جثة ودسائس في “البيت” الإيراني
طوكيو- محمد موسى
بعد الأسبوع الأول من مهرجان طوكيو السينمائي -يُنظم من الخامس والعشرين من شهر أكتوبر وحتى الثالث من شهر نوفمبر-، والذي جاء مُخيباً قليلاً على صعيد جودة الأفلام المتنافسة في مسابقته الرسمية للأفلام الطويلة. تحسَّن مستوى أفلام المسابقة عينها في اليومين السابقين، بيد أن هذا لم يعفي إدارة المناسبة السينمائية اليابانية من انتقادات الصحافة على اختياراتها. خاصة أن المهرجان لا يشكو من قلة اهتمام صناع الأفلام وشركات السينما به، ذلك أن الإدارة أعلنت قبل انطلاق المهرجان أنها تلقت ما يُقارب من 1500 فيلماً لهذا العام، اختارت منها 15 فيلماً لمسابقتها الرسمية، من بينها ثمانية أفلام في عرضها العالمي الأول.
من أفلام المسابقة الرسمية فيلم “البيت” من تأليف وإخراج المخرج الإيراني “أصغر يوسف نجاد”، والذي حصل على اهتمام جيد من الصحافة السينمائية العالمية، وكما يحدث عادةً مع الأفلام الإيرانية التي تصل إلى المهرجانات السينمائية الدولية الكبيرة، حيث كرست إنجازات السينما الإيرانية في العقود الأخيرة سمعة مرموقة لها، رافعة لسقف التوقعات منها، والتي لا تخيب غالباً. إذ أن هناك جيلاً جديداً من المخرجين الإيرانيين الشباب يواصلون بتمكن كبير المحافظة على جديّة هذه السينما وتميزها الاستثنائي والسير على الطريق ذاته الذي عبده سينمائيون إيرانيون مبدعون ظهروا بعد الثورة الإسلامية في البلد، رغم القيود والرقابة المفروضة عليهم من السلطات الرسمية، والطرق الملتوية المُعقدة التي يجب على صانعي الأفلام سلكها لسرد قصصهم عن إيران اليوم.
يبدأ فيلم “البيت” بصرخات حزن قادمة من جميع الجهات، فهناك جثة في سيارة، يُنتظر أن تُنقل إلى بيتها بعد أن فارق صاحبها الحياة في المستشفى، وابنة المتوفي الوحيدة تحاول رغم جزعها الواضح تنظيم ما يجري حولها. ستستمر المشاهد الافتتاحية تلك لدقائق طويلة، والتي سيتكشف عبرها بعض الحقائق المهمة لجهة فهم العلاقات بين الشخصيات على الشاشة. إذ أن البنت الوحيدة انقطعت عن والدها منذ زواجها قبل ست سنوات، ولم تعاود زيارته إلا قبل أشهر فقط بعد أن مرض كثيراً وبدأ يفقد ذاكرته. أما الرجل الممتلئ وزناً الذي كان يبكي حيناً ويستمع إلى البطلة في أحيان أخرى هو ابن أخ المتوفي، وهو الذي رعى مع زوجته عمه منذ أن هجرته ابنته. وسيكمل الجيران وأقارب العائلة تفاصيل أخرى تخص المشهد العام.
يُحافظ الفيلم على الإيقاع المتوتر ذاته الذي ابتدأ به بعد أن تنتقل الشخصيات إلى داخل البيت، حيث تتواصل حركات كاميراته التي كانت لا تكل وهي تتنقل بين الموجدين. وتنضم إلى شخصيات الفيلم شخصيات أخرى منها: ابنة أخ المتوفي وأُمّها التي فقدت عقلها والتي اصطحبتها معها لأنها لم تكن ترغب بتركها بمفردها. بيد أن الشخصية التي ستعقد أحداث الدراما في الفيلم، ستكون لرجل غامض قليلاً، وصل إلى بيت العائلة، يزعم أن الأب الراحل ترك وصية بأن يمنح جسده لإحدى الجامعات حتى يتم الاستفادة منه لأغراض تعليمية، وهو الأمر الذي سيقود إلى مواجهة مع الابنة التي سترفض ذلك تماماً. ستتطور بالتعاقب مواجهات ومكاشفات بين الابنة ورجل الجامعة، وبينها وبين ابن عمها، وبين الأخير والغريب الذي يريد أن يرتب نقل الجثة إلى المختبرات. تكشف كل هذه الموجهات عن الكثير من التفاصيل عن خلفيات الشخصيات ومحيطها الاجتماعي، لكنها لن تحضر المشاهد للمفاجئة التي يخبئها الفيلم، والتي ستتضح معالمها مع وصول زوج البطلة، إذ ينعطف الفيلم وقتها إلى وجهة معتمة كثيراً، ستضيف الكثير من التعقيد والإثارة إلى ما بدا بأنه دراسة سينمائية جديدة في طبقات المجتمع الإيراني، وكما تفعل بشكل دوري أفلاماً إيرانية عديدة تتناول أوجه مُتعددة من مجتمعها.
لا يُمكن إغفال تأثيرات المخرج الإيراني “أصغر فرهادي” في هذا الفيلم، وكما في مجموعة مُعتبرة من الأفلام الإيرانية التي عُرضت في السنوات الثلاث الأخيرة، من بناء الفيلم الذي يفتح القصة الاجتماعية على فئات سينمائية جديدة على صعيد البناء التشويقي والمعالجة المتفجرة، وحركة الكاميرا التي لا تتوقف طويلاً، والتقطيع الذي يزيد من إلحاح الحدث والقصة. وبعد أن كانت الكاميرا في فيلم “البيت” تتبع الشخصيات في لقطات الكثير منها كان قريبة من وجوه الشخصيات، ستأخذ الكاميرا مسافة أبعد كثيراً في مرحلة لاحقة من زمن الفيلم، وبعد أن تبدأ حقائق جديدة من القصة في الظهور على السطح. يكاد يكون زمن أحداث الفيلم يتطابق مع الزمن الفعليّ له، ليزيد هذا من تكثيف وقساوة وإلحاح أحداثه. يُدير المخرج مجموعة رائعة من الممثلين والممثلات، حتى الذين ظهروا لثواني قليلة، فلا مكان للأخطاء هنا، خاصة في المشاهد الجماعية، إذ يمكن أن يؤثر تعبير وجه واحد غير متجانس على المشهد برمته. أما الأداء الأكبر فسيكون من نصيب الممثلة الإيرانية الشابة “رامين ريازي”، والتي لعبت دور الأبنة، إذ كان عليها أن توازن مجموعة من الانفعالات المتطلبة، فهي الابنة المثكولة بوفاة الوالد، لكن كان عليها المدافعة عن نفسها بوجه لوم الآخرين بسبب تخليها عن والدها لسنوات، وسيكون عليها أن تواجه وضعاً غريباً بالدفاع عن جثة والدها. وحتى عندما تتكشف الحقيقة عن الفعل الفظيع الذي ارتكبته، يُضيف إدائها الواعي طبقة من الفهم لشخصيتها والظروف التي قادتها لما قامت به مع زوجها.
يُقدم الفيلم في ربعه الأخير رجل دين شاب يحاول أن يفض الخلافات بين الشخصيات. يفتح حضور رجال الدين في الأفلام الإيرانية كوة على نظرة المجتمع الإيراني لهم، كما يُعين التعاطي الفنيّ معهم على فهم حال الرقابة في إيران اليوم. عندما يقابل رجل الدين الشاب البطلة للمرة الأولى، تتعرف الأخيرة عليه، هو ابن الجيران الذي كانت تلعب معه عندما كانت طفلة. لم ترغب البطلة في مواصلة الحديث عن مشكلة الجثة، بل تركز على الإمام الشاب الذي كان يجلس معها. “ما الذي جعل طالباً ذكياً مثلك يُصبح إماماً” تُخاطب الشابة بخيبة كبيرة ابن الجيران السابق.