسية الأفلام، وأنه يخلط بوضوح شديد بين الهوية القانونية والهوية السينمائية والهوية الثقافية للأفلام، مع ذلك صدقت تماماً أن القائمين على المهرجان الكاني العريق قاموا بذلك بسبب تعدد الدول المشاركة في إنتاج كثير من أفلام المسابقة، وأفلام البرامج الموازية، من دون أن أنفي أنني اعتبرته تصرفا فيه قدر من الكسل في التعامل مع الجهات المتعددة المسئولة عن رأس المال لأهمية الإفصاح عنها للباحثين والدارسين ونقاد السينما، مع ذلك لم يخالجني أي شعور بالريبة إزاء هذا التصريح خصوصا أنه كان قد تم الإعلان عن أربعة أفلام فرنسية مشاركة في المسابقة الرسمية وهو رقم مقبول وليس به تجاوز، ويمكن لأي دولة أخرى أن تشارك بعدد مماثل كما حدث مع إيطاليا في دورة العام الماضي من مهرجان كان.
الحصة الفرنسية الحقيقية
وفق التصريح السابق، وكذلك الكتالوج الصادر عن مهرجان كان السينمائي التاسع والستين لم يذكر شيئا عن تعدد الدول المشاركة في إنتاج الأفلام، وتم الاكتفاء باعتبار الفيلم يحمل جنسية مخرجه، لكن مشاهدة الأفلام وتأمل التترات التي تحمل اسم الجهات الإنتاجية كشف مفاجأة لم تكن في الحسبان، إذ يتضح أن الحصة الفرنسية في المسابقة الرسمية بلغت أحد عشر فيلما من إجمالي واحد وعشرين فيلماً، أي أن فرنسا تشارك في إنتاج أكثر من نصف الأفلام المشاركة، صحيح أن من بينها ثلاثة أفلام فقط من الإنتاج الفرنسي الخالص، لكن هناك ثمانية أفلام أخرى كانت فرنسا مشاركاً أساسيا في الإنتاج، وفي عدد آخر منها كان اسم فرنسا يتقدم على المنتجين الآخرين.
يتمثل الإنتاج الفرنسي الخالص في ثلاثة أفلام هي؛ “البقاء مستقيما” لآلان جيرودي الذي ذاع صيته العام ٢٠١٣ بعد تقديم فيلمه “مجهول البحيرة” في قسم “نظرة ما” حيث نال جائزة الإخراج، “المتسوقة الشخصية” لأوليفييه أساياس، “من أرض القمر” لنيكول جارسيا، أما التواجد الفرنسي من خلال الإنتاج المشترك فيتمثل في أفلام: “البائع” لأصغر فرهادي، “ما لوت” لـبرونو ديمونت، “الفتاة المجهولة” للأخوين داردين، “شيطان النيون” للمخرج نيكولاس فيندينج ريفين، “إنها فقط نهاية العالم” لإكزافييه دولان، و”أنا دانيال بليك” لكين لوتش، و”هي” لبول فيرهوفين، و”بكالوريا” للمخرج كريستيان مونجيو.
في حين لو تأملنا قسم “نظرة ما” فسنجد فرنسا مشاركة في إنتاج ثمانية أفلام من أصل 18 فيلما داخل المسابقة، فهل يا تُرى كان تصريح فريمو بشأن نسب الفيلم لجنسية مخرجه هو مبرر أو محاولة للتغطية على الحصة الفرنسية الكبيرة، بل الزائدة عن الحد؟ وكيف نصنف مثل هذا السلوك؟ هل نعتبره مراوغة أم شيئاً آخر؟
هنا أيضاً من المهم أن نشير إلى أن خمسة أفلام من تلك التي شاركت فرنسا في إنتاجها قد حصدت جوائز المسابقة الرسمية؛ واحد منها فقط تحقق عن طريق الإنتاج الفرنسي الخالص هو “المتسوقة الشخصية”، أما الأربعة الأخرى فتم إنجازها عن طريق إنتاج مشترك وهى: “أنا دانيال بلاك”، “البائع”، “بكالوريا”، “إنها فقط نهاية العالم”.

توضيح ضروري
شخصياً لست ضد الإنتاج المشترك، ولست ضد الدور الذي تلعبه فرنسا في دعم المخرجين من ثقافات متنوعة خصوصاً القادمين من العالم الثالث وسينما جنوب الصحراء أو هؤلاء القادمين من دول لاتزال السينما بها تواجه صعوبات جمة، بل على العكس أنا متضامنة مع هذا الدور وأرحب به جداً، وذلك رغم أنني أُدرك تماماً أن فرنسا – مثل أي دولة ديمقراطية – لا تنفق من أموال دافعي الضرائب إلا لخدمة مصالحها، وأحد أشكال ذلك يتمثل في المحافظة على دور فرنسا الثقافي دولياً، لذلك فإن جزءاً من سياستها الموجهة للخارج هو تحقيق تعددية فكرية وجمالية عبر السينما وذلك باستقطاب المبدعين من ثقافات مغايرة وأفلامهم بإتاحة قدر من الحرية لا يتوفر لهؤلاء المخرجين في بلادهم، مما يعمل على إثراء الحركة السينمائية الفرنسية فتُصبح من القوى الثقافية الفاعلة في مواجهة السينما الأمريكية المستحوذة على السوق.
إذن، مشاركة فرنسا في دعم وتمويل الأفلام من بلدان مختلفة هو جزء من لعبة سياسية لتحقيق توازن ثقافي، فأوروبا وفي مقدمتها فرنسا تريد أن تُصبح قوة عالمية مثل أمريكا، تنافسها على بسط نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي في مختلف مناطق العالم، من خلال وسائل متنوعة منها السينما، تحاول إيجاد سينما أخرى على الساحة العالمية تُواجه الفيلم الأمريكي، ساعيةً للحد من الهيمنة الهوليوودية بإتاحة الفرصة أمام ثقافة سينمائية أخرى
وما سبق يُفسر الرغبة السياسية للاتحاد الأوروبي في الحفاظ على نفوذه الثقافي أو على أقل تقدير تحقيق نوع من التوازن الثقافي، وهو ما يُفسر تصدي دول الاتحاد الأوروبي, خصوصاً فرنسا, لدعوة تحرير التجارة الدولية للسلع الثقافية، ووقوفها ضد تلك الدعوة التي تطالب بإزالة التشريعات القانونية الخاصة بالقيود والضرائب المفروضة على الأفلام الأمريكية, وبإلغاء أي دعم على تلك المنتجات. لذلك أيضاً كانت دول الاتحاد الأوروبي تُصر على مفهوم “الاستثناء الثقافي”, الذي يقضي بضرورة استثناء المنتجات الثقافية, وعلى رأسها السينما, من شروط تحرير التجارة العالمية حماية للأفلام المحلية من السيطرة الهوليوودية, وحفاظاً على الخصوصية الثقافية للشعوب.
لكل ما سبق أنا متضامنة مع الدور الفرنسي لمواجهة السيطرة الأمريكية وخاصة مع تعاظم سياسات تحرير الأسواق. لكن هذا لا يبرر لمهرجان عريق مثل كان الذي بلغ من العمر 69 عاماً أن يلتف القائمون علي الأمور لتبرير تعددية المشاركة الفرنسية، وفي الختام نطرح تساؤلا آخر؛ ألم تكن هناك أفلام أخرى من بين الـ 1867 فيلماً التي تقدمت للمهرجان تميزت بالمستوى الفني والفكري وكانت تستحق المشاركة لكنها رُفضت لتُتاح الفرصة أمام تلك الأفلام المنتجة أو المدعومة برأسمال فرنسي؟