في ذكراه العاشرة .. شخصيات محفوظ الخالدة
Published On 29/8/2016

فاطمة نبيل
لم يحظ كاتب روائي شرق أوسطي بتقدير كالذي حظيّ به نجيب محفوظ، ليس رواياته ومجموعاته القصصية فحسب، بل تطرق البحث والدراسة لسيرته الذاتية وما رواه عن حياته وأثرها على ما كتبه.
وبالطبع شمل البحث فن السينما التي دخلها نجيب محفوظ روائيا وكاتبا للسيناريو، منها ما ظهر قبل وفاته في أغسطس عام 2006 ومنها مازال ينشر طوال السنوات العشر الأخيرة.
وقد منحت السينما بلا شك انتشارا كان يستحقه أدبه العظيم بين المنصرفين عن القراءة، وأتاحت له قاعدة واسعة من المحبين، لم تكن لتوجد بهذا الكم لولا الأفلام المأخوذة عن أعماله الروائية.
دخل نجيب محفوظ عالم السينما كاتبا للسيناريو أولا بسبب اعتقاد خاطيء ساد بين السينمائيين عن أن أدبه لا يصلح للتحويل لعمل سينمائي.
وكان أول أديب يكتب للسينما، حيث بدأ العمل عام 1945 وكان أول أفلامه (مغامرات عنتر وعبلة)، وبعده كتب سيناريو فيلم (المنتقم)، وإن تم عرض المنتقم عام 1947، أما مغامرات عنتر وعبلة فكان عرضه الأول عام 1948.
ذكر نجيب محفوظ في أكثر من حديث له أنه يدين بالفضل للمخرج صلاح أبو سيف (1915 – 1996) بتعليمه فن كتابة السيناريو، والذي لم يكن يعرف ماهيته.
أما رواياته وقصصه القصيرة التي تحولت لأعمال سينمائية فقد تجاوزت الستين تقريبا، قدمها كل الأسماء الكبيرة في عالم الإخراج السينمائي المصري مثل صلاح أبو سيف، وكمال الشيخ، وحسام الدين مصطفى، وحسن الإمام، وحسين كمال، وحتى أشرف فهمي، وعاطف الطيّب، وعلي بدرخان، وسمير سيف.
وإذا كان أدب نجيب محفوظ قد حظى بتقدير واسع من النقاد والمثقفين حول العالم وتبلور هذا التقدير في نوبل مستحقة عام 1988، إلا أن عددا ليس بالقليل من ال��فلام المأخوذة عن رواياته لم يحظ بتقدير مماثل إما بسبب ضعف مخرجي هذه الأفلام وتركيزهم على العناصر التجارية التي طالما سيطرت على السينما المصرية كالمشاهد الجنسية التي يحفل بها أدب نجيب محفوظ، دون الالتفات لمدى كون هذه المشاهد جزءا غير قابل للاقتطاع من سياقه في الرواية / القصة بينما قد نراه مقحما في الفيلم السينمائي أو بسبب ضعف كتاب السيناريو الذين لم يفهموا أو افتقدوا القدرة على الإتيان بمعادل بصري لما كتبه.
ومن بين عشرات الأفلام التي حملت اسم نجيب محفوظ فقليلة هي الأفلام التي يمكن أن تُنسب له بحق، وقد يختلف أو يتفق آخرون مع هذه الاختيارات كلُّ حسب ثقافته وعمق قراءته لأديب نوبل.
وإذا كان أدب نجيب محفوظ قد حمل ختم الصلاحية لكل زمان ومكان شأنه في ذلك شأن كل أدب أصيل، فللأسف ليس كل شخصياته السينمائية كذلك، ونختار هنا بعضا من الشخصيات التي نعتقد أنها قد تظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها بما حملته من تحليل جاد للنفس البشرية وظروف مجتمعاتها.

علي عبد الستّار / الحب فوق هضبة الهرم:
نشر نجيب محفوظ المجموعة القصصية “الحب فوق هضبة الهرم” عام 1979 والسادات يوقع معاهدة السلام مع إسرائيل برعاية أمريكية.
السادات الذي أيده نجيب محفوظ علنا وانتقد سياساته في رواياته حتى قال في رواية (يوم قتل الزعيم) “الزيّ زي هتلر والفعل فعل شابلن”.
وقتها كان عاطف الطيّب (1947- 1995) لايزال مساعدا ليوسف شاهين ومحمد شبل، يحاول أن يجد له مكانا في وطن ضنّ على أبنائه المحاربين بثمرة انتصارهم وأهداها لحفنة من المنتفعين.
بعد سبع سنوات سيقدم الطيّب فيلمه السادس “الحب فوق هضبة الهرم” عن قصة قصيرة لنجيب محفوظ بنفس الاسم.
علي عبد الستّار رمز الثمانينيات بكل قسوتها، تطحنه أزمته الجنسية، بعد أن أصبح في الثامنة والعشرين ولم يعرف عن المرأة سوى أحلامه ومراقبته لجارته الشابة.
أراد أن يدرس بكلية الهندسة فأجبره مكتب التنسيق على دراسة الحقوق، أراد أن يعمل بالشئون القانونية – كما يفترض به – فعمل في العلاقات العامة، بل إنه أراد أن يعمل في العلاقات العامة فوجد نفسه يمضي نهاره متسكعا في شوارع وسط البلد.
إن مثل علي عبد الستّار عند نجيب محفوظ كمثل الضابط محمد فوزي في (أهل القمة) .. كلاهما ثابث محله والعالم يتغير من حوله، دون أن يستطيع استيعاب التغييرات التي قد حلت بمجتمعه.
لا يغير حياته إلا ظهور رجاء الموظفة الجديدة في حياته التي وضعها مكتب القوى العاملة في طريقه تكفيرا عن خطاياه السابقة، تغلبهما الظروف بعد قصة حب قصيرة فينفصلا، ينزوي فتسعى له، يفسخ خطوبتهما هربا من تكاليف زواج لا يملكها، فتصر هي على الزواج منه.
تذهب معه في كل محاولاته اليائسة لقضاء ساعة حب قبل أن تطحنهم المدينة مجددا، ولا يجدان إلا رمز حضارة لم يبق منها إلا هرم ضخم، لكنه لم يتسع لليلة حب لاثنين مِن أحفاد مَن بنوه.
في القصة الأدبية يفاجيء رجل الشرطة علي عبد الستّار فيرشوه ويتركه كما يترك غيره، أما في الفيلم – ربما لأسباب رقابية – تقبض الشرطة عليهما، فيقدمان طلبا لجمعهما في زنزانة واحدة.

جابر/ الجوع:
نحن هنا في عام 1887 حيث حلّ فرج الجبالي في موقع فتوة الحارة بعد انتصاره على الفتوة السابق في معركة دامية، تدعمه صفوف الحرافيش وأخوه الذي حرضه على استغلال قوته في خدمة الفقراء.
لكن الفتوة الجديد الذي ذاق ملمس الرفاهية، وعرف أثر الماء الساخن، والفراش الوثير، والعطور الفاخرة تبتلعه الحياة الجديدة وتنسيه من ساندوه، ويصبح واحدا ممن عاداهم سابقا، مزدريا الحرافيش وحقوقهم في أموال أعيان الحارة التي طالما نادى بها.
في الحكاية التاسعة من رواية الحرافيش التي سماها “سارق النغمة” والمأخوذ عنها فيلم الجوع ينفي نجيب محفوظ جدوى الحل الفردي ويقر حقيقة كلفت الكفاح الإنساني طويلا حتى أقرها وهي أن العدل لا يقيمه تحرك شخص واحد لإقراره، وأن محاولة جابر أن يسرق أموال الأعيان وطعامهم ويوزعها على الفقراء مصيرها الفشل.
ويقر حقيقة أخرى أن لا عدالة بدون قوة تحميها، لكنها ليست قوة فتوة الحارة، لكن قوة حرافيشها.
سيّد / الاختيار:
الأمر هنا يختلف قليلا، فالفيلم عن سيناريو كتبه نجيب محفوظ خصيصا للسينما متحملا مسئوليته (بالمشاركة مع يوسف شاهين مخرج الفيلم بالطبع) على عكس الأفلام المأخوذة عن روايات له، وتقتصر مسئوليته فيها على الأصل الروائي فحسب.
سيّد هنا هو امتداد لشخصيات نجيب محفوظ الروائية، مثل: كمال عبد الجواد في الثلاثية، وعيسى الدباغ في السمان والخريف، وصابر الرحيمي في الطريق، وسعيد مهران في اللص والكلاب، وعمر الحمزاوي في الشحاذ.
ويناقش نجيب محفوظ هنا إشكالية طالما شغلته في أعمال سابقة على وقوع النكسة (حرب حُزيران 1967) وهي هل المثقف ساهم في وقوع الهزيمة يوم رضي أن يكون جزءا من السلطة وليس على يسارها!
فالانفصام الذي يعاني منه سيّد وازدواجيته بين ذاته وتوأمه البحّار محمود هي ازدواجية المثقف في علاقته بالسلطة والمجتمع.
وإذا كان محمود شقيقه قتله أو أنه هو الذي قتل محمود، فالأمر لم يعد مهما، وفي نصف الفيلم الثاني لا تشغل المشاهد قضية القتل لكنه يظل مرتبكا هل من أمامه هو سيّد أم محمود لأنهما في الواقع شخص واحد.
لا عجب أن يثير الفيلم حفيظة مثقفي عصره، ويعتبره يوسف السباعي وزير الثقافة في عهد السادات هجوما شخصيا عليه، وإذا كان المقصود السباعي أو هيكل كبيرهم الذي علمهم السحر فالأمر سيان، فالهزيمة حلت بنا وأيا وضع مثقفو بلد يدهم في يد حكامها حلّت بهم الهزيمة.