أفلام مهرجان لوكارنو (1)

المخرج المصري "محمد حماد"
 
 محمد رُضــا
 
الرقم هو 69. إنه رقم الدورة الأخيرة من مهرجان لوكارنو التي أقيمت ما بين 3 و13 آب / أغسطس الحالي وحوت على العدد الكافي والمتنوع من الأفلام بما يكفي لإبقاء المشاهد مشغولاً ومنكبّـاً على كل تلك التجارب الجديدة غير المعروضة في المهرجانات الأخرى. كذلك بما يكفي لإبقائه عرضة لطوفان من الأساليب والأنواع التي وإن تعددت في المستويات فإنها تبقى مثيرة في تباين أساليبها المختارة للتعبير عما تريد طرحه وقوله.
 
في القائمة الطويلة التي أعددتها للأفلام التي أودّ مشاهدتها ما يعكس هذا التنوع. وعلى رأس القائمة الفيلم المصري «أخضر يابس» الذي حققه محمد حمّـاد كأول عمل وأنتجته شركة «فيلم كلينيك» وتقوم بتوزيعه “ماد سوليوشن”، كلا الشركتين باتت من الأسماء المشهود لها بجدارة ما تقوم بتحقيقه.
 
إنه الفيلم الأول لمخرجه ونتيجته مبهرة ليس كعمل أول فقط بل على كل الأصعدة. المنوال هنا هو تقديم حكاية امرأة تقود الفيلم من دون أن تكون ممثلتها ذات خبرة أو باع طويل. هبة علي، التي تقوم بدور البطولة ظهرت في دور عابر في فيلم بعنوان «النبطشي» سنة 2014 وأسماء فوزي، التي تقوم بدور شقيقتها نهى لم تظهر في السينما مطلقاً من قبل. محمد حمّـاد سينجح في إدارة كلا الممثلتين وتهيئة المشاهد لقبولهما كنسيج من الحياة الاجتماعية خال من الوهج أو الزينة. فيلم يشبه حياتهما التي نراها بلا رتوش. عارية كجدران منزلهما ومتعثرة كالسلحفاة في أحد المشاهد الأخيرة وقد انقلبت على ظهرها غير قادرة على النهوض.
 
القصّـة بسيطة القوام: إيمان (هبة علي) وشقيقتها نهى (فوزي) تعيشان معاً في بيت من دون والديهما اللذين توفيا قبل حين. إيمان، التي يتبنّـى الفيلم حضورها الدائم في كل مشهد تقريباً، تغادر البيت صباحاً لتعمل في محل حلويات. تعود للبيت مساء وتقوم بمعظم أعبائه. شقيقتها على بعد أيام من زواجها من شاب (لا نراه). حسب التقاليد المرعية، يريدان رجلاً يحضر المناسبة ويتحدّث بصفته وكيلاً ورباً للعائلة. تؤول إيمان على نفسها زيارة عمها محمد الذي تحذره زوجته من مساعدتهما. ينصحها بشقيقه أشرف الذي يعتذر بدوره لأن عليه العودة لعمله في السعودية. لم يبق سوى العم الثالث فتحي الذي لم تتبادل الشقيقتان زيارته إلا لماماً. هو مستعد ولو أن هناك مفاجأة على الطريق ستمنعه من القيام بذلك.
 
إنها عقدة بسيطة يستطيع كل مخرج تحقيقها على هواة، لكن محمد حمّـاد أحسن اختيار الإيقاع والنبرة والمشاهد، تصويراً وإضاءة وألواناً، التي تُـحاكي الدراما المنسوجة من تفاصيل الحياة الصغيرة ذات المشاكل الإنسانية الكبيرة. في سعي بطلته المزدوج، للذهاب للعمل والبحث عن عم يرضى بالمثول لجانبهما في التاريخ المحدد، تستقل الحافلة الكهربائية وتجتاز الجسر فوق الشارع المزدحم وتمشي ليلاً في الأزقة والطرق. 
حمّـاد يصوّرها وهي تفعل ذلك في كل مرّة لكن، وفي كل مرّة، هناك تسجيل لنبض حياة بطلته ما يجعل الشعور بالتكرار معدوماً. تلك الرتابة هي في الحياة ذاتها وبطلته ليس لديها ما يدعو للابتسام خصوصاً وأنها تنتظر نتيجة فحص مختبري قامت به لمعرفة سبب تأخر دورتها الشهرية ليتبين أنها توقفت تماماً ما يتركها في النهاية كتلك السلحفاة ملقاة على ظهرها لا تقوى على الوقوف. إيمان لن تصلح للإنجاب ولن يرضى بها أحد يريد تكوين أسرة. ويتركنا الفيلم مع هذه النقلة إلى المزيد من حياة متوقعة بلا أمل يطفو أو ضباب يزول.
 
لقطة من فيلم "وقتما يحلّ الظلام"
 
القضية
 
المرأة في قلب فيلم «وقتما يحل الظلام» (By the Time it Gets Dark) أيضاً لكن بصورة مختلفة. هذا فيلم تايلاندي الهوية بتمويل مشترك بين هولندا وفرنسا وقطر ويدور حول عدد من الشخصيات، أبرزها نسبة للمساحة الفيلمية على الأقل – مخرجة تجري مقابلة مع امرأة كانت اشتركت في فترة الحكم العسكري لتايلاند في الثمانينات. لا أسماء متداولة هنا حول تلك الفترة ولا رغبة في تحويل الفيلم إلى دراما سياسية، بل تلتزم المخرجة أنوشا سوويشاكورنوبونغ (في ثاني فيلم لها) بصورة وجدانية عامّـة وبأحداث قليلة.
 
بطلتها تلك تريد إنجاز فيلم قد يتطرق إلى تلك الفترة وتستقبل في منزلها المطل على البحر خارج المدينة تلك المرأة التي سوف تعتبرها ملهمة. تجلس قبالتها والكاميرا تلتقط حركاتها وتطرح عليها أسئلة محددة. لكن الحوار هنا يخفق في تأمين شروط البحث. شيء مثل “حدثيني عن طفولتك”، كسؤال أول، ربما كان مهمّـاً لكن لا تتبعه أسئلة تتعلق بالسبب الذي تستجوب فيه المخرجة داخل الفيلم (والتي قد تكون هي المخرجة الفعلية) تلك المرأة التي كانت طالبة تقوم مع رفاقها بحملة مناهضة.
 
لاحقاً في الفيلم، بعد أيام من التصوير، تقول لها تلك المرأة: “لم أسألك، لماذا تجرين معي مقابلة؟”. بهذا السؤال ينجرف المنطق تماماً إذ إن لا أحد يُقبل على إجراء مقابلة ينتقل بها من منزله ليحلّ في منزل آخر من دون أن يكون ذلك السؤال هو سؤاله الأول.
 
في جله، تعمد المخرجة سوويشاكورنوبونغ إلى أسلوب تصوير فيه قدر من الوصف النثري. تلك التفاصيل التي تقوم بها أشبه بأن تكون ترجمة بصرية لكتابة وصفية. وإذ تمضي المخرجة داخل الفيلم بتحقيقها، وينضم إلى الفيلم عدد من الشخصيات الأخرى غير المتّـصلة بالحدث الأول، لابد أن تتساءل أين أصبحت القضية التي طرحتها مخرجة الفيلم حول الحقبة الدكتاتورية التي عرضت منها بعض المشاهد في البداية؟
 
لقطة من فيلم "حياة هامدة"
 
طقوس
 
نتيجة أفضل من مخرجة أخرى هي الفرنسية مود ألبي ولو أن فيلمها صعب المشاهدة لغير المتخصصين.
العنوان الفرنسي هو «حنجرة قلب معدة» والإنجليزي «حياة هامدة». 
إنه حول شاب يعمل ليلاً في المسلخ حيث يدفع بالمواشي إلى حيث سيتم قتلها وسلخها وتركها معلقة قبل أن تنتقل إلى عهدة التجار وتتوجه إلى المحلات ومنها إلى معدات الآكلين. في مطلع الفيلم كلب الشاب يدخل ردهات المسلخ وهو خال. يشتم رائحة الحيوانات التي سيقت لمصيرها. في هذا المشهد ما يكفي لأن يشعرك بالنفور من المكان، لكن ما أن نرى بعد قليل الشاب وهو يلكز بعصاه الكهربائية تلك الأبقار التي تم صفّـها في ممرات ضيقة تنتظر (من دون أن تدري؟) الذبح حتى تشعر بأنك أنت المُـساق إلى وحشة المكان والموت العنيف الذي يقع فيه وقد تنتهي من الفيلم شاعراً بالرغبة في التحوّل إلى شخص نباتي.
 
المخرجة ألبي تمارس طقوس الفيلم التسجيلي لكن الفيلم روائي. للدقة: هو روائي من دون رواية. أحداثه هو تردد الشاب على المسلخ غالباً مع مشاهد له مع عشيقته في منزله وأخرى في نهر يسبح وزميل له فيه. لكن الشخصية التي تريد ألبي التركيز عليها هي ليست من البشر. لجانب تلك الأبقار التي تصيب القلب بالألم لما ينتظرها من مصير وهي لا شك تفكر في المجهول متروكة لساعات من دون طعام أو شراب، هناك الكلب الذي رأيناه في مطلع الفيلم والذي تحاول المخرجة أن تجعله موطن الشعور بالأسى. هو يعلم ما تؤول إليه تلك الحيوانات. يرقب بقرة تلد وتموت مع وليدها (لاحقاً يعلقها الشاب ورفيقه في حبل ويحرقانها). تخاله يحاول التخفيف عن تلك الحيوانات بشمّـها كما لو أنه يصافحها. وفي النهاية هناك احتمال بأنه اكتفى من صاحبه ومن تلك الحياة وإنه بات طليقاً.
 
اعتماد المخرجة عليه لا يتم جيّـداً طوال الوقت. هناك مشكلة في تأمين نجاح وصول الرسالة المنشودة. الرسالة تصل بعناوينها الكبيرة فقط، أما مضمونها فيبقى ممحياً منها لا يُـقرأ إلا استنتاجاً. على ذلك، هو فيلم مبهر في وحشته وطريقة عمله. وفي مشهد وحيد نرى فيه حملاً، يدخل الخروف ممراً نظيفاً برّاقاً ويتوقف في منتصف المسافة بين الكاميرا وبين نهاية الممر. يموء وينظر حوله. يدور حول نفسه. لا يعرف أين سيتجه لكي يخرج من هذا المكان الكئيب ويعود إلى المرعى.
 
حكاية أحمد
 
في الفيلم التسجيلي «أصدقاء صيد» (Fishing Bodies) للإيطالي ميشيل بنيتا محور آخر مثير: هناك ذلك المهاجر المصري أحمد (ذكرت بعض المصادر عن طريق الخطأ أنه مهاجر سوري) الذي نزح إلى بلدة كاتانيا، في مقاطعة صقلية، منذ خمس سنوات واختصر حياته بما هو متاح فقط: العيش والنوم في مركب مهجور يتخذه منزلاً إلى أن يجد حلاً لأزمته. ينتقل ليلاً إلى حيث مراكب أقلّـت مهاجرين من أوطان القتال العربية باحثاً عن أي مخلفات تركها أصحابها وراءهم حينما تم إنقاذهم واقتيادهم إلى نقاط تجمع المهاجرين غير الشرعيين. 
 
يوازي هذا الرصد لحياة أحمد، رصد مماثل لحياة مجموعة من صيادّي السمك الإيطاليين الذين اعتادوا الصيد في مناطق يمنعهم القانون من الصيد فيها حيث الغلة وفيرة. لكن مع قدوم تلك المراكب الناقلة للمهاجرين ينشط البوليس البحري في تلك المنطقة ما يجعل مهمة الصيادين صعبة. عليهم الإبحار ليلا بلا أضواء وبلا صوت محرك. طبعاً مشكلتهم ليست بحجم مشكلة الهاربين من جحيم الحروب الأهلية، لذلك لا يجرى المخرج بنيتا (في أول فيلم طويل له) أي مقارنة بل يكتفي بالانتقال بين جانبي فيلمه علماً بأن هجرة أحمد ليست بالدوافع ذاتها، بل لمجرد البحث عن حياة أفضل لم يجدها بعد.
 
لقطة من فيلم "دونالد يبكي"
 
على ذلك يبقى الفيلم مقتصراً على نموذجين من الحياة مرتبطة بوقع أحداهما على الآخر من دون حدّة في البحث أو في الطرح. شيء قريب مما تداوله المخرج.
أما في رحاب الفيلم الروائي البعيد عن التعامل مع أصول تسجيلية أو شبه تسجيلية (كما الحال فيما مر من أفلام باستثناء «أخضر يابس») فيواجهنا فيلم كوميدي أميركي مستقل النشأة من إخراج كريستوف أفيدسيان بعنوان «دونالد بكى».
 
إنه عن مسؤول في أحد بنوك نيويورك اسمه بيتر (جسي وايكمان) يأخذ عطلة قصيرة ويعود إلى البلدة الصغيرة التي وُلد فيها والمغطاة بالثلوج بعدما تناهى إليه موت جدته التي أحب. من أول وصوله إلى البلدة يبدأ كابوسه: لقد أضاع محفظته فتوجه إلى صديق طفولته دونالد (المخرج أفيدسيان نفسه) ليستدين منه بعض المال. تلك الحاجة تفرض عليه تحمّـل صديق مملوء بالسذاجة والعفوية التي تتجاهل بعض أبسط قواعد الحياة. دونالد هو قروي كامل يعيش بلا غاية أو هدف وهو يفرض على بيتر البقاء معه ريثما يتدبر المال اللازم ثم يبدأ بالتدخل في شؤون حياته الخاصة ويفسد علاقة قيد التأسيس مع كريستين (لويسا كراوس) وفي طيات ذلك يكشف عن أنه كان زار جدّة بيتر مرات عدّة مدعياً أن بيتر نفسه. هذا يثير أزمة أخرى بين الصديقين لكنها تمر تحت وطأة الحاجة إلى البقاء معاً خلال زيارة بيتر للبلدة. في النهاية على بيتر أن يعود وإذ يوصله دونالد إلى المطار يذرف الدمعة التي استحوذها الفيلم عنواناً له. 
 
«دونالد يبكي» يبقى على حافة حرجة. في جانبه الأول هو كوميديا مختلفة ومقبولة، وفي جانبه الآخر هو أضعف من أن يثير الاهتمام طوال الوقت وعلى نحو مستديم. الإزعاج الكبير الذي يتسبب به دونالد لصديقه بيتر ينتقل إلى المشاهد الذي يريد أن يكتفي من نموذج دونالد وطريقة تصرفاته وحواره.

إعلان