العرب في قلب “إدفا”
محمد موسى
بعد أن أهتم في الأعوام الأخيرة بأفلام المنطقة العربية، لاسيما تلك التي تناولت “الربيع العربي” وآثاره ومآلاته. يركز مهرجان إدفا للسينما التسجيلية في دورته الثلاثين -انطلقت في العاصمة الهولندية أمستردام في الخامس عشر من شهر نوفمبر وتنتهي في الخامس والعشرين منه- بشكل غير مسبوق على أعمال مخرجين ومخرجات عرب، وأفلام مخرجين أجانب قاربت قضايا عامة وذاتية من منطقة الشرق الأوسط، حيث إن هناك عشرات الأفلام القصيرة والطويلة التي تدور في الفلك العربي موزعة على برامج ومسابقات المهرجان العديدة، والتي تقترب بعددها وتنوعها لتشكل ما يشبه المهرجان العربي الصغير داخل المهرجان الهولندي، الذي يُعَّد الأكبر في العالم للأفلام التسجيلية. وكأن هذا لم يكن كافياً، اختار المهرجان فيلم “أمل” للمخرج المصري “محمد صيام” لافتتاح دورته الثلاثين.
يمكن تقسيم الأفلام التي تتناول الشأن العربي في مهرجان “إدفا” إلى عدة اتجاهات، أحدها يسجل سنوات ما بعد الربيع العربي، عبر تتبع شخصيات عادية كانت في قلب الحدث العام حينها. مثل فيلم الافتتاح نفسه “أمل” الذي يوثق سنوات من حياة الفتاة المصرية “أمل”، التي جذبتها ثورة يناير ببشائرها والآفاق التي فتحها لها وهي بعمر الرابعة عشر. “أمل” فتاة عنيدة وغاضبة، فقدت رفيقاً لها في حادثة ملعب بورسعيد والتي قتلت العشرات وقتها، وذهبت إلى ميدان التحرير ولم تقطع علاقتها بمكان الثورة الأول – نفسياً على الأقل – في السنوات بعده. يسجل فيلم “أمل” والذي حصل المهرجان على عرضه العالمي الأول يوميات الفتاة المصرية على وقع الأحداث الكبيرة التي حصلت في البلد، والذي سقط مجدداً في قبضة الديكتاتورية العسكرية.
كما تُشَّكل الأفلام التي سجلت يوميات عنيفة للغاية من الحرب السورية المُتواصلة والتي يقف ورائها سوريون غامروا بحياتهم وقتها لتوثيق ما يحدث في مدنهم، اتجاهاً آخر في مجموعة الأفلام العربية التي وقع عليها اختيار المهرجان الهولندي. إذ حصل المهرجان في هذا الاتجاه على سبق العرض العالمي الأول لفيلم “سقوط حلب” (أحد أفلام برنامج بانوراما) للمخرج النرويجي السوري “نظام نجار” الذي ترك النرويج وتوجه إلى سوريا ليصور أسابيع من الحرب السورية. كما يُعرض وللمرة الأولى عالمياً في قسم مسابقة الأفلام التسجيلية المتوسطة الطول فيلم السوري “أسامة غانوم” “الحجار السود”، الذي سجل فيه عاملين في إحدى مستشفيات مدينة حمص السورية بعض ما مرَّ عليهم من أهوال أثناء حصار المدينة من قبل قوات النظام السوري. وفي الشأن السوري نفسه وصل فيلم “يوم واحد من حلب” للمخرج “علي الإبراهيم” إلى مسابقة الأفلام القصيرة في المهرجان. يوثق الفيلم يوماً واحداً من أيام المدينة أثناء اشتداد المعارك فيها.
تُعرف الدورة الثلاثين من مهرجان “إدفا” بموجة من الأفلام التسجيلية التي تحمل توقيع مخرجين ومخرجات من القارة الأوروبية، والذين يحاولون مع شخصيات عربية استرجاع وترتيب وقائع أحداثاً عاصفة من الثورات العربية الأخيرة. تعيش هذه الشخصيات العربية اليوم في أوروبا، وأصبحت قادرة وبعد مضي بعض الوقت من زمن الأحداث التي شهدتها على استعادتها. فيعرض في هذا الاتجاه وفي مسابقة الأفلام التسجيلية الهولندية فيلم “غريب يأتي إلى المدينة” للمخرج الهولندي “توماس فرويج”، والذي يرتكز على مقابلات مع أربع شخصيات من مدينة حلب السورية للحديث عما حدث في مدينتهم، مُسجلاً في الآن نفسه هواجس الشخصيات وخوفها وآمالها لمدينتها الأولى. كما يعرض ضمن برنامج “DocLab” فيلم “أصداء داعش” للمخرجة الهولندية “تيسا لويز باوب”، التي تجمع اثنتي عشرة شخصية عربية وهولندية تضرروا بشكل مباشر من صعود التنظيم الإرهابي للحديث عن تجاربهم وخساراتهم.
وعلى صعيد السينما التسجيلية التي تتناول حياة اللاجئين وصعوبات الحياة في البلدان الجديدة، يعرض في المهرجان مجموعة من الأفلام منها: الفيلم القصير “شعر أحمد” للمخرجة الهولندية “سوزان كوينن” (في قسم برنامج المدارس) والذي يرافق صبي سوري اسمه “أحمد” يحاول أن يبدأ صداقات جديدة في مدرسته في مدينة هولندية صغيرة حيث يعيش، وفيلم “وطني” للمخرج الألماني “مارسيل ميتلسيفن” والذي يسجل ثلاث سنوات من حياة عائلة سورية من حلب، وطريقها في الهروب من بلدها الذي مرَّ في تركيا وانتهى في ألمانيا حيث تعيش اليوم، والفيلم القصير “رسائل إلى أس” للمخرجة السورية “ليلى أبيض”، التي تجمع فيه مقاطع من الرسائل المصورة التي كانت ترسلها من محل إقامتها في “سويسرا” إلى صديقتها في “سوريا”.
تبدل انطباعات
إلى جانب الأفلام العربية الحديثة، خصص مهرجان “إدفا” السينمائي الدولي تظاهرة للسينما العربية أطلق عليها اسم: “تبدل انطباعات: العالم العربي” (Shifting Perspectives: The Arab World) جمعت مجموعة من الأفلام التسجيلية المهمة التي سبق عرضها في السنوات العشر الأخيرة، وأفلام تسجيلية عربية مؤسسة من فترات زمنية سابقة. فمن أجواء التيه السوري المتواصل اختار المهرجان لهذه التظاهرة أفلام: “على حافة الحياة” للمخرج السوري الشاب “ياسر كساب” الذي يسجل بسوداوية كبيرة الأوقات التي قضاها مع زوجته في “تركيا” بعد هروبها من “حلب”، وفيلم “طعم الإسمنت” للمخرج “زياد كلثوم”، وهو رحلة صورية شعرية أخاذة في عوالم المبعدين السوريين في “لبنان”.
ومن الأفلام العربية الحديثة التي سيعرضها المهرجان: فيلم “القاضي” للمخرجة “إريكا كوهين” (قسم بانوراما) عن أول قاضية شرعية في “فلسطين” المحتلة اسمها “خلود الفقيه”، وفيلم “صائد الأشباح” للمخرج الفلسطيني “رائد أنتوني” الذي يعيد مع سجناء فلسطينيين سابقين تمثيل وقائع من الفترات التي قضوها في السجون الإسرائيلية، وفيلم “بلدي: العراق سنة صفر” للمخرج العراقي المقيم في فرنسا عباس فاضل، الذي سجل وعلى طوال سنوات طويلة صدى الأحداث الكبيرة في “العراق” بعد سقوط نظام “صدام حسين” عام 2003. كما سيعرض في المهرجان جديد المخرج اللبناني “أكرم الزعتري” والذي يحمل عنوان”في التصوير الفوتوغرافي، السلب أوقات الصراع”. والفيلم الأخير هو استكمل لجهود المخرج اللبناني في جمع شتات ذاكرة صورية عربية.
هناك في المهرجان الهولندي حصة أيضاً لكلاسيكيات السينما العربية التسجيلية، فيعرض للمخرج السوري الراحل “عمر أميرلاي| فيلمين هما: “طوفان في بلاد البعث” (2003) ومصائب قوم (1982)، ولابن جيله المخرج السوري “أسامة محمد” اختار المهرجان فيلم “خطوة خطوة” (1978)، وفيلم “العذراء والأقباط وأنا” للمخرج المصري “نمير عبد المسيح” (2012). ويعرض في قسم بانوراما فيلم المخرج الجزائري “مالك بن إسماعيل” “الصين لاتزال بعيدة” (2008)، عن أول فرنسيين مدنيين يقتلان في حرب التحرير الجزائرية (انتقى مهرجان “إدفا” خمسة أفلام متنوعة عن حرب التحرير الجزائرية في دورته لهذا العام). كما سيعرض في تظاهرة السينما العربية فيلم المخرج الفلسطيني “مهدي فليفل” “عالم ليس لنا” (2012)، والذي يبدأ من ذاكرته الذاتيّة عن مخيم الفلسطينيين الذي عاش فيه في “بيروت”، متناولاً بعدها الحياة في المخيم نفسه بعد عدد من السنوات والخيبات.
تتنوع موضوعات الأفلام العربية الأخرى التي اختيرت في تظاهرة العالم العربي، إذ يستعيد فيلم “حرب أهلية” (2002) للبناني “محمد سويد” الحرب الأهلية في بلده بعد عشر سنوات على توقفها. في حين تحاسب المخرجة الهولندية المغربية “فاطمة جبي وزاني” في فيلمها الصادم “في منزل والدي” (1997) والدها المغربي الذي تخلى عن والدتها ورجع إلى “المغرب” بعد سنوات من العيش في هولندا. وهناك رحلة عاطفية مشابهه قامت بها المخرجة اليمنية البريطانية “سارة إسحق” في فيلمها “بيت التوت” (2013) لتلك لزميلتها المغربية، إذ ستعود المخرجة التي ولدت من زواج بين يمني وأسكتلندية إلى بلد والدها لوصل العلاقات التي تقطعت بينها وبين شق عائلتها العربي.