رحيل “سليم رياض” موثق سينما التحرر

ضاوية خليفة – الجزائر

المخرج الراحل "محمد سليم رياض" (1933 – 2016)

متى تلتفت الجزائر لصناع مشهدها الثقافي، والمساهمين في حراكها السينمائي، والقائمين عليه في أشد الفترات حرجا وأكثرها حساسية (الثورة التحريرية والعشرية السوداء)؟ سؤال يعود إلى الواجهة، كلما رحل ممثل أو مخرج أو كاتب لم تحسن الجزائر استغلاله ولم تُجد التحكم في أبجديات تكريمه والاعتراف بعطاءاته.

وهو ما حدث بالأمس القريب مع المخرج “محمد سليم رياض” (1933 – 2016)، الذي اختار العمل في صمت ومنح المشاهد حالة من الوعي والجمال، وأكسبته جدية طرحه واهتمامه بالقضايا الإنسانية، وأسلوبه الفني المتميز الذي تراوح بين الالتزام والكوميديا شهرة واسعة وقبول جماهيري أوسع، لكن أن يتبع رحيله بصمت فني وإعلامي ورسمي مماثل، ولا يعلن عن وفاته إلا بعد أيام فهذا فعل غير سليم لهذه القامة المتمكنة فنيا، التي تحتفظ بذاكرة سينمائية وتاريخية مشرفة، فسليل جبهة التحرير الوطني، صنع لنفسه اسما، ومسارا ميزه عن أبناء جيله من المخرجين، من حيث الرؤية والمبدأ والإخراج والتعامل السينماتوغرافي مع القضايا العادلة على المستوى الوطني والدولي، فهل هو قرار أم قدر المتميزون الرحيل في صمت كهذا، في بلد له من الغنى التاريخي والتنوع الثقافي ما يشبه حجم القارة ؟

“جزائري” شغلته الثورة واحتوته القضية

لم يُحدث الراحل الذي لم يعد يتقبل مناخ الوسط الفني وسياسية الإقصاء والتهميش، قطيعة بينه وبين الجيل الذي أتى بعده، بل توسم خيرا في الموجة الجديدة من السينمائيين الشباب، فقال في أحد حواراته أنه يقدم أفلاما جيدة، ويمتلك أدوات العمل السينمائي، عكس جيله الذي لم يكن يملك كل المعطيات المتاحة اليوم والخيارات، كما كان “سليم رياض” يؤمن بقدرة وقوة السينما على التعبير والتأثير، باعتبارها أداة فنية وفعالة تصل جموع كبيرة من البشر، فتخلق الفرجة البصرية لديهم، وتلامس مشاعرهم، وتنبه ضمائرهم اتجاه قضايا الإنسان.

هذه المبادئ التي جعلت أفلامه تأخذ بعدا عربيا، حيث اتجه ونخبة من الممثلين العرب سنة 1972 إلى تحقيق ما يسمى بالوحدة العربية -فنيا- بانجاز فيلم عن القضية الفلسطينية، اعتبره النقاد من أفضل الانتاجات السينمائية العربية، عنوانه يحمل الكثير من الأمل “سنعود”، فالجزائر التي عاشت تجربة الاحتلال، تمكن مخرجها المدرك لمعنى الاستعمار والاستقلال، من نقل تفاصيل هامة عن الصراع الفلسطيني الصهيوني، بتعاون من منظمة التحرير الفلسطينية، انفراد آخر يحسب للرجل الذي سعى من منظوره الخاص، لخدمة القضية من كل جوانبها، وكان الجزائري السباق إلى ذلك، إذ يقول الكاتب “جمال محمدي” في مؤلفه “بوسعادة والمسيلة مهد السينما الجزائرية” أن فيلم سنعود “قدم للمشاهد مشاكل الشعوب المستعمرة، والمستمرة في النضال لإيجاد استقلالها، وحريتها”.

صورة المخرج مع صورة أخرى من فيلم "سنعود"

إذا كانت الترجمة خيانة، فان الاقتباس من الأدب إلى المسرح والسينما قد يلغي جوانب كثيرة منها ولا يعني ذلك أي شكل من أشكال الإهمال، لأن المجال في الورق يتسع أكثر للقارئ ويعطيه مساحة أكبر للتأمل والاستمتاع، بينما المساحة الزمنية في الفيلم محددة ولا تغفل الإبداع والفرجة أيضا، إلا في حالات نادرة، بينما تبقى حرية التصرف في النص الأصلي محل نقاش أو تفاهم بين الكاتب والمخرج.

ف “محمد سليم رياض” كمخرج أراد في “ريح الجنوب” 1975 التصرف في بعض محطات العمل، المأخوذ عن الرواية الحاملة لنفس العنوان للأديب “عبد الحميد بن هدوقة”، الأمر الذي أثار جدلا واسعا، وامتد إلى عدة دول عربية، فتصدر موضوع “الاقتباس” ومدى التزام الأفلام بالروايات اهتمام الكتّاب والمثقفين والفنانين، ففي إحدى البلاتوهات العربية التي جمعت بين سليم رياض و بن هدوقة، تفادى هذا الأخير تقييم العمل في شكله السينمائي، ملمحا إلى الاختلاف القائم بين اللون الأدبي الذي يقع في 300 صفحة والفني الذي جاء في ساعة و 37 دقيقة، ودعا المشاهد لقراءة الراوية، والقارئ لمشاهدة الفيلم، وعن إخلاص “محمد سليم رياض” لنص بن هدوقة، قال أن الرواية تكون في الغالب أقوى من العمل السينمائي، واعترف بضعف فيلمه وتفوق نص بن هدوقة، لتبقى المرأة والأرض أكثر النقاط التي وحدت المخرج والكاتب، فالمرأة هي الأرض، والوطن هو من يحتوي أحلامها ومعاناتها معا، كما أظهره الرجلان.

تطرق الباحث والناقد السينمائي “عدة شنتوف” في كتابه “السينما الجزائرية وحرب التحرير” الصادر سنة 2013، إلى أحد أفلام “سليم رياض” الذي كان علامة فارقة في السينما الجزائرية، إلى جانب أعمال أخرى صورت ساحة المعركة، وتوقفت عند بطولات شهداء الواجب الوطني، حيث أشار شنتوف إلى أن المخرج في فيلمه “الطريق” 1968، قدم موضوعا جديدا في الأفلام الثورية، تمثل في المعتقلات التي أقامها الجيش الفرنسي، حيث اتجه “سليم رياض” إلى تصوير يوميات الأسرى، وما يتعرضون له من تعذيب واهانة جسدية ومعنوية في المحتشدات، مبرزا في الوقت نفسه تمسكهم بحلم الاستقلال والرغبة في التحرر، من خلال توحيد الصفوف وتنظيمها، وكان هذا الفيلم الأقرب للمخرج، باعتباره أحد المناضلين الذي عاش التجربة حقيقة، عندما زجت به القوات الفرنسية في إحدى معتقلاتها، في محاولة لعزل الفدائيين عن الشعب، وما يحدث من تحركات في صفوف المجاهدين والثورة.

قلة المراجع وغياب ثقافة التوثيق

لم تهتم الشخصيات التاريخية بكتابة مذكراتها ولم يجتهد الكتاب والباحثون في تدوينها بأي شكل من الأشكال، مما أزم الوضع وخلق ما يسمى بندرة المعلومة وقلة المرجع، وأثر سلبا على السينما الجزائرية، التي وبالرغم من مضي أزيد من نصف قرن على استقلال البلد، لا تزال تهتم بالتاريخ، وتبحث في تفاصيله عن المزيد من الحقائق والبطولات، وان كان لزاما على المؤرخ والكاتب والسينمائي، بدل جهد إضافي لإظهار جانب هام من الماضي وإنصاف واحدة من أهم ثورات العالم، وهنا يمكن الاستشهاد بما ورد في كتاب “الثورة التحريرية في السينما الجزائرية 1957-2012” للباحث “مراد أوزناجي”، الذي قال أن “السينما لم تتمكن من معالجة كل المواضيع وبالطريقة اللازمة، ما يعني أن الأمر يتعلق بدعوة صريحة لكل المختصين والمهتمين حتى يبادروا بمهمة البحث، بغض النظر عن تخصصاتهم واهتماماتهم، ومنهم السينمائيون الجزائريون الذين لا يمكنهم القيام بهذه المهمة، من دون التعاون مع المؤرخين، العاملين على جمع ودراسة الوثيقة التاريخية بمختلف أشكالها”.

ولهذا وفي كل مرة عند رحيل قامة فنية أو ثقافية لا تجد لها ولصورها أثرا في الكتب والمواقع والمنتديات، بالرغم من الغنى الفكري والثقافي والسينمائي الذي اشتغل عليه لسنين كل من “عمار العسكري” و “سليم رياض” و”عز الدين مدور”، وحتى الأحياء منهم، بينما تتوفر بعض الدول التي لها محاولات سينمائية، أو سينما قيد التأسيس على الكثير من المعطيات، والتفاصيل عن تاريخها وكتابها وماضيها، سواء في المقررات الدراسية، أو المراجع أو المكتبات الالكترونية، بينما تفتقر الجزائر إلى حوارات صحفية جادة ودراسات نقدية معمقة، ومؤلفات متخصصة، عكس سوريا ومصر ولبنان على سبيل الذكر لا الحصر، فأمام الأجيال القادمة فرصة واحدة، لمعرفة تاريخ ونضال وسينما “محمد سليم رياض”، والأكيد أن ذلك سيتحقق بأفلامه وليس بمقالات استعجالية، اختصرت اسمه ومسيرته الكبيرة في العبارات التالية: ولد ابن ولاية تيبازة سنة 1933 وتوفي عام 2016 ب “ناربون” الفرنسية، ومن أعمال السينمائية “حسان طيرو” 1982، “الطريق” 1968، “تشريح المؤامرة” 1978، و “ريح الجنوب” 1975، كان عضوا في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، وتقلد عدة مناصب من بينها الإشراف على المركز الجزائري للفن والصناعة السينمائية، وغير ذلك من المعطيات التي تعتمد على اللصق والنسخ، وهذا يعتبر تقزيم للشخصية التي منحت حياتها للسينما، ووهبت نفسها خدمة لثورة الجزائر، ودافعت عليها من أرض العدو آن ذاك.

اعتبر الباحث المختص في السينما والتاريخ “مراد أوزناجي” مشكلة الجزائري مثقف أو مجاهد كان أنه قليل الكتابة والتدوين، لذا فثقافته شفهية أكثر، في حين أن المسرحي الراحل “محي الدين باشطارزي” صنع الاستثناء وكتب مذكراته في جزأين، ويضيف قائلا “كمتابعين ومهتمين بكتابة المذكرات، لاحظنا في الفترة الأخيرة عودة الاهتمام بها، ورصدنا تحول نوعي في الكتابة التاريخية، بدليل الكم الهائل من المذكرات الصادرة حديثا، وفيما يتعلق بالمخرج والمجاهد الراحل “محمد سليم رياض”، فقد علمت منذ أيام قليلة وبعد رحيله أنه خص أحد المنتجين بلقاء لمدة حوالي أربع ساعات، أين تحدث عن مساره النضالي والسينمائي، وبالتالي سيكون المرجع الأساسي والوحيد لهذه الشخصية الهامة”، وتجدر الإشارة إلى أن الباحث والكاتب “مراد أوزناجي”، من القلائل الذين اهتموا بكتابة مذكرات الشخصيات، فقد أصدر سنة 2008 كتاب “حديث صريح مع الدكتور أبو القاسم سعد الله”، الملقب بشيخ المؤرخين الجزائريين، ومؤلفات أخرى.

الباحث "مراد أوزناجي"

اعتبر المخرج الجزائري “محمد الزاوي” أن “محمد سليم رياض”، واحد من أبرز السينمائيين الذين أخذوا على عاتقهم، مهمة التعريف بالثورة، والتأسيس لمدرسة سينمائية جزائرية، فالراحل كان شديد الاهتمام بتيمة المرأة والوطن، كما تأسف صاحب وثائقي “عائد إلى مونلوك” لعدم وجود مدارس لتكوين السينمائيين بالجزائر، أو إرسال إطاراتها للتحصيل العلمي بالخارج، كما كان معمول به سابقا (المدرسة الفرنسية والروسية)، من جهة أخرى، أبدى تخوفه من حدوث قطيعة بين الجيلين التي ستؤدي إلى القضاء على التقاليد السينمائية، التي رسخها جيل السبعينيات.

كما أكد المتحدث ذاته أن الفقيد عاش الهيكلة الجديدة للقطاع، والمسار الذي اتخذته السينما الجزائرية في مرحلة العشرية السوداء، وما ترتب عنها من انعكاسات، كهجرة السينمائيين وغلق قاعات العرض، بعدما كتبوا سيناريوهات تحلم بجزائر أفضل، وترقى إلى المستوى الفكري والثقافي، لأبناء جيله من المبدعين، الذين فضلوا في أعمالهم التعامل مع النصوص الأدبية، ككتابات “عبد الحميد بن هدوقة” و”مولود معمري” وآخرون، مما جعل الكثير من النقاد والدارسين والمهتمين، يؤكدون أن تلك الفترة كانت العصر الذهبي للسينما الجزائرية، التي تعاملت بذكاء مع تاريخها، وتورثها وماضيها، دون إغفال وضعية المجتمع الجزائري، في مرحلة ما بعد الاستقلال، وهو ما بزر في أفلام مخرجين كثر، ك “مرزاق علواش” في “عمر قتلاتو الرجلة”، الذي صنع لنفسه منهجا خاصا به، في وقت كانت الثورة في صدارة المواضيع والاهتمامات.

المخرج الجزائري "محمد الزاوي"

عانى الرجل في السنوات الأخيرة التهميش فلم يُلتفت له بعد كل هذا العطاء، باستثناء بعض التكريمات على قلتها من محافظة مهرجان وهران للفيلم العربي سنة 2011 ومهرجانات أخرى، فالمبدع لا يكافئ فقط بالتكريم، بل بالعرفان، وبمد جسر التواصل بينه وبين مختلف الأجيال، من خلال عرض روائعه، أو تخصيص برامج جادة لتسجيل شهاداته، مثلما فعل المنتج والمخرج “سعيد عولمي” منذ حوالي سنة ونصف، أين دون شهادات المجاهد المخرج “سليم رياض”، في إطار السلسلة الوثائقية التي أنجزها عن معسكرات الاعتقال خلال حرب التحرير (1954-1962)، وفيها تحدث فقيد الجزائر، عن اعتزازه بانتمائه إلى جيل متشبع بالمبادئ الوطنية، وتطرق إلى تفاصيل سجنه بالمعتقلات الفرنسية، وعن علاقته بالكاميرا التي لا تستقيم حياته دونها، وتفاصيل أخرى ستظهر في السلسلة الهامة التي سيقدمها المخرج “سعيد عولمي”.

لم يترك “محمد سليم رياض” للباحث والمهتم مذكرات يقرأ من خلالها فكره وتفكيره، لكن وحدها أفلامه الملونة أو تلك التي جاءت بالأبيض والأسود ستقرؤك تاريخ الرجل المدافع عن المرأة، والمتمسك بالأرض وقيم العدالة والإنسانية، لتخبرك عن قصص الناس وتفاصيل كثيرة عن حياتهم في ذلك الزمان بالكوميديا أو الالتزام.

 


إعلان