درس سينمائي من الفلبيني “ميندوزا”

محمد موسى

بخجل وتواضع واضحين، بدأ المخرج الفليبيني بريلانتي ميندوزا “الماستر كلاس” الخاص به، والذي نظمه مهرجان طوكيو السينمائي في دورته الثلاثين الاحتفالية (عُقدت من الخامس والعشرين من شهر أكتوبر وحتى الثالث من شهر نوفمبر). اختار المخرج الفليبيني المعروف أن يستهل درسه السينمائي بفيلم تسجيلي قصير عن كواليس العمل في فيلمه الأخير “ما روزا” (2016)، والذي يكشف اهتمامه الكبير بالتفاصيل، وعلاقته المقربة والوثيقة بالعاملين معه في أفلامه، من الممثلين إلى التقنيين، حيث يقضي المخرج أشهراً طويلة وهو يُدقق في جودة الصوت واختيارات الموسيقى والمؤثرات الصوتية، ودرجات الألوان المناسبة لكل مشهد، فأفلامه وإن كانت حصيلة عمل جماعي لمجموعة كبيرة من الممثلين والفنيين (كما بيَّن الفيلم التسجيلي القصير)، الا أنها تُدمغ بأسلوب المخرج الخاص، والذي جعله واحداً من أهم مخرجي القارة الآسيوية، واسماً متفرداً في سينما اليوم. في عام 2005 وبعمر الخامسة والأربعين، بدأ “ميندوزا” مسيرته السينمائية. سيعوض المخرج بدايته المتأخرة، بفورة إنتاجية لافتة في العقد الماضي، ونشاطاً سينمائياً متدفقاً لم يتوقف، فهو بالإضافة إلى إخراجه للأفلام الطويلة، أخرج مسلسلات للتلفزيون وأفلاماً وثائقية، وينتج الآن أفلاماً لمجموعة من المخرجين الفلبينيين الجدد. ركزت أفلامه الأولى على قاع المدن الكبرى في بلده، وأدخل الكاميرا في عتمة العوالم السفلية للمجتمع هناك. تميزت أفلامه الأولى بالقسوة الشديدة بقصصها وشخصياتها ومشهدياتها وخيارتها الفنية والأسلوبية، حتى أن بعضها لم يصل إلى العرض الجماهيري في الكثير من دول العالم، وبقي حضورها مُقتصراً على المهرجانات السينمائية، ومنها مهرجان كان السينمائي، حيث تحول المخرج إلى أحد أبناء المهرجان المفضلين، من الذين تصل أعمالهم الجديدة بديهياً إلى مسابقة المهرجان الرئيسية المرموقة.

عاد “ميندوزا” في محاضرته السينمائية في مهرجان طوكيو إلى أفلامه الأولى المستندة إلى أحداث حدثت بالفعل ووصف العمل عليها: “كانت لدي حاجة كبيرة لتقديم تلك القصص والشخصيات الحقيقية، والتي قابلت بعضها في الحياة. هذه القصص هي جزءاً مني، وفيها تفاصيل تؤلمني كثيراً. كشخص عادي وعندما تؤثر عليك قصة تصادفها فإنها تبقى معك لفترات طويلة ولا تذهب بعيداً وهو ما يحدث لي أيضاً. صناعة الفيلم مثل الولادة، حيث تجمع عبر الزمن المعلومات والعواطف، وفي النهاية يولد المشروع وبعد فترة انتظار. إذا سألتموني الآن، إذا أتيحت لك الفرصة هل ستقوم بإخراج أفلامك الأولى بنفس الأسلوب، الجواب سيكون ربما سأغير تفاصيل هنا وهناك، لكني لا أرغب بتغيير أشياءً كثيرة في المقاربة والطاقة التي بذلت لإخراج الأفلام وقتها”. يُعَّد فيلم “كينتيا” محطة مفصلية في مسيرة “ميندوزا” لجهة بلوغ الفيلم مستوى غير مسبوق من القسوة والعنف، وعَلَمَ لبداية تصدي سينما المخرج لقضايا اجتماعية عامة. يدور الفيلم عن شاب دخل الشرطة حديثاً، وليكلف بعدها بمهمة كابوسية، تقوم على مرافقة رؤساء له وهم يعذبون ويغتصبون ويقطعون امرأة اختلفوا معها. تتنقل الكاميرا في الباص الصغير الذي كان ينقل الشرطة وضحيتهم، ويعرض الفيلم دون تردد مشاهد عنف مُفصلة للغاية. بعد هذا الفيلم ستخف حدة العنف قليلاً في أفلام “ميندوزا”، ويأخذ في فيلمه “أسير” قضية واسعة تهم البلد بأكمله، عندما يستعيد عملية خطف قامت بها جماعة إسلامية متطرفة لغربيين وفليبينيين قبل أعوام. جذب المخرج الفنانة الفرنسية المعروفة “إيزابيل أوبير” لتقوم بدور مهم في فيلم “أسير”.

عن بناء أفلامه تحدثَ المخرج: ” أستخدم البناء الأساسي المعروف في الأفلام، لكني أهتم كثيراً بأن أكون مطلعاً على المواضيع التي أقدمها، وماهي القضايا بالتحديد التي أريد أن أبرزها. هل ستكون عن الفساد المالي مثلاً، أو عن التعليم، أو المخدرات، أو البغاء، أو غياب العدالة، بعد ذلك أحاول أن أبحث عن القصص الإنسانية الخاصة خلف هذه القضايا، وهل هناك حوادث عامة ما في هذا المجال، من هذه الحوادث أحاول أن أبدأ بناء الأفلام، أسعى في كل هذه العمليات أن تكون رسالة الأفلام واضحة”. يعمل “ميندوزا” بميزانيات محدودة ولا يبدو أنه مهتم كثيراً بإخراج أفلام بلغات أخرى كحال بعض مجاليه حول العالم. يصف المخرج ظروف العمل في بلده:” أؤمن كمخرج سينمائي أني لا أستطيع دائماً أن أحقق جميع ما أصبو عليه من خطط في أفلامي. بخاصة إذا كنت تعمل مع ميزانية محدودة، بالطبع أحاول في كل فيلم مع فريق الإنتاج أن أنظم الجوانب اللوجستية، لكني أعرف أن هناك مفاجئات تنتظرنا وأن الأمور ستسير دائماً عكس خططنا… هذا هو الواقع. أحياناً أملك تصوراً واضحاً جداً لمشهد أنوي تصويره، ويكون كل شيء هناك وينتظر لحظة البدء، لكن شيئاً ما يحدث ويغير بعض التفاصيل في المشهد. دربت نفسي أن أكون مرناً بمواجهة هذه التحديات والمصاعب. مبدئي الآن هو التالي: سأكون راضياً إذا حققت 80% أو 60% من خططي للمشهد الفلاني، لأني أعرف أن بلوغ 100% هو عملية مستحيلة. الأمر الذي علينا ألا ننساه، أن ما نعجز أن نحققه في مشهد ما، يمكن تعويضه في مشهد آخر، وعندما تجري الأمور بشكل أفضل من المعتاد”. تجمع أفلام ميندوزا بين ممثلين محترفين وهواة، في خليط يوفر العفوية والاحتراف في الآن نفسه. ” لازلت أعمل مع ممثلين غير محترفين، كما أني أجمع أحياناً بين محترفين وغير محترفين، أعتقد أن كل مجموعة منهم يمكن أن تتعلم من الأخرى. إدارة الممثلين غير المحترفين سهلة كثيراً، لأنهم يصلون مباشرة إلى ما ترغبه منهم، وهذا هو عامل قوتهم. على الجانب الآخر، يمكن لغير المحترفين التعلم من المحترفين بعض الجوانب العملية في التمثيل.

أكتب سيناريوهات كاملة لأعمالي قبل الشروع في العمل فيها، لكني لا أطلع ممثلي أفلامي عليها حتى يوم التصوير عندما أعطيهم الجزء الخاص بذاك اليوم فقط. أحب أن أحصل من ممثلي أفلامي على العفوية والمشاعر الفطرية، وأفضل هذا على أن يقرأوا السيناريو ويحفظوا كل كلمة فيه. لأن هذا يعني غالباً أن مشاعرهم ستكون مصطنعة، أفضل دائماً ممثلين وممثلات هواة من الذين لديهم حب تجاه مهنتهم عن زملاء لهم يملكون الموهبة والخبرة لكن ينقصهم الشغف. ربما ذلك السبب تراني أستخدم تقريباً نفس مجموعة الممثلين لأن هؤلاء يعرفون كيف أفكر والأسباب التي تجعلني أصنع الأفلام”. فيلم “ما روزا” هو أكثر أفلام “ميندوزا” انفتاحاً وشعبية بين الجمهور الواسع، عرض في مهرجان كان وفازت بطلته جاكلين خوسيه بجائزة أفضل ممثلة. الفيلم عن قصة عائلة فقيرة تحاول أن تدبر حالها من عائد دكان بقالة صغير تملكه وتجارة المخدرات التي تعمل فيها بالخفاء. يعود ميندوزا في فيلمه هذا مرة أخرى إلى قلب المناطق الفليبينية الفقيرة، وينسج قصة مأساوية عن أُمّ تحاول أن تدفع عائلتها بعيداً من المصير القاتم الذي يقترب منها. استعاد المخرج في محاضرته المشهد الختامي المأساوي في فيلم “ما روزا”: ” أُبسط كثيراً في تعليماتي للممثلين، لا أريد أن أُعقد عليهم ما يحاولون أن يفعلوه لإيجاد المشاعر المناسبة. قلت للممثلة جاكلين خوسيه في المشهد الختامي أنه من المفترض أن تكون تعبة كثيراً مما مرت به، وطلبت منها أن تجسد أول شيء يخطر على بالها لو كانت جائعة ومنهكة جسدياً ونفسياً مما حصل في يومها وكما مكتوب في السيناريو. الممثلة عندها اقترحت أن تأخذ قطعة اللحم من عربة الغذاء الموجودة في الشارع، وتبدأ الأكل لتنتبه بعدها أن هناك أناساً من حولها يراقبون الموقف. بعد ذلك طلبت منها أن تؤدي المشهد ذاته، بمشاعر الجوع والتعب نفسها، لكن هذه المرة سيكون التركيز على الحرج الذي سيصيبها عندما يبدأ بعض معارفها بمناداتها باسمها”.

رغم أن المخرج مازال في ذروة نشاطه (فيلمه الأخير أصبح جاهزاً للعرض السينمائي)، الا أنه لا يتوقف عن استعادة وتقييم تجربته السينمائية.  يقول “ميندوزا”: ” بدأت بصناعة الأفلام وعمري خمسة وأربعين عاماً، الشيء الذي كنت متأكد منه منذ البداية أني لا أريد مشاعر مزيفة في أعمالي. أخذت العاملين في فيلمي الأول إلى مبغى، حتى يتعرفوا على العوالم التي يريد أن الفيلم أن يسبر أغوارها. أعتبر نهاية أي فيلم فرصة لتقييم تجربتي السينمائية برمتها. بالحقيقة صناعة الفيلم نفسه هو أفضل وسيلة للتعلم، لأن الفيلم هو جزء من مسيرة عمل متواصلة. كمخرج، عندما تنتهي من إخراج فيلم وتشاهده بنسخته النهاية تفطن إلى عثراتك والأخطاء التي ارتكبتها. كل هذا هو رحلة لا تتوقف للمخرج في عالم صناعة السينما. أمًا بخصوص التحديات التي أواجهها كمخرج في الفليبين فإني أعتبرها جزءاً من العملية السينمائية ومهمة لتطوري الشخصي”.

من المؤكد أن النجاح النقدي الكبير والضجة التي تثيرها دائماً أفلام ميندوزا ساعدت في تعبيد الطريق لموجة الأفلام الرائعة التي تأتي من الفليبين في السنوات الأخيرة. يلخص المخرج تميز المشهد السينمائي الحالي في بلده: ” نحن في الفليبين أغنياء بتنوع القصص التي نملكها، حيث البلد مُقسمة إلى العديد من الجزر الصغيرة، والعديد من هذه الجزر لها ثقافتها الخاصة، وهناك أيضاً الوضع السياسي المُعقد للبلد والذي يخلق العديد من الحكايات. صناع الأفلام في الفليبين على الطريق الصحيح، لكن على المخرجين الجدد أن يركزوا أكثر على الجوانب التقنية من الصناعة، وجودة الصورة والصوت. كل الجوانب التي تتعلق بعمليات مرحلة ما بعد الإنتاج تحتاج إلى اهتمام كبير من المخرجين. إذا كان عندك الأموال فكل التفاصيل التقنية مقدور عليها، كما أن الجوانب التقنية تتطور كل يوم وتفصح عن خيارات جديدة. الأخطاء التي تلفت انتباهي في أعمال المخرجين الجُدد هي رغبتهم في قول الكثير، ونسيان المحور الأساسي الذي تقوم عليه أعمالهم، وتغطيته بعدة طبقات من التفاصيل، بحيث لم تعد تعرف ماذا يريد الفيلم أن يصل إليه. من المفروض أن تكون الأفلام بسيطة وبعيدة عن التعقيد المبالغ فيه”.

 

 


إعلان