الأحمر لم يعد لونا للدماء

 
عبد الكريم قادري
 
يُمثل المخرج الجزائري حسان فرحاني رفقة مجموعة آخرين من المخرجين الشباب، كعبد النور زحزاح، لياس سالم، ياسين بن الحاج، مؤنس خمار، داميان أونوريه وغيرهم، جوهر “الموجة الجديدة” التي باتت مطلبا فنيا يجب خلقه لإرجاع السينما الجزائرية لطريقها الصحيح، لتأثيث مستقبلها بالآليات الحديثة، عن طريق ذهنيات تؤمن بالتعدد الثقافي، منفتحة على مختلف الرؤى والاتجاهات السينمائية، وفي نفس الوقت تُحدث قطيعة مع الماضي وتراكماته الأيديولوجية، خصوصا وأن جزءا كبيرا من هذا الماضي بات يُغيّب بشكل كبير الجانب الفني الذي تقوم عليه السينما، في حين يتم التركيز فيه على ما هو موضوعي،  لتتحول السينما الجزائرية إلى وثيقة جافة، تنقصها الكثير من التوابل لتصبغ عليها الفنية والجمالية، بعد أن خرجت من خانة “السينما”، إلى خانة “الأحداث المصورة”، لهذا كانت الحاجة ضرورية لإحداث هذه القطيعة، ورسمها، والسعي لها، انتصارا لمبدأ الفن للفن.
 
لامس حسان فرحاني في فيلمه الوثائقي الجديد “في راسي رونبوان”، جوهر “الموجة الجديدة”، وهذا ليس على مستوى الشكل وطريقة المعالجة، بل عن طريق الرمزية، التي وجّه من خلالها نقدا لاذعا للسلطة، انتصر فيها للأحلام المؤجلّة للشباب، الذين ضاقت بهم السبل، فلم تعد نظرتهم أبعد من أقدامهم، حيث انكسر طموحهم على صخر صوان التهميش الصلب، بعد أن حوصروا بالإقصاء، وعدم تكافؤ الفرص، وهي معطيات سلبية أفرزتها مرحلة صعبة في الجزائر، غلب عليها الفساد و”التسمين المالي”، على حساب جهد وأحلام فئة كبيرة من الجزائريين.
 
 
روح التجديد بآليات سرد كلاسيكية
 
لم يُكلف فرحاني نفسه عناء البحث عن معالجة حداثيّة في فيلمه ” في راسي رونبوان”، بل اكتفى بآليات السرد الكلاسيكية التي عُرف من خلالها الفيلم الوثائقي، لكن عندما نربط هذه الآليات بالـ”ثيمة”، وحتى طريقة المونتاج التي جاءت إيقاعية، سنكتشف بأن روح التجديد جاءت من خلال الآليات الكلاسيكية، التي يمكن أن نكتشفها بسهولة، سواء عن طريق التخمين المؤسس، أو عن طريق تصريحات المخرج. 
 
جرت أحداث الفيلم في “مذبح” للمواشي، أين استطاع حسان بالإضافة إلى إخراجه وكتابة سيناريو الفيلم أن يُطوّع الكاميرا بوصفه مصورا، ويجعلها شيئا غير مرئي بالنسبة لشخصيات الفيلم الرئيسية، حيث لا نلاحظ أي تلعثم أو تكلف في تصريحاتهم، يتحدثون بانسيابية واضحة، ولا يُمارسون أي رقابة ذاتية على أنفسهم، نجدهم يتحدثون بالكلام الفاحش، يعطون رأيهم في النظام، عن الواقع السياسي الداخلي والخارجي، عن همومهم الاجتماعية، عن أحلامهم وكوابيسهم، فلسفتهم في الحياة، طريقة فهمهم للأشياء، يتحدثون في الفرح والغضب، في الليل والنهار، استخرج المخرج الدراما التي يبحث عنها في كل هذه الأحداث، ليقدم للمشاهد هذا الفيلم في 100 دقيقة،  وطبعا ليس من السهل حدوث هذا، والمدة الزمنية للفيلم ليست هي المدة الزمنية الفعلية، وهذا بديهي طبعا، لأن هناك العشرات من ساعات التسجيل بالكاميرا، وبعد عمليات مونتاج مرهقة ودقيقة من قبل فرحاني نفسه وناريمان ماري تم استخراج هذه الكتلة الزمنية، وكل هذا حتى وإن كان سهلا من الناحية التقنية فلن يكون كذلك من الناحية الإنسانية، حيث يمكن أن نكتشف حجم الثقة والصداقة التي عقدها المخرج مع شخصيات فيلمه، لقد تحوّل إلى صديق لهم، ينصب كاميراته في زاوية معيّنة ويبدأ بالدردشة معهم في مواضيع عدة، دون أن يظهر، لكن من حين للآخر نسمع صوته، وكأنه يُحاول أن يجعل من المشاهد/المتلقي كمصور شريك، ينبهه إلى أن الفيلم الوثائقي ينقل الحقيقة والواقع دون تزييف، ليكون الوقع أقوى وأعمق، طبعا كل هذا يمكن أن نستنتجه من المعطيات التي شاهدناها في الفيلم، هذا الوعي في المعالجة جعل المخرج يلتزم بالقالب الكلاسيكي في السرد، ليُحافظ على هدوء شخصياته ورزانتها، ليستخرج منها ما يوّد المشاهد رؤيته وسماعه، ويُحاكي من خلالها فئة واسعة من الشباب.
 
مذبح للمواشي/ مذبح للأحلام
 
لم يكن المخرج مُهادنا في هذا الفيلم، خصوصا للسلطة التي لم تهتم كما ينبغي بشبابها حسب طرح أبطاله، نستشف هذا من خلال تصريحات شخصيات الفيلم، أو السيميولوجيا القوية الموزعة في مشاهده، بالإضافة إلى الإسقاطات السياسية، كل هذا جاء تحت قبة الرمزيّة، التي لم تخلق مجالا للخطابية وتعدّتها، ومن هنا اكتسب العمل قيمته الفنية والجمالية، وخلق تماسكه القوي.
 
“المذبح” هو الفضاء المكاني لأحداث الفيلم، بناء قديم يعود تاريخ إنشائه لفترة الاستعمار الفرنسي، حيث لا يزال يسير بنفس الوتيرة تقريبا، ويُحافظ على ملامحه الأولى دون تغيير، نفس الأرضية، آلات الرفع اليدوي، شكله العام، سقفه القرميدي، مصعده الحديدي، كل هذا رغم مرور أكثر من 60 عاما على الاستقلال، وهي رسالة ضمنية فيها العديد من القراءات، وما يقويها هو إظهار بطاقة أحد العمال، الذي يعود تاريخ اشتغاله بهذا المذبح إلى 1945، أي أنه عايش حقبتين زمنيتين مختلفين، وهما فترة الاستعمار الفرنسي، وفترة الاستقلال، ولا شيء تغير بالنسبة له، لا زالت نفس المظاهر، يشتغل في نفس المذبح الذي دخله قبل 70 سنة كاملة ولا زال فيه، بثيابه الرثة وملامح التعب الواضح، أي أنه لا شيء تغير بالنسبة له، وما يقوي هذه الفكرة هو الطرح السابق عن الفضاء الذي بقى كما هو دون تغيير، كأن الفيلم يُسائل الحاضر عن الاستقلال وما الذي حققه.
 
اختار المخرج شخصياته بعناية كبيرة، لتعكس الحيز الجغرافي للجزائر، الغرب والشرق ومنطقة القبائل، من خلالها عرف المتلقي كيف ينظر الشاب السطايفي مثلا (نسبة إلى محافظة سطيف) إلى سكان القبائل (الأمازيغ)، والغرب للشرق وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي تشكل في ظاهرها نوعا من العنصرية والجهوية، لكن في عمقها تمثل الجزائر بتعدد ثقافتها وهويتها وبُعدها وانتمائها، أي أنه يجب فهم السياق كي نفهم نفسية كل فرد ونظرته لما حوله وللآخر، لكن كل هؤلاء يشتكون من التهميش الذي جعلهم يُفنون شبابهم في المذبح، ليلهم ونهارهم، بعيدا عن أسرهم ومدنهم، لأجل لقمة العيش، وكل فرد فيهم يفكر بحلم بسيط يصعب تحقيقه، هذا الحلم بالنسبة للآخر ما هو إلا حاجة بسيطة يمكن تحقيقها متى رغب وشاء، الزواج، الهجرة، السيارة، الثياب، كلها أشياء من الصعب أن تحقق بالنسبة لهؤلاء، رغم التعب الشديد الذي هم فيه، إنها قسوة الحياة، وزمن الفساد الذي يعيشون فيه، الفساد الذي حوّل حياتهم إلى ما هم فيه الآن حسب معاني تصريحاتهم، أما الإسقاط الأكبر الذي جاء به الفيلم هو أن الجزائر عبارة عن مذبح كبير… مذبح للحلم.
 
المخرج "حسّان فرحاني"
 
سجّل أنا جزائري 
 
اقتنص الفيلم العديد من “الكادرات” الفنية والجمالية، من بينها مثلا المشهد الذي التُقط بكاميرا ثابتة، وهذا عندما كانت مجموعة من عمال المذبح منشغلة بمشاهدة التلفزيون، لتمرّ بينهم مجموعة أخرى وهي تجرّ حبلا، تتقدم مرة وترجع أخرى، وهكذا دواليك، وبعد دقائق ظهر الثور الذي كانوا يجرونه، ناهيك عن العديد من المشاهد الجمالية الأخرى، كعملية تعليق ورفع الثور على قدمه، وهي عملية إسقاط على المثل المعروف “كل شاة تعلق من رجلها”، ناهيك عن بعض الإسقاطات، كالنورس الذي رباه “عمي”، وعلى الأرجح جاء من إنجلترا أو من بلد أوروبي، كما يقول “عمي”، في عملية هجرة عكسية.
 
ناهيك عن توظيف بعض اللحظات الهادئة والصامتة من حين لآخر لخلق رهبة ما، ليكون العمل في مجمله يحمل صبغة جزائرية في هويته، وكأنّ كل عنصر من عناصر الفيلم يقول “سجل أنا جزائري”، خاصة العنوان الذي جاء مركبا من كلمتين عربيتين وأخرى فرنسية، الأخيرة “رونبوان” تعني بلغة إشارات المرور نقطة تقاطع الطرق، وكل طريق يؤدي إلى مكان ما، وقد جاءت العبارة “في راسي رونبوان” على لسان أحد عمال المذبح، حيث يعني أن في رأسه العديد من الطرق، الزواج، السيارة، البيت، إلى آخره، ليؤكد العنوان الهوية الجزائرية المضطربة، خصوصا في مجال اللهجة التي هي خليط بين العامية العربية والفرنسية.
 
اشتغل المخرج على الرمزية والإسقاط، كي يضمن دعم فيلمه ماديا وفي نفس الوقت يفلح من مقص الرقابة، كل هذا مع مراعاة الجانب الجمالي، شارك بفيلمه هذا بالعديد من المهرجانات الدولية، وحصد فيها الكثير من الجوائز، أهمها جائزة التانيت الذهبي بمهرجان قرطاج السينمائي2015، وكذلك جائزة مهرجان بواتيه في فرنسا، وآخر جائزة كانت من مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي في دورتها التاسعة 2016، حيث حصد جائزة الوهر الذهبي كأحسن فيلم وثائقي.
حسان فرحاني مخرج من مواليد العاصمة الجزائرية، نشط من 2003 إلى 2008 ضمن ناد للسينما، أخرج أول فيلم قصير له سنة 2006، جاء تحت عنوان “خلجان الجزائر”، اشتغل كمساعد مخرج قبل أن يشتغل على فيلمه الوثائقي “فندق أفريقيا” سنة 2010، وفي سنة 2013 أخرج فيلما وثائقيا آخر بعنوان “طرزان، دونكيشوت ونحن”، وآخر أفلامه الوثائقية ” في راسي رونبوان” 2015.
      
 
         

إعلان