انطباعات عن إدفا 2016

(IDFA) المهرجان الدولي للفيلم التسجيلي في أمستردام

شريف فتحي

 327 فيلماً في 18 صالة عرض على مدار 12 يوما، إضافة إلى منتدى للإنتاج وورشة لصناع الأف��ام و برنامج خاص حضره عشرة آلاف من طلبة مدارس أمستردام و فعاليات أخرى، هذا هو مهرجان إدفا، أهم تظاهرة للفيلم التسجيلي عالمياً، أفلامه التي تمثل بانوراما لأحلام و آمال و آلام العالم حظيت بزخم الوجود العربي، ليس عبر أفلام عربية الإنتاج بل عبر  مآسي الحروب واللاجئين في سوريا والعراق تحديداً والتي كانت موضوعات لأفلام العشرات من المخرجين غير العرب ومنها الفيلم النرويجي/السويدي الذي فاز بجائزة أفضل فيلم طويل Nowhere to Hide للمخرج الكردي/النرويجي زارداشات أحمد.

وقد تشكلت بعد مشاهداتي وحضوري مهرجان هذا العام عدة انطباعات أوجزها فيما يلي:

أولا: كانت الأفلام عربية الإنتاج أربعة فقط، كلها خارج المسابقة وحاصلة على منح من IDFA Bertha fund وهي نسبة ضئيلة للغاية مقارنة بعشرة أفلام إسرائيلية على سبيل المثال.

وهذه الأفلام هي:

-زينب تكره الثلج للتونسية كوثر بن هنية مخرجة الروائي الطويل شلاط تونس 2013.

"زينب تكره الثلج"

– سيارة الإسعاف .للفلسطيني الشاب المقيم بالنرويج محمد جبالي 

"سيارة الإسعاف" فيلم يتتبع طاقم إسعاف على مدار 51 يوم للعدوان الإسرائيلي على غزة

-نهايات سعيدة للمصريين أيمن الأمير و ندى رضوان. 

-بلد مين للمصري محمد صيام الذي كان العربي الوحيد المشارك في منتدى الإنتاج بفيلمه “كل شيء عن آمال” و المدعوم أيضاً من إدفا 2016.

كما كانت العربية الوحيدة المشاركة في ورشة إدفا أكاديمي من بين 80 مشاركا هي المخرجة السودانية الواعدة (المصرية الدراسة والإقامة)  مروة زين و التي سيعرض فيملها الروائي القصير “أسبوع و يومان” في مهرجان دبي 2016 كما يفترض أن تنهي في 2017 فيلمها التسجيلي الطويل “على جانبي الخرطوم” المدعوم أيضاً من إدفا 2016.

المخرجة مروة زين

أما المبادرة العربية الأكثر ذكاء ً فكانت مبادرة مجموعة منتجين فلسطينيين كونوا رابطة بتنسيق مهند يعقوبي وبالتعاون مع الصندوق العربي للثقافة والفنون آفاق، اخترقوا حصار لجنة اختيار أفلام منتدى الإنتاج و أقاموا على هامشه،ـ بالتنسيق مع إدارة المنتدى ـ لقاءات جمعتهم بمنتجين غربيين بهدف دفع الإنتاج المشترك و تسويق أفلامهم المدعومة من آفاق و هي مبادرة أتمنى أن نرى في الأعوام القادمة مثيلاتها من الدول و المؤسسات العربية خاصة القنوات المنتجة للفيلم التسجيلي.

الانطباع الثاني: بين الصدق والكذب

أما الانطباع الثاني فهو عن الفيلمين المصريين و كلاهما لمخرجين شابين ونبدأ بفيلم “بلد مين؟ ”لمحمد صيام و هو إنتاج مصري/فرنسي/أمريكي مشترك ( 58 دقيقة) سبق عرضه في مهرجانات Hot Docs و كارلو فيفاري و نيويورك و غيرها. الفيلم يدور حول تجاوزات الشرطة المصرية وعلاقتها بالمواطن عبر قصة أمين شرطة ممن كانوا مفصولين من عملهم حتى قاموا بمظاهرات مطالبين بعودتهم للعمل منتهزين أجواء ثورة يناير 2011 . الأمين لا يقول إنه كان مفصولاً بل استقال اعتراضاً على سوء معاملته من قبل رؤسائه وعلى ممارسات الشرطة إجمالاً ثم عاد بعد الثورة آملاً في التغيير. من المفهوم أن تكذب الشخصية لتجمل حالها ولكن غير المفهوم هو أن المخرج الذي يعلق على الفيلم بصوته لم يصحح هذه المعلومة !!!  إضافة إلى حتمية الصدق في الفيلم التسجيلي فإنني أعتقد أن تصحيح تلك المعلومة كان سيفيد ما يشير إليه المخرج في النهاية على أنه تحول في توجهات الشخصية، فالفيلم يستمر حتى عام 2015 عندما يؤكد المخرج عبر التعليق أن الأمين غير وجهة نظره وأصبح نصيراً لسطوة الشرطة، في الفيلم لم يقل الأمين هذا بل قال إن المجتمع أدرك بعد الانفلات الأمني أنه لا غنى عن جهاز الشرطة بكل سلبياته لضمان الأمن.

التغاضي عن كذب الشخصية وتفسير أفكارها بشكل ملتو لتتوافق مع رسالة أراد المخرج أن يحملها فيلمه هو تزوير يستغل جهل الجمهور الغربي باللغة العربية وبتفاصيل الأحداث المصرية.  ربما لهذا السبب سأل المخرج الجمهور في الندوة إن كان بينهم من يعرف اللغة العربية؟ ربما أراد أن يطمئن أن أحدهم لم يلتقط تلاعبه بكلام الشخصية؟  كان يمكن للمخرج ببساطة أن يحافظ على صدق فيلمه وأن يقول ما يريد عبر التعليق الذي يحمل وجهة نظره. خبرة صيام عبر عمله كمساعد مخرج في الأفلام الروائية جعت بناء فيلمه متماسكا ــ بغض النظر عن عدم الصدق – وجيدا تقنياً كما جاءت اعترافات الأمين وأصدقائه بحصولهم على إتاوات من المواطنين و ضرب المحتجزين و القبض على أبرياء و هي معلومات ليست جديدة على المشاهد المصري و ربما العربي، جاءت مثيرة جداً للمشاهد الغربي. بالرغم من ذلك و بالرغم من لجوء صيام إلى إضافة العنصر الإنساني على فيلمه عبر التعليق بصوته و من منظور شخصي كشاب تربى على الخوف من الشرطة مع أن والده الراحل كان يعمل في جهاز أمني لمكافحة الفساد و بالرغم من مشاهد الأمين (بطل الفيلم) و هو يلاعب طفلته إلا أن الفيلم جاء بارداً، ربما لهذا السبب كانت الصالة ربع ممتلئة في العرض الذي تلته الندوة الموسعة مع المخرج ـ يعد أهم العروض الخمسة المخصصة للفيلم ـ طرحت فيها القليل من الأسئلة حول الفيلم ذاته و الكثير حول الخوف من الأجهزة الأمنية في مصر .

الفيلم المصري الثاني “نهايات سعيدة” (71 دقيقة، إنتاج مصري)

"نهايات سعيدة"

على العكس تماماً من فيلم بلد مين، جاء “نهايات سعيدة” لـ  أيمن الأمير و ندى رضوان فقد امتلأت الصالة في العرض الأول الذي أعقبته ندوة سريعة بدأتها إحدى المشاهدات بشكرهما على إشراكهما الجمهور في حياتهما الخاصة فالفيلم يدور عنهما كنموذج للكثير من جيلهما، عن بحثهما عن الحرية الشخصية و السياسية، عن الصراع بين بقائهما في مصر بالرغم من فقدان تلك الحرية أو الهجرة إلى بلد آخر، عن الثورة التي شاركت فيها ندى بينما كان أيمن مسافراً وعن المقارنة بين حالهما و أحلامهما و نشاطهما من أجل التغيير و بين ذات المحاور في مسيرة والدي ندى، اليساريين اللذين أجهضت أحلامهما القديمة ربما لأنهما و جيلهما أخطآ وبالتأكيد لا يحق لهما اليوم توجيه اللوم لجيل ندى و أيمن. الفيلم، بالرغم من بعض عيوب البناء و مباشرة بعض المشاهد و ضعف العناصر التقنية وهو ما يغفره لهما أنه أول أفلامهما الطويلة، فهو طبيب و هي مهندسة أحبا السينما فدرساها و يخطوان اليوم أولى خطواتهما الاحترافية، إلا أنه فيلم صادق المضمون و المشاعر و الطرح. لهذا شكرتهما المشاهدة ولهذا اهتم الجمهور أن يعرف أكثر عن مصيرهما بعد نهاية الفيلم وهذه إحدى نتائج الصدق فالجمهور يتعلق بالأبطال ويريد أن يطمئن على حالهم. 

 الانطباع الثالث: درس في دقة وأمانة صانع الأفلام التسجيلية.

 فيلم Letters from Baghdad

(95 دقيقة . إنتاج أمريكي / إنجليزي / فرنسي مشترك) للأمريكيتين Sabine Krayenbühl وهي مونتيرة مخضرمة رشحت بعض أفلامها للأوسكار و فازت  بجوائز هامة أخرى و Zeva Oelbaum و هي مصورة فوتوغرافية و منتجة. هذا الفيلم أرشح مشاهدته لكل محبي الأفلام التسجيلية وأرشح تدريسه في كافة معاهد السينما.  الفيلم و هو من نوعية  البيوغرافي / التاريخي يروي قصة منقبة الآثار الإنجليزية Gertrude Margaret Bell الملقبة بالنموذج الأنثى من لورانس العرب و التي عاشت بين )1868-1926( ، تلك المرأة التي كانت خارجة عن المألوف منذ صباها و ارتحلت في بلاد العرب بين سوريا ، العراق ، شمال شبه الجزيرة العربية و مصر لترسم الخرائط و لتنقب عن الآثار، ولتقيم علاقات وطيدة مع أهالي تلك المناطق خاصة القبائل البدوية، كانت ممن أقنعوا الحكم الإنجليزي الذي عملت تحت إدارته بعدم تقسيم العراق وإقامة مملكة عراقية موحدة تحت حكم الملك فيصل الذي عملت لاحقاً كمستشارة له ثم تبنت مشروع تأسيس أول متحف عراقي وتولت إدارته.  صناعة فيلم كهذا هو أمر صعب جداً، فالمادة البصرية المتوفرة بالتأكيد شحيحة وشهود العيان فارقوا العالم منذ زمن طويل.  أغلب الأفلام الشبيهة تعتمد على مؤرخين يروون الأحداث ويعلقون عليها ولكن المخرجتين لم تلجآ لتحليلات المؤرخين بل روتا القصة عبر نصوص خطابات ميس بيل لأهلها وما كتبه عنها من عايشوها في مذكراتهم. وهذا منتهى الأمانة. جمعتا مادة سينمائية أرشيفية نادرة عن كل البلاد التي زارتها ميس بيل في تلك الفترات الزمنية إضافة إلى صور فوتوغرافية و دققتا مع فريقهما هذه المادة كي لا يحدث خلط بين صور العراق و صور سوريا مثلاً ثم بنتا الفيلم بناءً كلاسيكياً ـ بمعنى أصيل ـ  يحكي القصة منذ ميلاد ميس بيل حتي وفاتها و أشركتاها في السرد عبر أداء الممثلة Tilda Swinton لمقاطع من خطاباتها صوتياً لتعبر عن أفكارها بشكل صريح بينما شخّص ممثلون آخرون شخصيات من عاصروها فقدم كل منهم شهاداته صوت و صورة في لقطات متوسطة بالأبيض و الأسود ينظرون خلالها تجاه الكاميرا مباشرة. في النهاية غزلتا كل هذه المادة مع التعليق لتعيدا لهذه الشخصية مكانتها التي حرمها منها التاريخ الذكوري ولتقولا بشكل غير مباشر إن السياسة الغربية تجاه المنطقة العربية لم تتغير بعد مرور ١٠٠ سنة وهو ما قالتاه صراحة خلال الندوة التي أعقبت عرض الفيلم. إن مصطلح “الدقة المفرطة” هو ما أقل ما يمكن أن يوصف به عمل المخرجتين والذي استهلك ٤ سنوات من عمريهما .

 الانطباع الرابع: متعة كوميديا الواقع

Waiting for the Giraffes  

(84 دقيقة إنتاج هولندي / بلجيكي مشترك)

من أمتع الأفلام التسجيلية التي شاهدتها في حياتي فيلم “في انتظار الزرافات” للإيطالي Marco de Stefanis   الذي عرض في إطار مسابقة الأفلام الهولندية ويدور حول دكتور سامي الطبيب البيطري الذي يبذل جهداً كبيراً لتطوير حديقة حيوان قلقيلية ـ الوحيدة بفلسطين ـ ومحاولة ربطها بالحدائق العالمية واستقدام زرافة جديدة بدل تلك التي ماتت أثناء أحد الاجتياحات الإسرائيلية. الفيلم شديد البساطة والإنسانية والصدق كما هي شخصياته وأحداثه وقد نجح المخرج في الحفاظ على فيلمه متوائماً مع تلك السمات فلم يسع لصنع لقطات مبهرة أو اللجوء لتقنيات منمقة كما حافظ على التركيز على قصته فقط دون الوقوع في خطأ استعراض تفاصيل جانبية وهو ما يسمح به الواقع الفلسطيني المعقد.  هذا كان من أهم عوامل نجاح الفيلم ويحسب لمخرجه وإن ظلت قدرته على التقاط عناصر الواقع الفكاهية وتأكيدها عبر المونتاج ـو هي من مهارات أبناء المتوسط الأصيلة خاصة الطليان منهم ـ هو أكثر ما يميز فيلمه و ربما كان هذا ما دفع الجمهور إلى ملء القاعات في كافة عروضه الخمسة فكثيراً ما انفجر الهولنديون في الضحك خاصة خلال النصف الثاني من الفيلم حتى كان يبدو وكأنهم يشاهدون فيلماً كوميدياً بحتاً. هذا، دون أن يفقد الفيلم خيوط السرد أو عناصره الإنسانية. خلال الندوة، سأل الجمهور المخرج عن أحوال الدكتور سامي و حديقته وعن مدة تصوير الفيلم و الصعوبات التي واجهته، فأجاب أنه صور الفيلم على ٦ مراحل موزعة على خمس سنوات ليتابع تطور جهود الدكتور سامي و الحديقة و كان المأزق الأكبر الذي واجهه يوم فقدت ـ أو هكذا قالوا له ـ معدات التصوير في مطار تل أبيب و اضطر لاستئجار معدات من فلسطين ليتم رحلة التصوير ثم وجد معداته تنتظره في نفس المطار قبل عودته إلى أمستردام التي يقيم بها .

وأخيراً، شاهدت أفلاماً أخرى لا يتسع المجال للحديث عنها غير أني لا أستطع ألا أشير إلى فيلم  Hotel Sunrise للسلوفاكية الشابة  Maria Rumanova والذي أراه تحفة فنية روائية، ليست تسجيلية بالمرة، لأبطال يمثلون قصتهم الحقيقية.

السلوفاكية Maria Rumanova


إعلان