“زهرة حلب”: بين الحياة والموت

ملصق فيلم "زهرة حلب"

صالح محمد سويسي

“كنت أنتظر نهاية مثل هذه، ولكنّني استمتعت بها جدّا وكأنني لم أنتظرها” هكذا همس صديقي الذي تابع معي عرض شريط “زهرة حلب” للمخرج التونسي رضا الباهي.

شخصيّا ووفق التمشّي العام لسناريو الفيلم كنت أيضا أنتظر ذات النهاية أو ما شابه، ذلك أنّ طبيعة الأعمال التي تعالج قضايا آنية لا تحيد كثيرا عن الواقع ولو حاول صنّاعها إيهام المتلقّي بالقطع مع الواقع وعدم تكريسه في مفاصل العمل بضخّه ببعض المقاطع الغارقة في خيال باذخ.

وقد تكون نهاية الشريط فرضت نفسها على المخرج وهو صاحب النص والسيناريو، وقد يكون هو من أراده كذلك، وفي كلا الحالتين كانت نهاية صادمة بل قاتلة.

أذكر أنه خلال حوار لي مع المخرج والمنتج التونسي رضا الباهي للجزيرة الوثائقية والذي نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2011 قال لي حرفيا “الفيلم الثاني إنتاج تونسي لبناني مشترك لم نحسم في عنوانه بعد، ربما يكون “مدى” أو “زهرة من حلب” وسيجمع عددا كبيرا من الممثلين وسيحمل أيضا مفاجأة سارة جدا، وقريبا سوف نعلن عن تفاصيل الفيلم من خلال ندوة صحفية تعقد في تونس..”

ويبدو أنّ المفاجأة الحقيقية في هذا الشريط تمثّلت في الحضور الجميل والواعد لباديس الباهي الذي جسّد دور الشاب المفعم بالحياة والمقبل عليها بحب ورغبة كبيرة تتظافر عوامل عدّة على تحوّله لإرهابي.

المخرج التونسي رضا الباهي و إبنه الممثل الشاب باديس الباهي والذي يجسد البطولة

الشريط كان موغلا في سياق من الرتابة التي قد تبدو مملّة لكنّ ذلك الظنّ سيذهب أدراجه بمجرد مرور نصف ساعة أو أزيد قليلا ليتبيّن المتلقّي أنّ تلك الرتابة ما هي إلاّ من صميم العمل، حيث يتناول الفيلم قضية هامة وحسّاسة جدا، بلورها سيناريو اِعتمد الحزن تيمة أساسيّة له، حزنٌ عميقٌ ربّما أملته تلك التفاصيل الدقيقة التي ركّز عليها الباهي كمخرج يعي جيّدا ما يريد وما يحبّ إيصاله للمتلقّي.

بالنظر إلى المساحة الزمنية التي أفردها المخرج لتقديم المبرّرات أو الأسباب التي جعلت حياة شاب تونسي مقبل على الحياة عاشق للفنّ تنقلب رأسا على عقب ليصبح شابّا مكتئبا يسكنه الحزن ويلفّ خطواته الضياع ليسأمّ من الحياة ويبدأ رحلة البحث عن الخلاص وسط المشاكل العائلية وانفصال والده عن والدته وانخراط كلّ منهما في شؤونه الخاصة وأعماله، لتتلقّفه أيادي المتمرّسين في اِستغلال مثل هذه الحالات التي تمثّل تربة خصبة لزرع أفكارهم وتحقيق أهدافهم. 

كان بإمكان المخرج مثلا أن يركّز أكثر ويعطي حيّزا زمنيّا أكبر للأحداث في سوريا وقبلها لمرحلة المرور من تونس نحو الحدود التركية السورية والدور التركي في عبور “المجاهدين” والذي لم يشغل المخرج كثيرا على ما يبدو أو أنّه اعتبره مجرد ممرّ لما هو أهم رغم أنّه لم يخفِ اِتهامه المباشر والواضح لسوريا كاشفا ولو من خلال مقطع واحد لدورها في عبور الإرهابيين.

رحلة البحث/ رحلة الموت

في الأثناء يتمّ إعداد الشاب بسرعة كبيرة ليصبح خامة جاهزة للسفر كخطوة أولى ثمّ للقتال إلى جانب إحدى الجماعات المسلّحة، تبحث الأم عن ابنها الذي ترك هاتفه وأشياءه واختفى ولتعلم فيما بعد حين اتصل بها أنّه في سوريا.

قرر الممثل "باديس الباهي" الالتحاق بصفوف “داعش” بعد أن كان شابًا عاديًا يهوى الموسيقى، ويرتبط بعلاقة حب مع فتاة من سنه

تحاول الأم الخروج من بوتقة الصدمة وتقرّر أن تسافر للبحث عن وحيدها والعودة به إلى تونس، وتعمل جاهدة من أجل تنفيذ قراراه وتنجح وهي التي تعمل مسعفة طبيّة وتقنع الشيخ بأنّ بها رغبة في مساعدة المجاهدين وتسافر..

قد يشعر المتلقّي أنّه أمام معالجة سطحية وساذجة ربّما، فكيف اِستطاعت بكل تلك السهولة اختراق تلك الجماعة والوصول لشيخها الذي يسّر لها السفر والالتحاق بالمقاتلين وفي وقت قياسي !!

دخول الأم لسوريا واِلتحاقها بالجماعات الجهادية هناك بدا سهلا ولم يتطلّب منها سوى تقديم نفسها على أنّها ترغبُ في الالتحاق بالمجاهدين للمساعدة بما تستطيع حيث يمكنها أن تقدم خدمات علاجية تحتاجها تلك المجموعات.

تدخل الأم وتلتحق بإحدى الجماعات وتأتيها الفرصة لتكون في الخطوط الأولى ولتكون أقرب من ابنها، لكنّها تقع أسيرة إحدى الجماعات الأخرى والتي يقوم أفرادها باغتصابها تباعا في مشهد سينمائي أبدعت فيه هند صبري من خلال ملامح وجهها التي أضفت مسحة من الحزن والألم والهوان والمرارة في آن..

تستطيع الأم وفي لحظة خاطفة أن تختطف سلاح كان قريبا منها وتختطف به  أرواح مغتصبيها لترتدي لباس أحدهم وتنطلق من جديد للبحث عن ابنها الذي جاء وقتها رفقة آخرين لتخليصها من الأسر بأمر من أميرهم، وبما أنّها كانت ترتدي لباس مغتصبها فقد جاءتها رصاصة الموت من سلاح وحيدها الذي ظنّ أنّها عدو، ليكتشف حين همّ بكشف وجهها أنّها أمّه..

هند صبري بدور “الأم سلمى” / لقطة من الفيلم

جمالية الأداء..

“زهرة حلب” أكد مرة أخرى أنّ هند صبري لم تكن وليدة الصدفة ولم تكن يوما مجرد وجه جميل جيء به للسينما، بل هي ممثّلة بارعة وأكدت ذلك في كل أدوارها تقريبا، وفي هذا الشريط كانت مبدعة وبشكل لافت إلى جانب الموهبة الشابة باديس الباهي، فضلا عن الأداء اللافت للممثل التونسي محمد علي بن جمعة الذي جسّد دور شيخ الجماعة في تونس حيث قطع مع الأدوار النمطية التي تعوّدها الجمهور التونسي وبدا في حلّة جديدة أبرزت طاقاته التمثيلية وتمكّنه من تقمّص دور يتطلّب الكثير من الجهد وخاصة على مستوى تعابير الوجه (الصرامة والعنف والقسوة…).

وبالعودة إلى هند صبري التي يكفي أن نذكر لها لقطتين أو ثلاثا ليتبيّن لنا قيمة هذه الممثلة وقدرتها الرهيبة على التعاطي مع الأدوار المركبة، اللقطة الأولى حين أبلغها ابنها مراد أنّه التحق بالجماعات المقاتلة في سوريا أين نطقت تعابير الوجه وارتعاش اليدين فضلا عن الحركة المتسارعة لكامل الجسد ذهابا وجيئة في ذات المربّع أو المساحة الصغيرة، حركة متسارعة ومتكررة في حيّز مكاني ضيّق تبرز قوة الصدمة التي لحقت بقلب أم لم تتصوّر ولو للحظة أن يتحوّل ابنها العاشق للحياة والفن لكاره لكل ما هو جميل ويُلقي بنفسه وبقلب أمه في نار الاقتتال الذي لا ناقة له فيه ولا جمل.

ثمّة موقف آخر أثبتت فيه هند حرفية رهيبة وذلك لقطة الاغتصاب الجماعي من طرف “داعش” حين سقطت أسيرة، لم تصرخ ولم تقاوم بل كانت تلك النظرة التي حملت كمّا من الألم والحزن والانهزام المعنوي والإنساني التي لمعت في عينيها الذابلتين كافية ليحسّ المتلقّي أنّه أمام مأساة طالما تكرّرت في تلك البؤر.

“زهرة حلب” عمل سينمائي جديد لمخرج راهن على الكيف قبل الكمّ، مخرج مُقلٌّ من حيث عدد الأفلام التي يقدّمها لكنّه يشتغل جيّدا على التفاصيل.


إعلان