مسلسل “أفراح القبة” عَرّى الأعمال الدرامية!
أسماء الغول
نالت غالبية الأعمال الدرامية رمضان الحالي، قدر من التهميش بسبب مسلسل “أفراح القبة”، لكنه بطبيعة الحال تهميش غير مقصود، فعمل درامي بهذه القوة والمتانة سيظهر عيوب الأعمال التي تعرض بجانبه، ليس فقط لقوة الحكاية والحوار وأصالة النص الذي يعود إلى الروائي نجيب محفوظ، أو قوة الاخراج، وجمال الصورة، والممثلين الذين أخذهم المخرج محمد ياسين إلى مناطق كان من الصعب على المشاهد أن يراهم فيها دون هكذا عمل.
بل حدث ذلك لكمية التجريب والمغامرة التي قادها المخرج وطاقم العمل، مجازفاً بالمسلسل الذي استمر يصور حلقاته في قاعة سيد درويش بالجيزة حتى آخر أيام شهر رمضان.
كل هذه الأسباب لم تظلم فقط الأعمال الدرامية التي عرضت بشكل موازي، بل أعادت الدراما المصرية إلى قوتها مقابل الدراما السورية والتركية.
عملٌ سيسجله التاريخ، في حين سقطت أعمال كان التاريخ قد حفظها لكن هناك من يصر على التفتيش بها وعصرها إلى درجة “النشفان” كما حدث مع مسلسل “ليالي الحلمية”؛ في حواره الركيك وأداء ممثليه المبتذل المُتوج بانفعالات الفنانة إلهام شاهين، وصراخها في معظم المشاهد التي ظهرت بها.
ولم يشفع حنين المتلقي إلى موسيقى “ليالي الحلمية”، وصور أبطاله الأوائل المعلقة في كوادر التصوير لإنقاذ المسلسل، وربما هذا ما يحدث حين يقوم كاتب أغاني كأيمن بهجت قمر ويساوي رأسه في عبقرية أسامة أنور عكاشة فيكتب دراما.
ولم يكن مسلسل “أفراح القبة” أيقونة المخرج محمد ياسين الأولى، بل قدم عملاً ساحراً متكامل آخر في رمضان 2013 وهو “موجة حارة”، وقد كان عملاً مبهراً بكل المقاييس، مستحقا الممثل الفلسطيني إياد نصار فيه دور البطولة.
كما لم يحتج المخرج ياسين إلى حبكة شيطانية غير واقعية، أو سقط في فخ المبالغة، والأداء المنفعل فيحصل على المشاهدة السهلة، وهو ما فعله الممثل تيم حسن في مسلسل “نص يوم” فقد اكتفى بمسلسل يضرب السوق، ويثير السوشيال ميديا، دون قيمة وأدوار حقيقية تبقى، كدوره في مسلسل “نزار قباني” أو في المسلسل الخالد “التغريبة الفلسطينية”.

ناهيك عن أن مسلسل “نص يوم” سرق من غير حياء فيلم “The best offer” للفنان “جيفري راش” بحذافيره، عدا أن الممثلة نادين نجيم لم تظهر عارية كما فعلت الممثلة سلفيا هويكس في الفيلم!.
“أفراح القبة” مرة أخرى استطاع أن يقدم الممثلين بأداء متماسك وقوي لا يتدرج إلى النزول، أو يهتز، على الرغم من تعقيد الشخصيات، مهتما بأدق التفاصيل، فلم تكن شخصياته سطحية، بل متطورة؛ كما لم يجعلها خيرة بالكامل أو شيطانية بالكامل بل قدم لنا بشرا عاديين تمرجحهم الحياة بين البينين.
وإذا كان هناك اعتراض على أداء الممثلين، فهو دور الممثلة السورية كندة علوش الذي لا يناسبها على الإطلاق، وكادت أن تطيح بمستوى الحلقات التي ظهرت بها، إلا أن اصرار المخرج على التجريب، وإظهار شخصيات جديدة تماما وفي حبكة فرعية جديدة أيضا في الربع الأخير من المسلسل، دون أن يشبع المتابع المتلهف بحل الإشكالية الأولى، لهو تحدي قبله المُشاهد الذي وقع في حب المسلسل، كما أن الحلقتين الأخيرتين في قوتهما غفرا له ثقل تمثيل ولهجة علوش.
إن العاديين الذين قدمهم المخرج ياسين، لا يشبهون في شيء الفنانة يسرا -على سبيل المثال- والتي قدمت أداء متميزا في مسلسل “فوق مستوى الشبهات”، لكن في دور وحبكة غير واقعيين، فمن الصعب تصديق الشر المطلق في عمل درامي يجاري الفترة الزمنية الحالية.

وكان بمجرد أن ينتهي المسلسل يختفي من ذاكرتك، فإن الفن الذي لا يضيف للحياة جديدا، إذا لم يكن عبئا عليها سيكون للتسلية، وحان الوقت ليسرا أن تلعب دورا لا يُنسى كما تفعل مجايلتها سوسن بدر على الرغم من بزوغ نجومية الأولى عليها، لكن بدر تعي ماذا يبقى وماذا يذهب؟.
وكان المخرج ياسين في “أفراح القبة” لعب على عدة متناقضات حياتية وشخصية بين العيب والمسموح، وبين الفن والسفاهة، وبين العهر والشرف، وبين المسرح والواقع، وبين الممثل وبديله؛ كلها داخل الشخصية الواحدة والمشهد الواحد، فيتسلل عمقها وتشابكها الحقيقي إلى ما يناظرها في حياة ونفس المُشاهد.
وهو ما فعلته الفنانة نيلي كريم في مسلسل “سقوط حر” تسللت ايضا الى نفس المُشاهد لكنها تركته مكتئبا بعد كل مشهد، بالضبط كما تركته يشعر أنه يعيش جو الإدمان العام الماضي في مسلسلها “تحت السيطرة”، وهو ما يظهر قدرة نيلي القوية على تقمص الشخصية، ولكنها في النهاية تتركه في حالة نفسية سيئة، بالضبط كما فعلت في مسلسل “سجن النساء” عام 2014، فهي تتقن اليأس الذي لا مناص منه، وتَقَبُل الظلم الكثيف المتكالب عليها، وهذا فيه ثقل كبير، ما يجعل المُشاهد يهرب من أعمالها، وهو ما لم يفعله أمام مسلسل “ذات” فقد قدمت الألم والحزن والفرح والحلم والاحباط كما يليق بالحياة.
“أفراح القبة” يليق بالحياة أيضا، وعاش وكبر داخل مُتابعيه، عبارات كاملة من الصعب نسيانها، وهذا يعود إلى النص الأصيل الذي خلق منه محمد ياسين والكاتب التلفزيوني محمد أمين راضي والسيناريست نشوى زايد، عوالم متجددة، فتشعر كأنك تنظر إلى مرآة داخلها مرآة أخرى، وأخرى..
وقد تمثلت المجازفة في التجريب بإعادة المَشاهد نفسها بحسب الراوي، فكل الممثلين كانوا سَواء في الأهمية، لم يهمش أحدهم بل كل واحد منهم روى الحكاية من زاويته، بالضبط كما تقرأ رواية يتحدث فيها كل فصل عن شخصية من شخصياتها، ولكنها هذه المرة على التلفزيون وفي الوقت ذاته على المسرح، فكل شخصية أيضا بالمسلسل كان هناك شخصية توازيها على المسرح داخل المسلسل.

لتكتشف في النهاية أن المُشاهد هو من يحرك حيوات الأبطال، فالمخرج قدم له الحكاية من كل النواحي، فيصدقها ويتلبسها ويعيش بها إلى أن يكسر المخرج إيهامه، حين يكتشف أن تحية “منى زكي” ماتت على خشبة المسرح، ويخرج بعدها كل طاقم العمل بـ”أفراح القبة “على الخشبة ليصفق له الجمهور، إنه يشبه أن تستيقظ البطلة من النوم فيكون كل ما كان حلما ولكنه هذه المرة مسرحاً، ومن استيقظ هو المتابع؛ إن العمل كان يتحدث فعليا معنا.
أصالة النص والعمل والأداء في “أفراح القبة” تضع مسلسلا جميلا كـ”جراند أوتيل” للمخرج محمد شاكر خضير في خانة “العادي”، وهو ما حدث بالفعل، فهو ليس أكثر من مسلسل هادئ وجميل ويليق بأجواء رمضان، على عكس المسلسل الأسباني الأصلي Grand Hotel الذي يتحدث عن قصة حب ملتهبة، فجراند أوتيل المصري اقتبس قصته ومشاهده بحذافيرها لولا مشاهد القبلات، وبطبيعة الحال اختلاف ديكورات إسبانيا عن مصر قديما، ما يترك تساؤلا كيف يتجرأ السيناريست تامر حبيب أن يضع أنها فكرته على التتر؟.
كما يجب ألا ننسى أن السيناريست حبيب بصحبة المخرج خضير استنسخا في رمضان العام الماضي، أيضا مسلسلا مكسيكيا في فترة الخمسينات ذاتها، وصنعا منه مسلسلا ركيكا اسمه “طريقي”، لكنهما على الأقل تجاوزا أخطاءهما هذه المرة، ولم يأتيا بالمطربة شيرين عبد الوهاب لتأخذ البطولة، ولا يتبقى لهما سوى أن يكفا عن مشاهدة الدراما اللاتينية واستنساخها، علّهما يبدعان شيئا حقيقا لنص أصيل في رمضان القادم.
إن “أفراح القبة” عن نص روائي أصلي، ولم يقلل المسلسل من الرواية على الإطلاق؛ بالرغم من تاريخ ظالم لروايات محفوظ على شاشة السينما المصرية، أما مسلسل “جراند أوتيل” كان مستنسخا عن دراما إسبانية، لكنه كان يحمل كثير من البراعة، ما يترك داخلك سؤلا محيرا، لماذا إذن لم ينجح مسلسل “ساق البامبو”، على الرغم من أنه عن رواية شهيرة تحمل نفس الاسم للكاتب سعود السنعوسي؟.

وتتحدث الرواية عن الشاب الكويتي عيسى الطاروف ولد لخادمة فلبينية تزوجها “راشد” سرًا بدون علم أهله، ويعيش الشاب في الفلبين، ولكنه يقرر الذهاب للبحث عن عائلة والده في الكويت بسبب حالة الشتات التي يعيشها بين هويتين مختلفتين تمامًا، وهناك يواجه النبذ والعنصرية بسبب ملامح وجهه.
إن الإشكالية الرئيسية في المسلسل تبدأ بغياب رؤية المخرج للعمل الدرامي، وتتبعه للرواية بالمشهد والكلمة، وحين أراد أن يغطي مساحات الذات والمونولوج الكثيرة عند البطل في الرواية، وإحداث نوع من التشويق بعيدا عن تصاعد الرواية الهادئ والخالي تقريبا من الحدث الدرامي التصادمي، أخذ يمط بالأحداث، وخلق شخصية نور ابنة عمة عيسى التي لم تكن بالرواية، وكانت كأنها تؤدي دورا في مسلسل آخر، فقد كان استعراضا أنانيا، منعزلا عن روح العمل، وليس تمثيلا محترفا، وهي عادة الممثلة التي أدت الدور “شجون الهاجري”.
كما اعتمد بتكثيف التشويق الدرامي على ردات فعل الممثلة سعاد العبدالله إزاء حفيدها وعدم تقبلها له، لكن أداءها كان غير مقنع، فتشعر أنها ستضحك في منتصف صراخا وغضبها، وهو على عكس دورها العام الماضي في مسلسل “أمنا..رويحة الجنة” الذي جاء ابداعيا وطبيعيا إلى حد بعيد.
وهذا التقصير عند العبدالله من الواضح أن سببه المخرج محمد القفاص الذي لم يستطع تقديم أفضل ما لدى ممثليه، فقد جاء أيضا دور البطل باهتا وضعيفا وربما السبب بشكل أساسي هو الاستعانة بمؤدي كوميدي كـالكوري “وون هو تشونغ”، ليؤدي دور تراجيدي؛ فقد ثبتت ملامح وجهه على رسم ملامح الحزن المبالغ بها طوال حلقات المسلسل.
وهذا الإحباط الذي تركه المسلسل عند الكثيرين من محبي الرواية الحاصلة على جائزة البوكر للعام 2013، لا يمنع الإشارة إلى جودة المَشاهد المصورة في الفلبين بين أفراد عائلة الأم الفلبينية.
وما كان يشفع لكل هذه الأعمال وغيرها من الأعمال التي لا يتسع المقال لذكرها جميعا ونقدها، أنه دائما كانت هناك حلقة جديدة لـ”أفراح القبة” ستأخذك إلى عالم جديد من الرَوي المصور، والقراءة المتخيلة-المُشاهدة للزمن الجميل الذي يشبه زمننا، فكلنا على مسرح واحد، مسرح الحياة، لكن دون أن يصفق أحد، فلن نعرف يوما متى ينتهي الإيهام!.