فلسطين في السينما السورية

غسان كنفاني

لمى طيارة*

اهتمت السينما السورية بشقيها التسجيلي والروائي (القصير والطويل) وحتى قبل  تأسيس القطاع العام، المتمثل بالمؤسسة العامة للسينما، بالقضايا القومية وكان على رأس تلك القضايا القضية الفلسطينية، كبرى قضايا الوطن العربي ، على اعتبار فلسطين جزءاَ لا يتجزأ من الوطن العربي الواحد من جهة، ولأنها قضية قومية تمسّ سوريا بشكل كبير ومباشر، حتى أن الاهتمام بالقضية الفلسطينية استحوذ على أكثر من 10% من إنتاجات السينما السورية التي لم تتجاوز الـ 100 فيلم حتى كتابة هذه السطور، وهو اهتمام لا نجده في التجارب العربية الأخرى، سواء بالطرح المباشر للقضايا أو غير المباشر كنوع من الانعكاس لتلك القضايا على سوريا وشعبها.

إلا أنه وبالعودة إلى التراث السينمائي السوري، بشقيه الخاص والعام، لم نعثر على فيلم سينمائي سواء تسجيلي كان  أو روائي تدور أحداثه حول القدس أو المقدسيين بشكل خاص، باستثناء الفيلم القصير الروائي الذي قدمه المخرج الفلسطيني الأصل السوري الجنسية،  باسل الخطيب في العام 1995 بعنوان “قيامة مدينة” وهو فيلم يبحث في ذاكرة مدينة القدس من خلال رؤية شاهد للتاريخ، وذلك بأسلوب مجازي شعري، وتدور أحداثه حول سيدة ولدت في القدس وعاشت فيها لسنوات، ثم أبعدها الاحتلال قسريا عنها، وهو المخرج الذي عمل سابقا فيلمين تسجيليين عن فلسطين، بعنوان “اللعنة ” 1984، و”أمينة..حكاية فلسطينية” 1986، كمشاريع دراسية أثناء دراسته للسينما في الاتحاد السوفيتي.

وهذا الأمر مشابه إلى حد ما  لما قامت به الدراما التلفزيونية السورية والتي خصصت أعمالا لفلسطين وشعبها وعملا واحدا للقدس. نذكر من تلك الأعمال على سبيل المثال “التغريبة الفلسطينية” للمخرج حاتم علي،  وتدور أحداثه حول معاناة أسرة فلسطينية فقيرة في زمن الاحتلال البريطاني ومن ثم في زمن الاستيطان الصهيوني ما بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي،  كما قدم باسل الخطيب عملا هاما بعنوان “عائد إلى حيفا” في العام 2004، وكان للقدس والمقدسيين عملا واحدا  بعنوان “أنا القدس” أيضا للمخرج باسل الخطيب، وهو عمل من إنتاج مشترك سوري مصري وتدور أحداثه حول الفترة الزمنية الممتدة ما بين (1917-1967) وهي فترة حاسمة من تاريخ القدس بداية من الاحتلال البريطاني للمدينة في العام 1917 أواخر الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية الانتداب البريطاني .

التغريبة الفلسطينية

السبب في ذلك القصور الإنتاجي السينمائي حول القدس،  ليس تقصيراَ من المؤسسة العامة للسينما أو أي جهة إنتاجية أخرى، ولا حتى من المخرجين أنفسهم بطبيعة الحال، وإنما يعود ومن وجهة نظرحيادية، إلى أن  جلّ الإنتاج السينمائي المتعلق بفلسطين، كانت قد استمدّت السينما السورية مادته من الأدب وخاصة من الروايات، وأغلب تلك الروايات لم تتناول حياة القدس والمقدسيين، وثانيا لأن صّناع السينما (مخرجون ومنتجون) لا يفصلون ما بين فلسطين الوطن والقدس المدينة (العاصمة) والسكان، وثالثا وهي النقطة الآهم على الإطلاق والتي تتعلق بسينما القدس بشكل عام ، ألا وهي الظروف الإنتاجية القاهرة المتمثلة في الاحتلال الصهيوني والتي لا تسمح بتصوير أفلام وثائقية عن القدس أو حتى تصوير مشاهد لأفلام روائية داخل أراضيها، لدرجة أن الفلسطينيين أنفسهم يشكون ذات الشكوى في افتقارهم لأعمال سينمائية مقدسية، فجلّ الإنتاج السينمائي المتوافر عن القدس منذ عام 1948 وحتى اليوم لا يتجاوز 52 فيلما ([1])

ولكن قبل العوده إلى أبرز الأعمال السينمائية سواء الذي أنتجت أو شاركت بإنتاجها المؤسسة العامة للسينما في دمشق والتلفزيون السوري منذ مطلع الستينيات وحتى تاريخ كتابة هذا الموضوع، علينا أن ننوه ولو سريعا إلى أن القطاع الخاص وخاصة في مرحلة المغامرة، (كانت له تجارب  بسيطه بعضها لم يكتمل، كما حصل مع المخرج أيوب بدري الذي قام بتصويرمشاهد عن ثورات فلسطين ضد الإنجليز، وأحمد عرفان في فيلمه “الجيش السوري في الميدان” 1948، ومحاولة زهير الشوا عام 1948 إنجاز فيلم عن القضية الفلسطينة بعنوان “وراء الحدود” )([2])،  أما أول تجربتين مكتملتين حول فلسطين في القطاع الخاص ، فكانت  الأولى مع المخرج محمد صالح الكيالي بعنوان “3 عمليات داخل فلسطين” والفيلم يصور ثلاثة قصص منفصلة لعمليات فدائية، أنتج هذا الفيلم في العام 1969، ( زعم المخرج أنه قصد بها الرد على تشويه العدو لصورة الفدائيين، ولكن الفيلم أظهر الفدائيين بشكل ساذج ومشوه وخطير)([3])، أما الفيلم الثاني فهو “عملية الساعة السادسة” من إخراج سيف الدين شوكت، ويرى الناقد المصري هشام النحاس في كتابه الهوية القومية في السينما العربية، أن الفيلمين أفسدتهما الاهتمامات الشكلية فصارا غريبين وفقدا القدرة على التواصل، هذا بالإضافة للأطماع التجارية التي أفقدت العمل قيمته، فتحول إلى سلاح مضاد.

لكن مع تأسيس القطاع العام للإنتاج في سوريا متمثلا بـ (المؤسسة العامة للسينما ) في العام 1963 بدأ الإنتاج ينضج ويصبح أكثر موضوعية ونخبوية، بل أن مرحلة السبعينيات برمتها وحتى نهاية الثمانينات، اصطلح النقاد على تسميتها بمرحلة الفورة الإنتاجية، فلقد تهيأت ظروف وعوامل ساعدت على ازدهار الإنتاج السينمائي، فكانت أولى إنتاجات المؤسسة العامة للسينما عن القضية الفلسطينية في العام 1969، فيلماَ روائياَ قصيراَ للمخرج نبيل المالح بعنوان “إكليل الشوك” الذي تدور أحداثه في مخيم اللاجئين الفلسطينين في دمشق، واستمر الاهتمام بتلك القضية حتى مرحلة السبعينيات، من خلال تمجيد بطولات الشعب الفلسطيني، ففي العام 1970 أنتجت المؤسسة العامة للسينما ثلاثية “رجال تحت الشمس” وهي عبارة عن ثلاثة أفلام روائية قصيرة تحمل العناوين التالية ( المخاض، الميلاد ، اللقاء) جُمعت في فيلم واحد روائي طويل، والفيلم كما تقول الناقدة ديانا جبور في كتابها القضايا القومية في السينما العربية، تجربة لم تتكرر في تاريخ السينما السورية ـ لاعتماده على ثلاثة أفلام روائية قصيرة شكلّت تنويعا على القضية الفلسطينية وهو عمل طليعي كسر السائد الرتيب في مقولة أن الروائي القصير محرومة حظوظه من العرض الجماهيري رغم ما يكتنزه من بلاغه وتكثيف في التعبير، ولأهمية هذه الثلاثية نتوقف بشكل شبه تفصيلي عنها، بدءا من (المخاض) الفيلم الذي أخرجه نبيل المالح، يهرب رجل برفقة زوجته الحامل من العدوان الصهيوني، وأثناء هذه الرحلة يتعرض للكثير من المطاردات، إلى أن تلد زوجته الطفل وتموت، فيستمر الأب برحلته مصطحبا طفله إلى أن يصل لمنطقة حدودية هي الخط الفاصل ما بين المحتل والمقاومة، لتمتدّ أيدي الفدائيين وتنتشل الطفل، كرسالة واضحة وصريحة إلى أن المقاومة هي الحل.

فيلم "المخدوعون"

مرورا بـ (اللقاء) إخراج مروان المؤذن، يلتقي فدائي مختبىء في شاحنه يقودها إسرائيلي بفتاة نرويجية جاءت لزيارة والدها باحث الآثار الذي يعمل في فلسطين، يضطر الفدائي لقتل السائق بعد أن اكتشف أمره الأخير ويدور حوار بينه وبين الفتاة عن القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي الذي ينكل بالنساء والرجال والأطفال والشيوخ ، وتنشأ بينهما قصة حب.

وانتهاءا بـ (الميلاد) الذي أخرجه محمد شاهين، والذي تدور أحداثه حول مدرس خجول، يعيش في منطقة حدودية تتعرض للغارات، وهذا المدرس يرتدي ثوب الشجاعة أمام تلاميذه رغم أن الخوف ينتابه، إلا أنه في يوم من الأيام يقوم بالتطوّع بدل أخيه للقيام بمهمة شبه انتحارية، تجعل منه رجلا شجاعا في نهاية المطاف. نجحت هذه الثلاثية كثيرا حتى أنها حصلت على الجائزة الثانية لمهرجان قرطاج في العام 1970.

بعد نجاح هذه الثلاثية قامت المؤسسة العامة للسينما وفي نفس العام بإنتاج فيلمين قصيرين، ولكن هذه المرة بتوقيع مخرجين عربيين، الأول فيلم للمخرج قيس الزبيدي بعنوان “الزيارة” والثاني فيلم للمخرج قاسم حول بعنوان “اليد”، وهما مخرجين عراقيين عملا في إطار السينما السورية وحققا حضورا.

في العام 1972، قدمت المؤسسة العامة للسينما باكورة إنتاجها الروائي الطويل بفيلم “السكين” للمخرج خالد حماده عن رواية (ماتبقّى لكم) للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ” والاقتباس عن قصة لغسان كنفاني ، يعني ميزة مؤكدة لآي عمل يعتمد عليها، فغسان وإن لم يدن الفلسطيني ويحّمله مسؤولية ما جرى، إلا انه لم يبرئه في أي من قصصه من مسؤولية ما جرى، بكل ما يعنيه هذا التحول في القصّ العربي من ابتعاد عن الشعاراتية، وعن تعويض الخسارة وما تفترضه من دونية، بإحساس مبالغ به ولا مبرر له بالعظمة والتميز “([4]) .أما الفيلم الثاني فكان بالتعاون مع مخرج مصري هذه المرة حين أخرج توفيق صالح فيلما بعنوان “المخدوعون” وهو فيلم مأخوذ أيضا عن رواية للفلسطيني غسان كنفاني بعنوان (رجال في الشمس)، ويعتبر النقاد هذا الفيلم أيقونة أفلام القضية الفلسطينية، لا يضاهيه في الأهمية سوى فيلم “كفر قاسم “ لبرهان علوية والذي سنذكره لاحقا، ويدور الفيلم حول مجموعة من الشباب من أجيال مختلفة، تحاول الهرب إلى الكويت عبر العراق  سعيا  لتحسين وضعها المادي بعد نكبة 1948، وتلقى حتفها نتيجة الاختناق عند الحدود الجمركية الكويتية، وهو أحد أهم الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني بشكل جديد وجاد، حيث يحاول الفيلم أن يكشف وحشية العدوان الصهيوني والذي بسببه يتحول أهل البلد إلى لاجئين في معسكرات الإغاثة، (كما يركز الفيلم في أحد مشاهده المصورة في قاعة اجتماعات الجامعه العربية على اللوحة المكتوب عليها “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” فيفضح بسخرية أولئك الذين اعتصموا طويلا ولا يزالون بمصالحهم على حساب القضية والشعب)([5]) يذكر أن الفيلم حصل على العديد من الجوائز العالمية .

في العام 1972 تشجعت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ودعمت المؤسسة العام للسينما في إنتاج فيلم بعنوان “مئة وجه ليوم واحد” إخراج  كريستيان غازي، وهو فيلم روائي تناول موضوع القضية الفلسطينية، لينطلق منها ليتكلم عن الإنسان العربي ذي الوجوه المئة وما تحمله من تناقضات طبقية وزيف (الثورة المقاومة واللامبالاة، الحب والصداقة والخوف) وهي متناقضات أثرت على الوضع العربي سياسيا واقتصاديا كما يقدمها الفيلم.

أما أهم فيلم في تاريخ السينما السورية عن القضية الفلسطينية، فجاء بعد حرب تشرين التحريرية 1973، من خلال  فيلم “كفر قاسم” الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما بالتعاون مع مؤسسة السينما اللبنانية في العام 1974 بتوقيع المخرج اللبناني برهان علوية، عن قصة كتبها عاصم الجندي، تتناول الوثيقة التاريخية حول مجزرة كفر قاسم التي دبرّتها العسكرية الإسرائيلية وراح ضحيتها عشرات الفلسطينين من أبناء قرية كفر قاسم في 28 أكتوبر من العام 1956، وهو اليوم الذي سبق العدوان الثلاثي على مصر، كما يرصد الفيلم العشرة أيام التي سبقت تلك المجزرة والتي كان أهم حدث فيها خطاب الرئيس المصري الراحل الزعيم عبد الناصر والذي تضمّن موضوع تأميم قناة السويس، كما حاول الفيلم إظهار رد فعل أهل القرية على هذا القرار الذي تمكنوا من سماعه عبر المذياع الذي وصلهم حديثا – المذياع الذي سيكشف لاحقا زيف أجهزة الإعلام – في محاولة لكشف وجهتي النظر الشيوعية والناصرية من هذا الخطاب وانعكاسه على القضية الفلسطينية من وجهة نظر أهل القرية، وهو الفيلم الأول الذي يطرح القضية الفلسطينة كقضية قومية، وليست مجرد مشكلة داخلية، (فالوجود الصهيوني يضع الإنسان العربي في كل المنطقة أمام نفس المصير، وينفي تماما أن يكون هناك مصير للفلسطينين وآخر مخفف أو أفضل لباقي العرب) ([6]) .

فيلم "قمران وزيتونة"

ثم في العام 1976، أنتجت المؤسسة العامة للسينما فيلما بعنوان “الأبطال يولدون مرتين”  وكان من سيناريو وإخراج صلاح دهني عن قصة للكاتب علي زين الدين العابدين الحسيني بعنوان (سر البري)، وهو التجربة الإخراجية الوحيدة للمخرج، تدور أحداث الفيلم  حول الاحتلال الصهيوني في فلسطين ومقاومة الشعب، “وهو نموذج للأعمال الفنية التي تدغدغ المشاعر الوطنية وتستثمر جذوة الحماسة “([7]).وتدور أحداث الفيلم في مخيم فلسطين الموجود في قطاع غزة بعد أن وقع تحت الاحتلال الصهيوني، حول طفل وجدّه ومحاولات هذا الطفل البطولية لكي يصبح فدائيا، الفيلم يرصد الواقع الفلسطيني بشكل مباشر ويصور الحياة المريرة التي خلّفتها ممارسات الاحتلال.

ويناقش فيلم المخرج بشير صافية ، “الأحمر والأبيض والأسود” ، المرحلة التاريخية السابقة لحرب تشرين التحريرية، أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فيظهرذلك من خلال شخصية المرأة الأرملة، ومعاناتها التي تتقاسمها مع النازحين عقب نكسة 1967. “حيث اللاجئون الفلسطينيون والنازحون السوريون يتشاركون معاناة التشرد وينتظرون جميعا تلك اللحظة التي يستطيعون فيها العودة إلى الديار.”([8])

أما في مرحلة الثمانينات فظهر جيل “اعتبره الكثيرون جيل البداية الحقيقة للسينما السورية، درس معظمهم في دول اشتراكية كانت رائجة السمعة سينمائيا حينها، أمثال محمد ملص، سمير زكرى، عبد اللطيف عبد الحميد، ماهر كدو وغيرهم، تميز هذا الجيل من المخرجين بأسلوب تعاطيه مع القضايا ذات البعد السياسي (القضية الفلسطينية والجولان المحتل) “([9])  فمع بداية  العام 1980، يلتقط المخرج سمير زكرى العائد من الدراسة في معاهد السينما في الاتحاد السوفيتي حينها، قصة للكاتب صبري موسى تحمل عنوان ” حادثة النصف متر” لتكون محور فيلمه الأول الذي حمل نفس العنوان، وهو أول الأفلام التي تلامس القضية الفلسطينية فلسفيا وليس بشكل مادي مباشر، حيث بطل القصة وشخصيتها المحورية، رجل ينتمي إلى البيئة الدمشقية الشعبية من زمن الستينيات، يعمل في دائرة حكومية كموظف بسيط جدا، وتجمعه لاحقا علاقة بفتاة تصطحبه معها إلى مخيم الفلسطينين فيحضر جلسات النقاش المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني وضرورة الكفاح المسلح.

 ثم يأتي فيلم محمد ملص ابن القنيطرة “ أحلام المدينة 1983″ ، لتطلّ منه القضية الفلسطينية، “تارة كحجة للانقلابات العسكرية، وتارة ذيلا ختاميا للبيانات والشعارات ..”([10]). ويقدم عبد اللطيف عبد الحميد عدة أفلام تدور حول تداعيات القضية الفلسطينية على الشعب السوري، بدءا من فيلمه الروائي الطويل الأول “ليالي ابن آوى” ، (يقدم الفيلم بعضا من مفردات الواقع العربي منذ اغتصاب فلسطين .. وهي إشارات لما هو كامن في عمق الوجدان العربي ..، وهذه إحدى سمات السينما والواقع السوري، حيث تشكل القضية الفلسطينية الاهتمام اليومي في سوريا)([11]) مرورا بفيلمه “قمران وزيتونة”2001 ،الذي تدور أحداثة حول الآثار التي خلفتها حرب فلسطين1948على رب أسرة،  فحولته من رجل قوي وثوري  ومناضل إلى مجرد عاجز.  

وفي تسعينيات هذا القرن وفي ظل تراجع القطاع الخاص عن الإنتاج، تفردت المؤسسة العامة للسينما بالإنتاج السينمائي (وهي تنطلق من اعتباره نشاطا ثقافيا لا يخضع للشروط الإنتاجية)([12]). ولكن الملفت أنه في تلك المرحلة من الإنتاج غاب التعاطى مع الشأن الفلسطيني بشكل مباشر وبقيت آثاره فقط ، والسبب يعود إلى ” اختلاف البنى الروحية والمصالح الشخصية والمشاريع المستقبلية”([13])، كما في فيلم “الليل” لمحمد ملص 1992 وهو من إنتاج سينمائي مشترك ما بين المؤسسة العامة للسينما، والقناة السابعة الفرنسية، ومرام للسينما والتلفزيون (بيروت)، ويدور حول فكرة التطوع للذهاب إلى فلسطين والعودة بالهزيمة،  وأهدى محمد ملص فيلمه كما يذكر قيس الزبيدي في كتابه فلسطين في السينما، (للذين قاتلوا في سبيل فلسطين في كل الأزمان)، وفي هذا السياق يأتي اختياره للقنيطرة، عاصمة الجولان، المطلّة على فلسطين، مكاناً لأحداث الفيلم، وإيحاءاَ بوحدة المصير.  تتداخل أحداث الفيلم ما بين الماضي والحاضر، الذاكرة والواقع، حتى وصولها إلى سنة 1948 ونكبة فلسطين، في عمل سينمائي يمتاز بالجمال البالغ والحساسية المرهفة.

ماهر كدو أثناء تصوير "بوابة الجنة"

ثم بعد ذلك ينطلق غسان شميط في فيلمه الروائي الأول “شيء ما يحترق” 1993 من نكسة حزيران في محاولة منه لرصد مصير النازحين السوريين، ثم يحاول في فيلمه الثاني “الطحين الأسود” 2001 أن يجعل من فلسطين ملاذا للثوار وملجأ للمتمردين، وفي العام 1997، يقدم المخرج ريمون بطرس، فيلمه الثاني “الترحال” متخذا من العام 1948 تاريخ نكبة فلسطين وأحداثها، محورا لأحداث فيلمه الملحمي الذي أصبح لاحقا وثيقة سجلت لوصول اللاجئين الفلسطينين إلى مدينة حماه، واختار المخرج هذه المدينة دون غيرها  لأنه من مواطنيها، وصور عبر الفيلم الطريقة التي تم فيها استقبالهم من قبل سكان المدينة.

 ومنذ العام 2001 ، لم تتعرض السينما السورية للقضية الفلسطينية، إلى أن جاء فيلم ماهر كدو “بوابة الجنة” في العام 2009 ، ليخوض مرة أخرى وبشكل مباشر في القضية الفلسطينية، من خلال السيناريو   كتبه حسن سامي يوسف متناولا ملامح من المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، فيرصد الواقع الفلسطيني في الأشهر التي سبقت الإنتفاضة الأولى عام 1987 ، متطرّقا لعائلة من الضفة الغربية وانعكاس تلك الانتفاضة عليها، ورغم أن هذا الفيلم لم يلقَ الترحيب والصدى من قبل النقاد حين عرض، إلا أنه يسجل اهتمامه بصدى الانتفاضة والمقاومة والإحتلال.

فلسطين في السينما التسجيلية السورية

من منطق الأهمية الكبرى للأفلام التسجيلية في كونها مصدرا أساسيا من مصادر الذاكرة، اهتم العديد من المخرجين السوريين والعرب الذين شاءت الصدف أن يكونوا في دمشق، بتقديم صورة عن فلسطين والشعب الفلسطيني من خلال الأفلام التسجيلية، بداية من المخرج العراقي قيس الزبيدي، السوري الهوى الفلسطيني الانتماء، الذي كتب وأخرج فيلمين تسجيلين هامين، الأول بعنوان “بعيدا عن الوطن” في العام 1969 من إنتاج قسم السينما في التلفزيون العربي السوري، ويتخذ الفيلم من أطفال اللاجئين الفلسطينين منذ 1948 والنازحين السوريين منذ 1967 المبعدين عن الوطن قسريا مادة لفيلمه، فحياة هؤلاء الأطفال الذي يجمعهم مخيم”سبينه” الواقع قرب دمشق، مليئة بالآمال والطموح المستقبلية التي سيقدمها الفيلم.

أما فيلمه الثاني فكان حول “شهادة الأطفال الفلسطينين في زمن الحرب” حاول من خلاله أن يقدم القضية الفلسطينية مستخدما رسومات الأطفال الفلسطينين في مخيمات الأردن، ممن تعرّضوا للموت في أيلول 1970، ويحاول الفيلم عبر هؤلاء الأطفال ومن ثم رسوماتهم معرفة أحلامهم المستقبيلة وطموحاتهم في محاولة منه لتأكيد قيم الثورة وأهميتها.

وقدم المخرج مروان مؤذن  في العام 1970  فيلما بعنوان “عيد سعيد” تناول فيه موضوع اللاجئين الفلسطينين أثناء العيد في محاولة منه لكشف العذاب الذي يعيشه الفلسطينيون.

 كما اهتم قسم السينما في التلفزيون العربي السوري بشكل خاص بتقديم مجموعة من الأفلام التسجيلية عن فلسطين بمعاونة مؤسسة السينما، بدءا من فيلم خالد حمادة في العام 1969 “نعم عربية” وهو فيلم يخوض في مراحل تط��ر وتأسيس (إسرائيل) ونشوء القضية الفلسطينية، مستعينا لمادته التوثيقية بالصور والخرائط.  لحق هذا الفيلم في العام 1970 فيلمُ من إخراج العراقي فيصل الياسري بعنوان “نحن بخير” في هذا الفيلم حاول المخرج إلقاء الضوء على زيف الإعلام الصهيوني في الرسائل التي يبثها عن فلسطين والفلسطينيين، من خلال أحد برامج الإذاعة الإسرائيلية “رسائل المواطنين العرب إلى أهلهم وذويهم” وحاول مقارنه تلك الرسائل بالواقع الحقيقى من خلال فكرة اللعب على تناقض الصوت بالصورة، ولقد حاز الفيلم على مجموعة من الجوائز العربية والعالمية.

 

أما المخرج أمين البني فقد كان من أكثر المخرجين تطرقا للقضية الفلسطينية في أفلامه التسجيلية، بدءاَ من العام 1974 بفيلمه  “دروس في الحضارة “الذي حاول من خلاله كشف الوحشية الصهيونية، مرورا بفيلمه “اليوم الطويل” في العام 1977 الذي يرصد للاحتجاج الواسع النطاق الذي قام به الفلسطينون في 30 أذار 1976 ضد القمع  وضد المخطط الصهيوني لسرقة الأرض، ثم بفيلم “فلسطين في الجذور” في العام 1980، الذي يوثق  لمرحلة مهمة من تاريخ نضال الشعب الفلسطين، وانتهاء بفيلم “مذكرات فلسطينية” في العام 1991، الذي يتناول تاريخ الصراع العربي الصهيوني في فلسطين في الفترة الممتدة بين (1882-1939) ونضال  الشعب في الدفاع عن أرضه وحقوقه،  مستخدما الوثائق الأرشيفية.

بعد هذه النظرة السريعة إلى أبرز الأعمال السينمائية الروائية والتسجيلية التي اهتمت بالقضية الفلسطينية، يتأكد لنا أنه رغم الكم الإنتاجي السابق مازالت القضية الفلسطينية بحاجة إلى المزيد من جهد الكتّاب والروائيين وشهود العصر، لتغني الصورة السينمائية عن الألف كلمة حول فلسطين، ولتبقى شاهداَ عليها للأجيال القادمة.


[1] . حوار مع المخرج الفلسطيني فايق جراده ، عبر الواتس اب ، اغسطس 2016

[2] .جان إلكسان ، السينما في الوطن العربي ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت: المجلس الاعلى للثقافة ، 1982، ص 130

[3] . حسان ابو غنيممة ، فلسطين والعين السينمائية ، دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب ،1981، ص 142-143.

[4] . ديانا جبور ،القضايا القومية  في السينما السوريه ، القطاع العام نموذجا، دمشق: منشورات وزارة الثقافة ، المؤسسة العام للسينما، 1999، ص 19

[5] . هشتم النحاس ، الهوية القومية في السينما العربية ، القاهرة : سلسلة الالف كتاب ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1986، ص 93.

[6] . هاشم النحاس المرجع السابق ، ص 96

[7] .ديانا جبور ، مرجع سابق ، ص 51

[8] .بشار إبراهيم ، فلسطين في السينما العربية ، دمشق: منشورات وزارة الثقافة ، سلسلة الفن السابع، 2005، ص 110.

[9] . لمى طيارة ، المرأة في السينما الروائية السورية (1963مارس 2011)، رسالة ماجستير غير منشورة ، القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية ، 2013، ص 89-90.

[10] .بشار ابراهيم المرجع السابق،ص 113.

[11] . يشار ابراهيم  مرجع السابق، ص 116.

[12] . بندر عبد الحميد، ملف السينما السورية ، الاتحاد الثقافي، دمشق: 1999

[13] .ديانا جبور ، مرجع سابق، ص 76.

* ورقة عمل مقدمة في إطار الاحتفال بالسينما الفلسطينية في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط الدورة 32 ، وعنوان ورقة العمل القدس في السينما السورية .. لمى طيارة / ناقدة سينمائية


إعلان