خريبكة تستقبل السينما الإفريقية
المصطفى الصوفي
يعتبر مهرجان السينما الإفريقية بمدينة خريبكة 170 كم جنوب العاصمة الرباط، من بين أقدم المهرجانات السينمائية في المغرب والقارة الإفريقية، حيث عقدت أولى دوراته العام 1977، وقد دأب منذ سنوات على الاحتفاء بما تجود به الساحة السينمائية الإفريقية من أفلام جديدة، تتناول في مشاهدها قضايا خصبة ومختلفة لكنها في مجملها قضايا، ترتبط بالآني، والمجتمعي والتاريخي والسياسي في القارة السمراء، ما يجعل من تلك الأفلام مرآة تعكس الواقع المعيش لكثير من المجتمعات والقبائل والبلدان في القارة السمراء.

وخلال نهاية الأسبوع الجاري، ستستقبل “خريبكة” عاصمة الفوسفاط، كما يلقبونها، نخبة من السينمائيين الأفارقة مخرجين وممثلين ومنتجين وعشاق السينما، للمشاركة في الدورة الـ 19 من هذا المهرجان، والتي ستقام من 16 الى 23 من شهر يوليوز الجاري، هذا المهرجان الذي يروم في العمق، الاحتفاء بالسينما الإفريقية، وبعدد من التجارب السينمائية الإفريقية، والتداول في قضايا السينما، وما يشوبها من مشاكل وهموم، وذلك ضمن ندوات ومنتديات، ولقاءات تقام يوميا، وأخرى في منتصف الليل، ضمن برنامج السمر السينمائي الليلي الإفريقي.
ادغار موران يحكم المهرجان
ولعل تعاقب العيد من السينمائيين والأكاديميين والإعلاميين والمفكرين على رئاسة لجنة تحكيم المسابقة لهذه التظاهرة السينمائية المتخصصة في الأفلام الإفريقية والاحتفاء بها وبرموزها، كان له الأثر البليغ في منح جوائز المهرجان وفق رؤية أدبية أو فنية وإبداعية للجنة التحكيم ورئيسها، مما يجعل كل دورة تختلف عن سابقتها، من حيث الأفلام المشاركة، فضلا عن تقييم لجنة التحكيم، وتتويج الأفلام.
هذا العام، اختارت الدورة الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي ادغار موران ليحكم المسابقة الرسمية، حيث ينتظر أن تفلسف اللجنة السينما الإفريقية، وتعطيها بعدا فلسفيا، يقوم على جعل الممارسة السينمائية والإبداع الفيلمي نوعا من محبة الحكمة، وفلسفة الأشياء وفق رؤية أكاديمية نجعل من الواقع منطلقا للفرجة والمتعة البصرية الخالصة.

ادغار موران هذا الفيلسوف الفرنسي المتعدد المواهب، والذي قال عنه مدير المركز السينمائي المغربي الأسبق نور الدين الصايل بأنه يصعب وضع تعريف محدد لهذا المبدع الكوني، والذي يجد فيه المتتبع عالم الاجتماع والفيلسوف والمحلل النفسي والسيكولوجي والسينمائي الذي يفهم معنى الفن السابع، لقد كان موران إلى جانب عدد من الشخصيات الأكاديمية العالمية كجون بول سارتر واندري بروتون ومارغيرت دور راس من المدافعين والمناضلين والمدعمين لحركات التحرر في العالم ورفع كل أشكال الظلم والبؤس عن الإنسان ككيان، فضلا عن دعوته إلى رد الاعتبار لكل قيم التربية والتعليم والقيم الكونية والعالمية والانتصار لقيم السلم والتعايش بين مختلف الأجناس والديانات والحضارت والشعوب، وهذا يما ينعكس طبعا على رؤيته الفنية للسينما.
ومعلوم ان ادغار موران استهل اهتمامه بالسينما منذ الثلاثينات من القرن الماضي، حيث انخرط في العديد من النوادي السينمائية، كما تأثر بالعديد من التجارب السينمائية العالمية، وخاصة منها الفرنسية والألمانية والسوفياتية، فضلا عن اتجاهه الشاعري في السينما خصوصا مع تجربة المخرج الفرنسي روني كلير، كما شارك في إخراج العديد من الأفلام منها الفيلم الوثائقي”يوميات صيف” مع المخرج جون روش، والذي ينطلق من فكرة سينما الواقع بحثا عن السعادة لدى الفرد، كما اصدر موران الكثير من المؤلفات الفلسفية والفكرية، وكذا السينمائية منها السينما أو الإنسان المتخيل ونجوم السينما وغيرها.

بهذا سيضع هذا الأكاديمي والفيلسوف الفرنسي، خلال هذه الدورة اليد على الأفلام الإفريقية حديثة الإنتاج، والتي ستفلسف الواقع وفق رؤية إخراجية مبدعة، وذلك في أفق استنباط شاعرية الصورة وجمالية المبنى السينمائي فيها، والأبعاد الذاتية والمجتمعية والتاريخية والسياسية، والتي تضطلع عليها تلك الأعمال، وذلك من اجل جعل السينما في إفريقيا تسير جنبا إلى جنب من القضايا الفكرية والفلسفية والأدبية، بحثا عن الفرجة البصرية، وجعل الصورة السينمائية نوعا من الثقافة الصامتة الممتعة، التي تقدم قضية يرضى عنها الجمهور ضمن رؤية إخراجية حالمة وصادقة.
ويرافق موران في لجنة التحكيم الرسمية المخرج السينمائي ياسين فنان والإعلامية عائشة اكلاي من المغرب، والإعلامية هدى العامري من تونس، فضلا عن الممثلة البوركينابية ميمونة انداي، والمخرج الغيني ماما كيتا، والمنتجة السينمائية سيركيني روسانا من ايطاليا. وسيكون على هؤلاء، خلال هذه الدورة التي يشارك فيها 12 بلدا إفريقيا وهي، تونس وإثيوبيا، والبنين وساحل العاج، ونجيريا ومالي ورواندا وبوريكافاصو، ومصر وغينيا والجزائر، فضلا عن البلد المنظم، منح الجوائز، وارفعها السعفة الذهبية أو الجائزة الكبرى التي تحمل اسم المخرج السنغالي الراحل عثمان صمبين، وقيمتها المالية تزيد عن سبعة آلاف دولار أميركي وهو مبلغ زهيد مقارنة مع القيمة الاعتبارية لهذا المهرجان الإفريقي الكبير.
تكريم السينما الإثيوبية والتونسية
ويشارك في هذه المسابقة 15 فيلما، تتنوع من حيث المواضيع التي تطرحها، وهي”طريق اسطنبول” لمخرجه الجزائري رشيد بوشارب، و”قصر الدهشة” لمختار العجمي، و”ثورتي” لرمزي لسمان من تونس، و”سقط القمر” لكايتي فوفانا من غينيا، و”اغراض الهائم التائه” للمخرج الرواندي كيفون رون هو راهوزا، و”غير آسف” لجاك طرابي من ساحل العاج، و”الحمل” ليارك زيلكي من اثيوبيا، و”قبل زحمة الصيف” لمحمد خان من مصر، فضلا عن الفيلم النجيري” مونة” لانطونيو ايجو ابواه، و”بنت امها” لكارين بادو، ولارمين سوادوكو من بوكينافاصو، و”رسالة روندجي او لوبا” لناهوم روجير ادجاهو سامسون من البنين، و”ظل الجنون” لمخرجه بوباكر كاكو من مالي.

ويتقدم المغرب في هذه المسابقة بثلاثة أفلام، بحثا عن تتتويج محتمل وهي “جوك كلبك” لهشام العسري، و”مسافة ميل بحذاء” لحسن خلاف، و”فداء” لإدريس شويكة، وهي مشاركة تكاد تكون شكلية وذلك بالنظر إلى ضعف هذه الأفلام من حيث الأداء والمواضيع التي تطرحها، ما يجعل من الأفلام الإفريقية جنوب الصحراء، وكذا المصرية والتونسي تتفوق عليها في كثير من الأحيان، وفي عدد من المناسبات.
وستعمل الدورة على تكريم ثلاث تجارب سينمائية افريقية، الأولى السينما الإثيوبية كضيف شرف، وذلك في أفق نفض الغبار عن هذه السينما الإفريقية بهذا البلد، والتي تعالج فيضا من المواضيع التي ترتبط أساسا بالواقع وما يحبل به المجتمع الإثيوبي من قضايا وإشكاليات، والتعريف بانتاجاتها السينمائية الجديدة لدى المهنيين والسينمائيين الأفارقة، خاصة أنها حققت خلال السنوات الأخيرة، نتائج ايجابية وتألقها وظهورها اللافت في عدد من المحافل والمهرجانات الدولية، بفضل مخرجين وممثلين أكفاء ورؤية سينمائية تتميز بالجرأة في معالجة القضايا المجتمعية المعقدة والعميقة، ومن بين أولائك المخرجين نذرك، يارد زيلكي، وهيرمان هالي، وهلي جريما، وغيرهم، والذين نقلوا إلى المشاهد أحلامهم عبر سينما الواقع في إثيوبيا.
وستحتفي الدورة كذلك بالسينما التونسية، وذلك من خلال احد أعلامها السينمائية الكبيرة، والذي ترك بصمة سينمائية مميزة في الحقل السينمائي التونسي والمغاربي والعربي، ويتعلق الأمر بالمخرج الطاهر شريعة الذي رحل عام 2010 تاركا وراءه العديد من الأفلام الرائعة. كما ستكرم الدورة أيضا السينمائية المغربية في شخص مدير التصوير المغربي الراحل عبد الكريم الدرقاوي، والذي أبدع العديد من الأفلام المغربية المهمة، فضلا عن حضوره الوازن بعدد من دورات المهرجان السابقة كمخرج سينمائي وكمدير للتصوير، ومؤطر لعدد من الورش السينمائية.
تطوير القطاع السينمائي الإفريقي
وضمن لحظة التكريم يعاب على لجنة تنظيم المهرجان أنه لا يتلفت إلى أبناء المدينة والمنطقة ككل، خاصة أن المنطقة تحبل بالعديد من الممثلين والسينمائيين والذين تألقوا في كثير من الأفلام، سواء تلك التي صورت بالمنطقة مثل فيلم “بولنوار” لمخرج حميد الزوغي، والذي يحكي التاريخ النضالي لعمال الفوسفاط بالمنطقة، او الذين تألقوا في أفلام مغربية وأجنبية أخرى، صورت بعدد من مناطق الإقليم، باستثناء تكريم الراحل محمد بسطاوي.
ويتساءل بعض المتتبعين في هذا الموضوع، من يقف وراء كبح جماح المبدعين المحليين، في ظل بزوغ مجهودات شخصية وبعصامية نجم الكثير من الفنانين المحليين في المجال السينمائيين سواء في التمثيل والنقد وكتابة السيناريو، فضلا عن فاعلين سهروا على تأسيس هذا المهرجان العريق فنيا وإعلاميا وأكاديميا وثقافيا. ويتساءل المهتمون بحرقة، متى يتم الاعتراف بخدمات أولائك، ومن يدير خيوط هذه اللعبة، هل هو المدير أم السلطات أم المنتخبون أم جهات أخرى، لم تتزعزع من مكانها والمتخصصة في طمس الحقائق والتاريخ الفني والثقافي للمدينة، وتريد ان تبقي على المنطقة في الهامش.
فقرات خصبة موازية
كما ستشهد النسخة 19، العديد من الأنشطة الموازية والفقرات الخصبة التي تبرمجها لجنة التنظيم من ندوات وتوقيع كتب، ولقاءات ومنتديات حوارية حول واقع السينما الإفريقية وآفاقها، وورش حول إدارة التصوير السينمائي سيؤطرها مدير التصوير فاضل شويكة ومن مالي مدير التصوير محمد لمين توري، والإخراج السينمائي، والتي سيؤطرها المخرجين المغربيين محمد الشريف الطريبق و يونس الركاب، فيما التوليف الرقمي ستؤطرها الموضبتين زينب الهردوز و أنجود جداد، وكتابة السيناريو من تأطير السيناريست أمين صابر و السيناريست يوسف كرامي. وقد بلغ عدد طلبات الاستفادة من هذه الورش الواردة على مديرية التكوين والورشات قد بلغت 135 طلبا محليا و 17 طلبا إقليميا وجهويا و 57 طلبا وطنيا و ست طلبات دولية.
تستعد المدينة لاستقبال دورة جديدة من المهرجان لتطرح عديد أسئلة من قبل الفاعلين والمهتمين حول ما الذي تحقق لهذه المدنية على مستوى التنمية السينمائية، وجعل السينما شريك تنموي واقتصادي وسياحي، قادرة على تغيير الأوضاع في المنطقة، ويخرج المدينة والمنطقة برمتها من التهميش الثقافي والفني الذي تعانيه، في ظل انعدام الفضاءات الثقافية التي من شأنها تطوير القطاع السينمائي بالخصوص؟، وما الدور الذي يضطلع عليه النادي السينمائي المحلي، في منح المدينة والمحافظة آفاقا إبداعية وسينمائية واعدة، انطلاقا من هذه التظاهرة الإفريقية التي تجمع لفيفا مهما من المخرجين والمهنيين والممثلين والسينمائيين؟، ثم ماذا أضاف هذه المهرجان الى المدينة من مستقبل واعد لترسيخ روح سينمائية افريقية ،وذلك عبر مواكبة التوصيات، وتنزيلها على ارض الواقع، وخلق بنية تحتية سينمائية محلية، وإنتاج أعمال مشتركة، وخلق جيل جديد من الشباب الإفريقي المتعطش للسينما، فضلا عن جعل مؤسسة مهرجان السينما الإفريقية مؤسسة مواطنة، التي تتلقى دعما مهما من قبل الشركاء ومن أبرزهم المركز السينمائي المغربي، والمجمع الشريف للفوسفاط، شريكا فنيا وثقافيا مهما قادرا على توسيع نشاطاته، حتى تكون السينما مستقبلا حقيقيا للتنمية ليس فقط في خربيكة والمغرب بل في مختلف القارة الإفريقية؟.