“نتفليكس” تتصدر السباق
محمد موسى
في طلة إعلامية نادرة، كشف الأمريكي “ريد هوستنغ “مؤسس موقع “نتفليكس” قبل أشهر أن اتجاه شركته لإنتاج المواد الفنيّة الحصرية قبل خمس سنوات فقط -وبعد أن كانت توفر مسلسلات وأفلام شركات وقنوات تلفزيونية أخرى حصراً- كان مغامرة وتجربة للشركة لجسّ نبض واقع الإنتاج التلفزيوني، وأنها لم تكن تتوقع على الإطلاق أن يُغير هذا من تركيبة المشهد التلفزيوني في العالم الغربي، أو يجعل شركته تتصدر المنافسين، على صعيد شعبية المواد الفنيّة الخاصة التي تنتجها أو عدد المشتركين في خدمتها. حيث إن السباق على إنتاج المواد الخاصة المميزة ومدى نجاح هذه الأخيرة، يحددان اليوم طبيعة المنافسة على سوق الترفيه الفنيّ في العالم الغربي.
وبعد أن كانت قائمة الأعمال التي أنتجها شركة “نتفليكس” لا تتعدى أصابع اليد الواحدة قبل سنوات قليلة فقط، تطول القائمة كثيراً اليوم، وتشمل علاوة على المسلسلات الدرامية التي بدأت الشركة بها، أفلاماً طويلة ومسلسلات تحريك وبرامج اطفال وأفلام تسجيلية. كما أن الشركة جربت أيضاً دون نجاحات كبيرة على ما يبدو في إنتاج برامج حوارية كوميدية (أعلنت قبل أيام أنها لن تنتج جزءاً جديداً من البرنامج الحواري “شيلسيا” وبعد موسمين منه). كلفت هذه الفورة الإنتاجية غير المسبوقة الشركة ما يقارب ستة مليارات من الدولارات في العام الماضي فقط. في حين أنها تخطط لصرف بين سبعة وثمان مليار دولار في العام القادم على إنتاج المحتوى الخاص فقط، ذلك أن هذه الميزانية لا تشمل المبالغ الإضافية التي تدفعها الشركة مقابل شراء حقوق عرض المواد الفنيّة التي تضمها لخدمتها لبيع المواد الترفيهية للراغبين مقابل إشتراكات شهرية.
والواقع أن “نتفليكس” في موقع غير مثالي ويُنذر بأزمات مالية مُستقبلية للشركة، إذ أنها وبسبب سرعة توسعها العالمي السريع (104 مليون مشترك في الخدمة حتى اليوم)، لم تعد قادرة على خفض معدل إنتاجها من المواد الحصرية. فهناك جمهوراً متعطشاً للجديد، وتعود على أنماط إنتاجية من الشركة الأمريكية، ويمكن أن يتوجه إلى شركات منافسة، إذ شعر أن “نتفليكس” قد غيرت من خططها للمواد الخاصة. صحيح أن ما توفره الشركات المنافسة حتى اليوم لا يُشَّكل مُنافساً حقيقياً لمحتوى “نتفليكس”، بيد أن السباق المتواصل للفوز بالمشتركين يتواصل بسرعات كبيرة للغاية، والطريق مازال يخبيء منعطفات غير محسوبة.
لا تتوافر حتى الساعة إحصاءات دقيقة عن نسبة المواد الفنيّة الحصرية الخاصة بشركة “نتفليكس” مقارنة بالمواد الأخرى المتوافرة على خدمة الشركة. بيد أن الأمر المؤكد أن أعمال الشركة الأمريكية الحصرية تحظى بنسب متابعة كبيرة، وأنها تحصد الجوائز العديدة في المسابقات التلفزيونية، حيث خطفت الشركة عشرين جائزة من جوائز “أيمي” التلفزيونية في دورتها الأخيرة، والتي تُعَّد الأهم في الولايات المتحدة على صعيد الجوائز التلفزيونية، في حين تحولت بعض الأعمال الخاصة بالشركة إلى ظواهر تعدت الإطار الفنيّ، لتدخل في الوعي الجمعي، معبرة عن روح العصر، والفئات العمرية التي تقدمها في قصصها.
من الأرقام الأخرى اللافتة التي تضمنها التقرير المالي الأخير لشركة “نتفليكس” ذلك الذي كشف عن عدد المشتركين الجدد ومنذ تقريرها السابق، حيث التحق في الخدمة 5.3 مليون مشترك جديد، منهم 850.000 ألف في الولايات المتحدة والباقي موزعين حول العالم. ووصل العائد الإجمالي للشركة منذ الإعلان الأخير الى 2.98 مليار دولار، فيما ارتفع سعر سهم الشركة بمقدار 37 سنتاً. يشير التقرير إلى شعبية الخدمة في دول عديدة، وهو الأمر الذي انعكس على سياسة إنتاج الأعمال الحصرية لها، إذ بدأت الشركة بإنتاج مسلسلات للأسواق المحلية التي تصل إليها وبلغات تلك الأسواق، مع توفر هذه الأعمال لكل المشتركين في الخدمة بغض النظر عن موقعهم الجغرافي، إذ ينتظر في الأيام القادم الإعلان عن موعد عرض مسلسل ألماني من إنتاج “نتفليكس”، في أول إنتاج خاص للشركة موجه للسوق الألمانية. في الإتجاه نفسه أعلنت الشركة أخيراً أنها تخطط لإنتاج ثمانين فيلماً طويلاً في العام القادم وحده.
المنافسون قادمون!
ورغم أن موقع “نتفليكس” يأتي في صدارة الشركات والقنوات التلفزيونية لجهة الأموال التي تنفقها على أعمالها الحصرية، إلا أن الشركة ومعها شركات أخرى مثل “أمازون” المنافسة، مقبلة على منافسة جدية للغاية مع بوادر عن قرب دخول شركات التكنولوجيا والمعلومات العملاقة إلى سابق التنافس على سوق الترفيه. فهذه الشركات قادرة بسبب شعبيتها وميزانياتها العملاقة على هزّ سوق الترفيه من جديد، وكما تفعل اليوم شركة “نتفليكس”. صحيح أن الأخبار غير المؤكدة عن الميزانيات الأولية لهذه الشركات لإنتاج المواد الفنيّة الحصرية يبقى أقل بكثير من ميزانية “نتفليكس” (يقال إن شركة “أبل” تستعد لإنفاق مليار دولار في العام القادم)، لكن شركة مثل “أبل” والتي تفوق قيمتها عشرة مرات قيمة “نتفليكس” قادرة على ضخ أموالاً أكثر بكثير مما تفعله الأخيرة، إذا لمست نجاحات في هذا المضمار.
والحال نفسه ينطبق على موقع “يوتيوب”، العائد لشركة غوغل، الذي كشفت مصادر شبه مؤكدة، أنه أعد خطة كاملة لإنتاج مواد فنيّة حصرية، بميزانيات تقترب من ثلاثة مليون دولار للحلقة الواحدة، وتتوجه إلى الفئات العمرية من 16 إلى 35 عاماً. فيما يتميز موقع الفيسبوك والذي اقترب هو الآخر من إنتاج أول أعماله الحصرية، بقدرته على تحليل بيانات المشتركين فيه، والخروج منها بمحصلات ستعينه كثيراً على تحديد طبيعة الأعمال الفنيّة التي يختارها، إذ لا ينافس الفيسبوك أي موقع إلكتروني أو شركة بكمية المعلومات التي جمعها على طوال السنوات الماضية عن مشتركيه، وكيف أن هذا يمكن أن يساعده في إنتاج مواد فنيّة تنسجم مع ذائقات مجموعات كبيرة منهم.
موقع التلفزيون التقليدي من المنافسة؟
في كل تجمع لصناع التلفزيون من السنوات الثلاث الأخيرة، يُطرح سؤالاً واحداً تقريباً لكن بصيغ مختلفة وملخصه: كيف يُمكن للقنوات التلفزيونية أن تتميز ببرامجها مع تواصل شعبية شركات الإنترنت العابرة للقارات؟ الإجابة أو الحلول لن تكون مبسطة، فالقنوات التلفزيونية وحتى العملاقة منها لا تستطيع أن تنافس اليوم ميزانيات شركات الإنترنت العملاقة، إذ لا يمكن تخيل اليوم، ومع تشتت المشهد التلفزيوني والصعوبات التي تجدها كثير من القنوات التلفزيونية في العثور على الإعلانات التجارية، أن تدفع قناة واحدة مبلغ مئة مليون دولار لإنتاج موسم واحد من مسلسل، وكما فعلت شركة “نتفليكس” مع مسلسلها الناجح كثيراً “التاج”، عن حياة ملكة بريطانيا الحالية اليزابيث الثانية.
التفوق المادي لشركات الإنترنت، والأطر الرقابية المرنة التي تتحرك بها، وبحثها عن الأفكار الجديدة وأحياناً المجنونة، جعلها تجذب مواهب من كل العالم، ليضع هذا القنوات التلفزيونية في مواقف صعبة، وليجبرها على البحث المضني على الأفكار التلفزيونية التي تتناسب مع ميزانياتها. هذه المنافسة المحتدمة تقف وراء المستوى المذهل الذي تشهده الاعمال الفنيّة المخصصة للعرض التلفزيوني وعلى الشاشات الصغيرة من كل الأنواع، إذ يعيش العالم الغربي عصراً ذهبياً للتلفزيون لجهة نوعية وعمق وتنوع كثير من الأعمال التي تُعرض اليوم على الشاشات.