السينما الوثائقية المستقلة.. تيمة الصحراء
حمادي كيروم
“يلزمنا الفن حتى لا نموت بالحقيقة ” نيتشه
“إذا كان منهج الحقيقة هو العلم ، فإن منهج الجمال هو الولع ” بومكارتن
استطاعت السينما المغربية أن تفرض نفسها، خلال بداية هذا القرن، على مستوى الإنتاج وعلى مستوى الجودة. وقد تحقق هذا الامتياز بسبب سياسة الدولة في دعم الإنتاج السينمائي الوطني، من خلال وضع صندوق مالي، تشرف عليه لجنة مستقلة، مكونة من مثقفين وحرفيين في الميدان السينمائي والسمعي البصري. وقد أدت هذه السياسة إلى إنتاج أكثر من مائة فيلم قصير، وما يقارب خمسة وعشرين فيلما طويلا في السنة.
وإذا كان الفيلم التخييلي الروائي، قد وجد في الدولة سندا ماليا وتجاريا، لإنتاجه وتوزيعه وترويجه، فإن الفيلم الوثائقي ظل خارج هذا الاهتمام، ولم يستفد من الدعم الذي استفاد منه صنوه الفيلم الروائي، لأسباب تزعم وتدعي أن الجمهور لا يستجيب لعرض هذا النوع من الأفلام.
ولتجاوز هذا النقص، ولتصحيح هذا الخلل، الذي لا زال يطغى على عقلية المسؤولين الرسميين في قطاع الإنتاج السينمائي الوطني، قرر مجموعة من المثقفين برئاسة المخرج السينمائي حكيم بلعباس، أستاذ كرسي السينما بجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية، أن يخوضوا تجربة الإنتاج المستقل لمجموعة من الأفلام الوثائقية.

ميلاد فكرة
كانت فكرة “الإنتاج بالمصاحبة ” تتطلب إرادة قوية من أجل إعداد الظروف المادية والأدبية، التي تمكن مجموعة من المخرجين الشباب، أن يدخلوا في الفعل الإبداعي، لمدة سنة، تحت تأطير مجموعة من الحرفيين المغاربة والأجانب، وقع اختيار المكان، على مدينة العيون بجنوب المغرب. انطلق المشروع سنة 2015 بدرس تحسيسي حول السينما الوثائقية، أثبت فيه المخرج حكيم بلعباس، أن الكتابة السينمائية المعاصرة حطمت الحواجز التجنيسية، التي كانت تفصل بين نوعية الأفلام، وأن عملية الحكي هي الأصل، وأن ما يميز بين الأفلام هو ابداعية طريقة الحكي.
ركز المخرج بلعباس على نظرية الكاتب والسيناريست الإيطالي زفاتيني صاحب سيناريو فيلم “سارق الدراجة “، الذي أخرجه فيتوري دو سيكا، مؤسس مدرسة الواقعية الإيطالية الجديدة، التي تقول: “ليس المهم أن تخترع قصة تشبه الواقع، لكن الأهم هو أن تحكي الواقع كأنه قصة”.
انطلقت ورش البحث عن الفكرة، التي استمر العمل عليها لمدة ثلاثة أشهر، تحت فلسفة ومناخ ملاحظة الواقع، التي تفرض على المخرج تتبع الحياة اليومية للناس وللأمكنة والأشياء، من زاوية عين المصور، وتحديد زاوية النظر، التي تفرض على السينمائي الشاب، أن يختار زاوية المعالجة الكتابية، للذهاب مباشرة إلى جوهر الفكرة، وتجاوز الانشائيات المبتذلة، التي فرضتها الوسائل السمعية البصرية من خلال التدفق التلفزيوني، وأن يجعل بينه وبين موضوعه، ملكات الحدس والذهن والخيال، التي هي مقومات التجربة الابداعية التي تقرب الذات من الموضوع، وتخلع عنها عباءة الحياد وبرودة الربورتاج الرسمي.
ورشات الكتابة
استمرت ورشات الكتابة، لمدة ثلاثة اشهر، بمصاحبة المخرج حكيم بلعباس والمنتج والمخرج الأمريكي ضأن سميث، وأستاذ جماليات السينما حمادي كيروم. وقد وقع الاختيار على موضوع الصحراء، كتيمة للملاحظة والتأمل والتفكير، وبالتالي للكتابة، وقد تبين خلال هذه السيرورة الابداعية، أن تيمة الصحراء، تتميز بالكثافة والفيض والنور والميثولوجيا الروحانية. ولخلق القدرة الرصدية والاستقبالية، عند المخرجين الشباب، لتمثل هذه الأبعاد، وقع الاختيار على شعر الهايكو، باعتبار أن الشعر أقرب إلى السينما، وأن الهايكو يستطيع بكثافته، أن يقبض على اللحظات المشعة في المكان والزمان. وقد خلق مناخ شعر الهايكو عند المخرجين الشباب، قيم إجرائية عملية، تعتمد على أقانيم أربعة هي: البساطة، الدقة، الذكاء، دفق الخيال.
كان اختيار المواضيع فرديا وشخصيا، وكان بناء كل موضوع ورسم خطاطة المعالجة جماعيا، وكانت نتيجة ورش الكتابة إثنى عشر مشروعا معنونة كالتالي:
امشقب لمليكة ماء العينين، طان طان لسعداني ماء العينين، امحيريش لأمينة هنيا، وتستمر الحياة لأحمد بجيجة، كلكم راع لنجيب منير، شور لعمر ميارة، جوف الغرد لسالم بلال، صدى الصوت لمحمد فاضل الجماني، البني ملك الألوان لزين العابدين النفلالي، شموخ لنجيب أسد، سفر ووتر لمحمد فاضل ماء العينين، المرأة لرشيد الزعري.

مرحلة التصوير
وقع الاختيار لتصوير الأفلام، على مدينة العيون والسمارة وكلميم وسيدي إفني والدشيرة، وهي أمكنة لها خصوصيتها ورمزيتها في المخيال الصحراوي.
انقسمت المجموعة، إلى أربعة فرق تقنية، مكونة من المخرج ومدير التصوير ومهندس الصوت. استعمل كل فريق أدوات تقنية خفيفة ومتطورة الجودة، من أجل تسهيل عملية التصوير والتقليل من الفريق الفني والتقني، من أجل اقتصاد الوقت والجهد والمال، معتمدين في ذلك تقنية “الربورتور الصحفي”، الذي يقوم بمهام كثيرة في نفس الوقت، وهي تقنية جديدة يمكن أن نطلق عليها تسمية cinéma guérilla التي غالبا ما تستعمل في أوقات الحروب والكوارث، وتخلق دينامية مهنية دقيقة ومستعجلة.
كان القصد من وراء هذه الظاهرة الانتاجية الناجعة، تجاوز العائق الانتاجي الذي يقف أمام كثير من الشباب ويعطل مشاريعهم ويمنعها من الخروج إلى الجمهور، يتكون الفريق التقني من: مديري التصوير، أمين المساعدي من تونس، أبي براش وارين تورني وأنييس سارسويسكي من الولايات المتحدة الامريكية.
مهندسي الصوت: سمير ملوك من الولايات المتحدة ومن المغرب حمزة عبيبو، الكوري سهيل والوافي أحمد طنطاوي.
الموضبين: نادية التويجر من تونس، هايلي بنتروك وأرين تورني من الولايات المتحدة.
ما بعد الإنتاج: بيتر كوهن من السويد، وهو بالمناسبة الرفيق الفني للمخرج السويدي المعروف روي أندرسون، صاحب الفيلم التحفة ” حمامة فوق غصن شجرة تتامل هذا الوجود “.
مرحلة المونتاج
بعد ثلاثة أسابيع من التصوير، تعلم فيها المخرجون الشباب كيف يقبضون على اللامرئي، الذي هو أصل السينما وجوهرها ومعناها، وكيف يدخلونه داخل الكادر – الاطار ، قدم حكيم بلعباس درسا تحسيسيا حول المونتاج، باعتباره الكتابة الثالثة والأخيرة للفيلم، وهي مرحلة حاسمة في حياة الفيلم وتحديد مصيره.
وقد استمرت عملية المونتاج، ثلاثة أسابيع، تخللتها دروس نظرية تساعد المخرجين الطلبة على فك بعض المعضلات المرتبطة بالاختيارات الفنية والجمالية، من حيث كثافة اللقطات وطولها وقصرها وسرعتها وبطؤها، والتقديم والتأخير، والفواصل والروابط، من أجل خلق إيقاع منسجم وهارموني، يناسب موضوع الفيلم، وقد مرت بعض الأفلام بأكثر من خمسة صيغ ومحاولات تركيبية، كانت تعرض على الجميع لمناقشتها، قبل أن تستقر على الصيغة الأخيرة المتفق عليها.
أكد حكيم بلعباس للطلبة أثناء هذه المرحلة، أن التفكير في المونتاج يبدأ منذ كتابة السيناريو، ويستمر هذا التصور ويتقوى في مرحلة التصوير، لأن السينمائي الحقيقي يكون في الأصل مسكونا بصور تبحث عن الخروج إلى الوجود، وهو بذالك يرعاها بواسطة وسيلة التعبير، التي هي الصورة السينمائية، التي لا تحرص فقط على أن تفهم، ولكنها تحرص كذلك على أن لا تفهم، لأنها تخلق نوعا من الانزياح بين الذات والواقع الاعتيادي، من أجل تكسير اليقينيات المطمئنة، وخلق دينامية البحث المستمر عن الحقائق الثانوية في ثنايا الأشياء، وفي أعماق الأشخاص.
قليل من المال، كثير من الإرادة الابداعية
حققت هذه التجربة النادرة، ما لم تستطع الدولة بكل مؤسساتها أن تحققه للشباب، لأن هذه المبادرة الخلاقة، وضعت في الشباب المبدع كل الثقة التي يحتاجها ويستحقها، كما أتاحت له أن يلملم كرامته المندورة أمام المؤسسات، التي تزهو بالسلوكات الفولكلورية، التي تطبل للخطابات الادعائية المذرة للغبار في العيون والتي تبني ديماغوجية الأوهام لإطالة حبل الكذب والتسويف والانتظار، فقليل من المال، وكثير من الارادة الإبداعية، كاف لكي يتمكن الشباب من تحقيق طموحاته، واسترداد كرامته، وشق طريقه نحو المستقبل.