“زي عود الكبريت” .. فيلم الوداع

 
رامي عبد الرازق
 
في عام 2014 رحل عن عالمنا الممثل والمنتج والمطرب والملحن المصري حسين الإمام بعد تجربة ثرية في الوسط الفني المصري استمدها من نشأته في بيت والده المخرج حسن الإمام (1919-1988) وممارسته لفنون التمثيل والغناء والتلحين والتوزيع الموسيقى بالإضافة إلى تقديم البرامج الخفيفة والمنوعات المختلفة.
 
كان حسين الإمام قد أنهى قبل رحيله تجربته الإخراجية الأولى – والأخيرة – (زي عود الكبريت) والتي عرضت بعد وفاته وذلك ضمن قسم أفلام عن السينما خلال فعاليات الدورة الثامنة والثلاثين لمهرجان القاهرة الدولي عام 2014 واعتبرت وقتها أنضج التجارب المصرية التي شهدتها العروض الأولى ضمن فعاليات المهرجان، لأنه باختصار فيلم صادق لا يدّعي أي شيء وفي نفس الوقت يحمل في طياته الكثير من الأسئلة حول السينما والفن والحياة.
 
وبعد مرور ما يقرب من عامين قرر ورثة حسين الإمام وهم المخرج الشاب يوسف الإمام صاحب التجارب الفيلمية القصيرة المميزة والممثلة سحر رامي زوجة الإمام عرض الفيلم تجاريا في نطاق محدود بالقاهرة للمرة الأولى – وذلك بالتعاون مع سينما زاوية – رغم أن التجربة تحتمل العرض التجاري الموسّع نظرا لما تتسّم به من طرافة وبساطة واستلهام لتجارب وسياقات شهيرة من تاريخ السينما المصرية الكلاسيكية.
 
في “زي عود الكبريت” يتخذ الإمام مؤلفا ومخرجا وممثلا ومنتجا من لون البارودي / المحاكاة الساخرة إطارا نوعيا ودراميا له، يشتبك من خلاله في جدلية ساخرة مع حقبة هامة من تاريخ السينما المصرية وهي حقبة الميلودراما الفاقعة الذي كان والده المخرج حسن الإمام أحد رموزها البارزين، متخذّا من الجملة الأيقونية الشهيرة للممثل المصري يوسف وهبي – أحد نجوم حقبة الميلودراما – (شرف البنت زي عود الكبريت ما يولعش غير مرة واحدة) قوسا مفتوحا ليعبئ في داخله قدرا كبيرا من اللحظات الطريفة التي تعيد إنتاج الوجود السينمائي عبر إحياء شخصيات من أفلام (أنا بنت مين 1950 وحب في الظلام 1953 والملاك الظالم 1954 والجسد 1955 وبنت من البنات 1968 وكلها من إخراج والده حسن الإمام) وكأنها شخصيات حيّة في واقعه الفيلمي الجديد، مركزا على التفاصيل والجُمل وطبيعة الأداء وعناصر اللون الميلودرامي الشهيرة التي شكلت حقبة بأكملها خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات وحتى أواخر الستينيات في السينما المصرية.
 
 
من المعروف أن المحاكاة الفيلمية الساخرة تعتمد على عدد من السياقات الكوميدية ضمن أساليبها، أشهرها إعادة تمثيل مشهد من فيلم ميلودرامي أو تراجيدي بشكل طريف عبثي، ومنها إعادة تقديم تيمة فيلمية كاملة في قالب ساخر (مثل تجارب “أخطر رجل في العالم” و”عودة أخطر رجل في العالم” و”العتبة جزاز” التي قدّمها فؤاد المهندس وشويكار في محاكاة ساخرة لأفلام جيمس بوند الشهيرة خلال سنوات الستينيات وتجارب “طير إنت” و”لا تراجع ولا استسلام” التي قدمها أحمد مكي والمخرج أحمد الجندي في سنوات الألفية الجديدة في محاكاة ساخرة لأفلام كلاسيكية مصرية وأجنبية).
كذلك من ضمن عناصر المحاكاة الساخرة استخدام مشاهد من الأفلام الكلاسيكية أو حتى الأفلام الشهيرة واقتطاع لقطات وجمل حوارية وسياقات درامية وإعادة توليفها مونتاجيا وتضفيرها مع مشاهد حية جديدة وجمل حوارية في ديالوجات متخيلة مما يفرز سياقا جديدا تماما ومختلفا وربما مناقضا للسياق الأصلي للفيلم أو الأفلام التي يتم التعامل معها داخل تجربة المحاكاة الساخرة.
وغالبا ما تأتي المحاكاة الساخرة في نطاق ذهني يهدف إلى إعادة التفكير أو التعاطي ذهنيا مع التجارب الكلاسيكية الراسخة والثابتة سينمائيا في وجدان المتلقي والتي أصبح يتقبلها كما هي دون أن يعيد التفكير في أسباب هذا التقبل أو مدى قوة أو ضعف تلك التجارب وأسباب شغفه بها أو نفوره منها.
 
وعادة ما تكون أفلام المحاكاة الساخرة التي تعتمد على أسلوب الكولاج السينمائي – أي اقتطاع وتجميع مشاهد ولقطات من أفلام سابقة – أفلام ذات ميزانيات منخفضة وديكورات رخيصة وملابس غريبة نسبيا وأسلوب أداء مبالغ فيه ومفتعل يحاكي بشكل ساخر أساليب الأداء الخاصة باللون الدرامي الذي يسخر منه، فلو أنه يسخر من أفلام الرعب (مثل سلسلة scary movie “فيلم رعب” الأمريكية الشهيرة التي تسخر من أفلام الرعب المعروفة مثل “هالوين” و”أنا أعرف ما فعلت الصيف الماضي”) نجد أن أداء الممثلين يصل إلى تخوم الكاريكاتورية في إعادة تقديم مشاهد الرعب من تلك الأفلام، وبالمثل في “زي عود الكبريت” حيث يقدم حسين الإمام وسحر رامي واثنان من الممثلين المساعدين أداء يبالغ في ميلودراميته بافتعال شديد وذلك في محاكاة كاريكاتورية لأداء الممثلين في أفلام الحقبة الميلودرامية، بالإضافة إلى استخدام الأسماء المعروفة في أفلام تلك الحقبة أو الخدع المونتاجية الساذجة والرخيصة مثل خدعة ظهور السيجارة المفاجئ في يد بطل الفيلم حسين الإمام من خلال مونتاج قافز ومفضوح لكنه طريف وموظف ضمن سياق الفيلم الساخر.
 
أضف إلى هذا أن أفلام الكولاج السينمائي غالبا ما تعتمد على عناصر تمثيلية حية قليلة بينما تصبح المساحة الأكبر للشخصيات الفيلمية المأخوذة والمقتطعة من سياقات أفلام أخرى ويبدو أن الإمام قد درس بشكل جيد هذا النوع قبل تصدّيه لتقديم تجربته الإخراجية الأولى، حيث إنه في مقابل أربعة ممثلين فقط يقدمون أدوارا حية في الفيلم ثمة ما يقرب من 21 شخصية أخرى من الأفلام الكلاسيكية التي تمت الاستعانة بمشاهدها على رأسهم هند رستم من فيلم “الجسد” وفاتن حمامة وعماد حمدي في “الملاك الظالم” و”حب في الظلام” وماجدة الخطيب في “بنت من البنات” وليلى فوزي في “أنا بنت مين” وحتى الأدوار الثانوية أو الثانية فتم إسنادها أو بمعنى أدق الاستعانة بشخصيات فيلمية أخرى من نفس الأفلام، أو أفلام أخرى مثل حسين رياض وسراج منير وسمير صبري، بل إنه حتى عندما أراد أن يستخدم مشهد ريليف (تخفيف من حدة الصراع) اختار مشهدا قديما لنور الشريف في بداياته المبكرة جدا وهو يغني بصوته ويتراقص بمرح في أحد الأفلام التي كان يظهر فيها كوجه جديد.
 
 
إن حسين الإمام يسخر ولكنها سخرية حكيمة تعيد اكتشاف عناصر وأسباب توطن السياقات الميلودرامية في وجدان وذاكرة المتلقي المصري والعربي رغم كل ما فيها من عيوب وسطحية وركاكة وتكرار، أنه يحطم أيقونات الخير المطلق التي رسخّتها تلك الأفلام مثل الممثلين عماد حمدي وفاتن حمامة وحسين رياض أصحاب اشهر أدوار الخير الأبيض ويعيد إنتاجها في سياق سينمائي آخر، كأنها شخصيات خطيرة تنتمي إلى معسكر الشر الأسود وذلك باقتطاع الجمل الحوارية  واللقطات والمشاهد من سياقاتها الأصلية في أفلامهم التي سبق وذكرناها، ثم إعادة توليفها مونتاجيا في سياق فيلمه الجديد وهو ما خلق مساحة من الطرافة والعمق الحقيقي فعلى سبيل المثال يعيد تقديم اللازمة الشهيرة لعماد حمدي في تلك المرحلة وهي كلمة (يا نينه) أي ( يا والدتي) والتي كان ينادي بها عماد حمدي أمينة رزق في دور والدته وذلك في إطار جديد ساخر، يجعل من عماد حمدي قاتلا مأجورا يقوم بطل الفيلم الجديد حسين الإمام في شخصية وحيد – وهو أحد أشهر الأسماء في تاريخ الأفلام الكلاسيكية المصرية وتقريبا لا يوجد ممثل مصري في العصر الذهبي لهذه السينما لم يقدم شخصية باسم وحيد في أحد أفلامه – تقوم شخصية وحيد بتكليف القاتل عماد حمدي بقتل ليلى / فاتن حمامة عن طريق دفع تكاليف عملية القتل لوالدة عماد حمدي التي هي أمينة رزق في فيلم “حب في الظلام” والتي كان حمدي يناديها دوما (يا نينه) وبالتالي تتحول تلك الشخصيات من شكلها الكلاسيكي التقليدي إلى نقيضها الساخر العبثي في سياق فيلم الإمام الجديد.  
 
وفي نفس الوقت يتخذ الإمام من إعادة تقديم بعض المشاهد من أفلام تلك المرحلة فرصة واسعة لنقد الذات السينمائية فمثلا نجده يعيد عرض مشهد مشاجرة عنيفة بين كمال الشناوي وفاخر فاخر من أحد الأفلام دون أن يسقط طربوش فاخر فاخر رغم كل العنف الجسدي بين الاثنين، بينما يُبرز الإمام هذه الملاحظة عبر التعليق الصوتي على المشهد في شكل حوار مركب مونتاجيا على المشهد على لسان كمال الشناوي وكأن كل هدفه أن يسقط الطربوش من فوق رأس فاخر فاخر، ما يلفت نظر المتفرج الذي ربما شاهد هذا المشهد كثيرا إلى تفصيلة ثبات الطربوش بشكل غريب وغير منطقي فوق رأس فاخر فاخر رغم كل السياق العنيف للمشاجرة مع كمال الشناوي.
 
هذا النوع من النقد الذاتي عبر السخرية يعتبر في مستوى من مستويات الفيلم إعادءة قراءة لحقبة تعتبر عقود الميلودراما هي المرحلة الذهبية في السينما المصرية كصناعة فنية متكاملة وذات تأثير اجتماعي وسياسي ووجداني في الشرق الأوسط بأكمله.
 
يمكن القول إن “زي عود الكبريت” بالتفاصيل الجديدة المنتجة من مواد فيلمية كلاسيكية يؤكد على أن قوة هذه الأفلام لم تكن في ميلودراميتها ولكن لأنها تشبه شعورنا تجاه الحياة التي هي مثل (عود الكبريت) لو اشتعلت مرة فلن تشتعل ثانية ولذلك يجب أن نعيشها حتى الثمالة وأن نستمتع بها ونضحك على أحزانها وأنساقها الشريرة لأنها في النهاية لا تساوي الكثير، وما يبقى منها هو لحظات السعادة والفرح والضحك، وهو ما يجعلنا نشعر أن هذا الفيلم كان بحق هو فيلم الوادع الذي قدّمه هذا الفنان الراحل كنصيحة لكل من يعيشون الحياة بميلودرامية سينمائية بينما هي لا تستحق كل هذا العناء والأسى. 
 
 

إعلان